نظرية لكل الاشياء



لايمكن الحديث عن اصلاح جانب من جوانب الدولة او المجتمع او الفرد دون ملاحظة اصلاح الجوانب الاخرى، لان الفرد والمجتمع والدولة تجمعهم شبكة معقدة من العلاقات والتأثيرات المتبادلة، بحيث تجعلهم "كالجسد الواحد، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، كما في الحديث المروى عن النبي محمد صلى الله عليه واله وسلّم.
يعاني العراق، مثلا، من مشكلة الكهرباء منذ عقود. ولم تنفع كل النداءات والدعوات والاحتجاجات في حل هذه المشكلة. 
يربط بعض الناس المشكلة بوزارة الكهرباء، وهي الوزارة المسؤولة عن هذا الامر. ومن الطبيعي ان يقع اللوم عليها بالدرجة الاولى. هذا في النظرة الاولية التجزيئية لظواهر الدولة والمجتمع واسبابها وطرق معالجتها. 
لكن بالنظرة الكلية المستوعبة لكل الاسباب والعوامل يتضح ان المشكلة مرتبطة بتوليد (انتاج) الكهرباء، وتوزيعها، واستخدامها، وجباية اجورها، وسلوك المواطن في استهلاكها، والميزانية، واليات الصرف المعتمدة، والعلم، والتكنولوجيا، والقرار السياسي، والعلاقات الخارجية، وقائمة لا تنتهي من الاسباب والعوامل الداخلة في الموضوع.
وكذا الامر بالنسبة للبطالة. فالامر لا يقتصر على توظيف خريجي الجامعة، مثلا،  في دوائر الدولة المختلفة لان الامر مرتبط بالتكامل بين احتياجات المجتمع ومخرجات الجامعة، والسياسة التعليمية، والنظام الاقتصادي، والتكامل بين الدولة والقطاع الخاص، واستثمار الارض، وقائمة لا تنتهي من العوامل الداخلة في الموضوع. 
وكذا الامر بالسلوك الانتخابي للمواطن، وبغيره من المشاكل التي يعاني منها المجتمع.
وكل هذه المشاكل لا يمكن معالجتها بقرارات واجراءات فوقية و تجزيئية، وان امكن لبعض هذه الاجراءات ان تشتغل لفترة قصيرة لكنها غير مثمرة وغير مستديمة على المدى الطويل. 
تحتاج كل مشاكل الافراد والمجتمع والدولة الى نظرة او نظرية كلية جامعة، والى علم صحيح، يوفران وعيا عميقا للمشكلات من جهة، وارضية صالحة لاتخاذ قرارات واجراءات صائبة لحل هذه المشكلات وصولا الى الاصلاح الشامل للفرد والمجتمع والدولة، من جهة ثانية. 
ولا يتم هذا الا من خلال نظرية او فكرة "جامعة لكل شيء"، كما يقول الفيزيائيون الباحثون عن مثل هذه النظرية لفهم وتفسير كل ظواهر الكون والحياة. وفي حالتنا السياسية-الاقتصادية-الاجتماعية فليس لدينا سوى فكرة الدولة الحضارية الحديثة التي توفر وعيا عميقًا لكل قضايا المجتمع والدولة وتوفر الاساس النظري الصالح لاقتراح الحلول العلمية لهذه القضايا. 
فهذا المصطلح او التركيب اللغوي الثلاثي، يجمع بين طياته ومفرداته كل خيوط الاصلاح المجتمعي الشامل انطلاقا من بناء الانسان وصولا الى بناء الدولة مرورا بمعالجة مشكلة التخلف الحضاري التي هي ام المشاكل التي تعاني منها المجتمعات المتخلفة. 
فالدولة كلمة لا تقتصر على الحكومة وانما تشمل  الارض والشعب والحكومة، وفي حالة الدولة الحضارية الحديثة فهي ترتكز على المواطن والديمقراطية والقانون والمؤسسات والعلم الحديث.
وكلمة الحضارية تشير الى المركب الحضاري ومنظومة القيم العليا الحافة بعناصره الخمسة وهي: الانسان والارض والزمن والعلم والعمل.
وتشير كلمة الحديثة الى الانفتاح الحضاري والتفاعل والتكامل وروح العصر والعلم الحديث. 
ولتكرار العلم في المفردات الثلاثة دلالة مهمة على طبيعة الحلول التي تتضمنها وتقترحها فكرة الدولة الحضارية الحديثة. 
ولا يصعب على المرء ان يلاحظ ان هذه الفكرة تستوعب كل المفردات الداخلة في عملية اقامة دولة حضارية حديثة وتشكيل مجتمع حسن التنظيم وتنشئة مواطن صالح فعال. ومن شأن كل هذا ان ينتج حكومة كفوءة، وجهازا تنفيذيا قادراً على حل مشكلات المجتمع وتوفير الخدمات ومنها الكهرباء والماء الصالح للشرب والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي والتعليم وفرص العمل ورفع الانتاجية والعدالة وتيسير الحياة ورفع مستواها وغير ذلك مما نشاهده في بعض المجتمعات التي صعدت درجات في سلم الدولة الحضارية الحديثة.