العمق التاريخي والافاق المستقبلية


عند الحديث عن فكرة الدولة الحضارية الحديثة، ارجو ملاحظة العمق التاريخي والافاق المستقبلية للفكرة، وعدم حصر الذهن المتلقي بالقيود الزمانية والمكانية المحيطة بالعراق الان تحديدا. الفكرة تتعلق بتطور الانسان في الارض كلها منذ الاف السنين. انا اتحدث هنا عن تاريخ الانسان العاقل منذ ظهوره قبل حوالي ٢٠٠ الف سنة وعن مستقبل الانسان لفترة قد تكون اطول من التي مضت. الفكرة اذاً اوسع من المساحة الجغرافية للعراق، واطول من فترة السنوات ال ١٧ او الخمسين سنة، او حتى المئة سنة الاخيرة من تاريخ العراق. ومن هنا جاءت صياغة المركب اللغوي الثلاثي: الدولة الحضارية الحديثة. 

فالدولة ظاهرة "مدنية" ظهرت بعد خروج البشرية من "حالة الطبيعة" البدائية الفطرية، كما وصفها هوبز وغيره، الى "حالة المدنية" المتقدمة والمتطورة. وكان ظهورها تاكيدا للخط التقدمي التطوري التراكمي في مسيرة الانسان وتاريخ البشرية وتجسيدا لسعي الانسان من اجل تطوير حياته وتحسين شروطها وظروفها. ومنذ ظهور دول المدن الاولى في وديان الانهار، في وادي الرافدين، والنيل، والسند، وغيرها، قبل حوالي ٥٥٠٠ سنة، والانسان يواصل تطوير هذه الظاهرة، اي الدولة. ولم يمنع سقوطها في مكان، ان تظهر في مكان اخر.فالانسان هو الانسان، والارض هي الارض. والدولة هي نتاج تفاعل الانسان مع الارض، بالعلم والعلم، عبر الزمن. وهذه هي عناصر المركب الحضاري الخمسة. ومن هنا جاء قولنا المتكرر من ان الدولة الحضارية الحديثة اتجاه تاريخي عام. 

والدولة الحضارية الحديثة تقوم على خمس ركائز للبناء هي: المواطنة والديمقراطية والقانون والمؤسسات والعلم.

والحضارية، من الحضارة والتحضر، هي اشارة الى المركب الحضاري ومنظومة القيم العليا الحافة بعناصره الخمسة. والقيم هي مؤشرات السلوك العليا المتعلقة بكل مفردات الحياة بما فيها العناصر الخمسة للمركب الحضاري. وهي لا تشير الى حضارة بعينها، وانما تتعلق بالحضارة الانسانية بوصفها حضارة واحدة ذات مصاديق متعددة. ولسنا نتحدث هنا عن صراع الحضارات، وانما عن تكاملها. ومنظومة القيم العليا، حالها كحال الانسان نفسه، نتاج التطور الطبيعي للانسان. ومنذ البداية كانت القيم موضوعا للتطور والتكامل. وقد لعب الدين، ومازال، دورا كبيرا في بناء منظومة القيم، بل في تشييد الحضارة الانسانية نفسها بمصاديقها المختلفة. ولسنا نعرف حضارة نشأت بعيدا عن الدين، سماويا كان ام وضعيا. وتوصلت البشرية، بعد مخاضات عسيرة، الى شبه الاجماع على منظومة قيم سجلتها في الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام ١٩٤٨ ووثيقة اهداف التنمية المستدامة عام ٢٠١٥.

والدولة الحضارية الحديثة تمثل افضل اطار دستوري ومؤسساتي لتفاعل عناصر المركب الحضاري المنتج للرفاهية والسعادة والحياة الكريمة.

والحديثة تشير الى مواكبة الدولة الحضارية لعصرها. فلئن كانت "الحضارية" تشير الى منظومة القيم العليا الحافة الحافة بالمركب الحضاري، فان "الحديثة" تشير الى الارتباط بروح العصر. فلكل عصر حداثته، والدولة الحضارية الحديثة تجسد حداثة عصرها. واذا كانت روح العصر تتمثل اليوم بالانفتاح والتفاعل والتكامل الحضاري، فان العلم الحديث هو المحور المركزي لحداثة العصر الراهن. وهو علم تجاوز هندسة اقليدس و فيزياء نيوتن عبر بوابات نسبية اينشتاين ونظرية الاوتار والنانوتكنولوجي وغيرها من البوابات الحديثة. 

ولهذا فان الدولة الحضارية الحديثة تحرص على ان يكون نظامها التعليمي/ التربوي مواكبا للعلم الحديث وفتوحاته المتواصلة، كحرصها على توظيف التكنولوجيا في نظامها وهيكلها الاداري. 

اليوم اصبحت د ح ح ظاهرة عالمية عابرة للحدود والقوميات والاديان والاوطان. مجتمعات كثيرة تتطلع الى قيام هذه الدولة في بلدانها. و "الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره"، كما قال انجلز. 

 

يتبع حين تنظر الى العراق وافغانستان وغيرهما من الدول المشابهة، لا تستطيع ان تمنع نفسك من الانقباض والشعور باليأس والكآبة، فاوضاع العراق، على اقل تقدير، في غاية السوء والتدهور والبؤس، ولا داعي لزيادة حزن العراقيين بالحديث مفصلا عن اشكال معاناتهم منذ عام ١٩٦٨ الى الان على الاقل. لكن لو امتثلنا للقران الكريم وهو يقول لنا:"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ"، لربما تغيرت حالتنا النفسية، فالنظر الى الواقع من زاوية جغرافية اوسع وتاريخية ابعد تعطينا صورة مختلفة. جغرافيا اقصد الكرة الارضية كلها، وتاريخيا اقصد على الاقل ال١٢ الف سنة الاخيرة من تاريخ البشرية. فالصورة بهذا الاتساع والبعد تختلف تماما. 

ثمة طريقتان للنظر الى المستقبل: الطريقة المتشائمة والطريقة المتفائلة. 

الطريقة الاولى لا ترى في المستقبل املا  بواقع افضل من الحاضر. فالواقع في حالة تدهور مستمر من سيء الى اسوأ. وتنتعش هذه الرؤية في اوقات الازمات، والطريق المسدود، وانعدام الثقة بتحقيق اي شيء ايجابي. ولا نجد صعوبة في القول ان شريحة كبيرة من العراقيين تتبنى هذه النظرة. 

الطريقة الثانية  ترى ان المستقبل سيكون افضل من الحاضر. ولدينا نظرتان، على الاقل، بهذه الطريقة. النظرة الماركسية، والنظرية القرانية.

تقسم الماركسية التاريخ البشري الى خمس حقب تجسد التطور والتقدم المستمرين في حياة البشرية، لتكون المرحلة الاخيرة هي مرحلة المجتمع الشيوعي الاخير حيث ستختفي الطبقات، ويختفي معها الصراع الطبقي والحاجة الى الدولة، ويقوم المجتمع الجديد الذي ينظم عملية الانتاج على اساس الحرية والمساواة  بارسال الدولة الى "متخف العاديات بجانب المغزل البدائي والفأس البرونزية"، كما كتب انجلز عام ١٨٨٤. 

قبل الماركسية، كان القران يتحدث عن مجتمع جديد، موعود يختفي فيه الخوف ويتحقق فيه الاستخلاف الرباني كما في سورة النور الاية (٥٥)، حيث تقول: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ." وكانت هذه الاية وامثالها الاساس القراني لنشوء عقيدة المهدوية التي تتحدث عن مرحلة اخيرة في مستقبل البشرية يسود فيها العدل والمساواة والرخاء في "مجتمع معصوم"، كما وصفه المرجع الشهيد السيد محمد الصدر في "اليوم الموعود".

ودراسة التاريخ تؤكد صحة النظريتين من حيث الجوهر، اي المسيرة التقدمية للبشرية، فمحطات التاريخ تؤكد ان البشرية في حالة سير تقدمي نحو الامام، نحو الافضل. فرغم كل النكبات والانكسارات والتراجعات هنا وهناك، الا ان المحصلة النهائية لسير البشرية على مستوى التاريخ والجغرافية، محصلة ايجابية تطورية تراكمية. وهذا هو الذي فهمه الشهيد محمد باقر الصدر من الاية ( ٦ ) في سورة الانشقاق في القران الكريم التي تقول:"يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ".

واستنادا الى هذه النظرة الاستقصائية لسير البشرية صار بامكاننا ان نقول ان سير البشرية نحو الدولة الحضارية الحديثة يمثل اتجاها تاريخيا عاما، وقد اعتبر الصدر ان "الاتجاهات التاريخية العامة" هي النوع الثالث من سنن التاريخ، اضافة الى النوعين الاخرين وهما: السنن الشرطية والسنن الحتمية. 

ومع ظهور المؤسسات التي تقيس نواحي التطور في مجالات الحياة المختلفة، اصبح بامكاننا القول: ان الدولة الحضارية الحديثة تمثل اتجاها تاريخيا عاما قابلا للقياس. 

ولما كان المجتمع العراقي جزءً من المجتمع العالمي المحكوم بهذا الاتجاه التاريخي العام، فليس هناك ما يمنعنا من تخيل امكانية ان يلتحق المجتمع العراقي  بالمسيرة البشرية العامة نحو الدولة الحضارية الحديثة، سواء كانت مقدمة لزوال الدولة كما يتوقع انجلز، او مقدمة لقيام الدولة المهدوية، كما يتنبأ القران. فعلى كلا الاحتمالين، فان المستقبل وردي وليس رماديا.