السكر المالح


"حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ" 
"أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ"
تعالج هاتان الايتان من القران الكريم حالة سلبية مرضية تصيب المجتمع، وهي اليأس الجماعي من الوضع الراهن والقبول باي وضع بديل مهما كان. 
وهو مرض اصاب المجتمع العراقي في زمن صدام، وهو بعثي عربي علماني، حين بلغ طغيانه درجة وصل معها الناس الى اليأس من امكانية تغييره واسقاطه، فصاروا يقولون: نقبل باي حاكم شريطة ان يخلصنا من صدام. وسمعت من يقول حتى لو كان شارون (رئيس الوزراء الصهيوني في وقتها).
واسقطت الولايات المتحدة صدام حسين، وتولى الحكم بعده "الاحزاب"، وفيها الاسلامية والعلمانية، الشيعية والسنية، والكردية وغيرها ضمن نظام المحاصصة، باسم الديمقراطية.ولما لم تحقق الاحزاب للعراقيين ما كانوا يأملونه، كفر الناس بالاحزاب والديمقراطية، واخذ بعضهم يتمنى مجيء حاكم "دكتاتور" مع اضافة وصف "عادل" اليه. وهكذا تموّج الوعي السياسي في العراق بين الدكتاتورية الصدامية العلمانية، الى المحاصصة الحزبية المختلطة، الى الدكتاتور العادل الذي لا يعتقد ان يكون اسلاميا، فهو للدقة والامانة دكتاتور علماني عادل. 
وفي الحالتين يقع الوعي السياسي العراقي، او لنقل العقل السياسي العراقي على مستوى الجمهور، في نفس الخطأ. وهى الاستعداد لتقبل اي بديل للوضع القائم البائس، بدون التشديد على المواصفات السليمة في البديل. بهذا يختلف العقل السياسي العراقي عن مثيلة الانكليزي والفرنسي والاميركي، حين ثارت هذه الشعوب وكان الهدف اقامة دول او انظمة حكم يتمتع فيها الناس بالحرية والعدالة والمساواة، وتاليا بالرفاهية والسعادة. وكأن العقل السياسي العراقي على مستوى العامة لا يتقدم على الوضع البائس ولا يتصور وضعا افضل منه، او كأن هذا العقل لا يرى ان من حق المواطن العراقي ان يتمتع بالحرية والمساواة والعدالة والرفاهية والسعادة. وهذه كلها امور تضمنها وتحققها دولة حضارية حديثة تقوم على اساس المواطنة والديمقراطية والقانون والمؤسسات والعلم الحديث ومنظومة القيم العليا الحافة بالمركّب الحضاري للمجتمع، وعناصره الخمسة، اي: الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل.
يطالب بعض الناس اليوم بحاكم دكتاتوري عادل يخلصهم من المعاناة التي تحيط بهم من كل جانب. وهذه امنية لا مصداق لها،  لكنهم يقعون في الخطأ، بل الوهم، حين يترأى لهم ان حكاما "دكتاتورين عادلين" حققوا ما تتطلع اليه شعوبهم. وهي امنية ليست بالجديدة، كانت تلجأ اليها شعوب اثينا وشعوب روما قديما لاسباب معينة. كما ان للامثلة المعاصره ظروفها الخاصة التي لا يمكن القياس عليها.والقياس هنا غير تام كما يقولون. ناقش بعض المفكرين، مثل جون ستيوارت مِل، من قبل مقولة "المستبد العادل" واثبتوا خطأها وعدم وجود سابقة تاريخية يصح الاستدلال بها. فلا اعيد حججهم وادلتهم، لكني اكتفي بالقول ان عبارة "المستبد العادل" تنطوي على تناقض داخلي يجعلها غير صحيحة. فالاستبداد بحد ذاته قبيح وينطوي على ظلم كبير، بل هو اعتداء صارخ على اهم حق منحه الله (او الطبيعة) للانسان وهو "الاستخلاف"، اي حق الانسان بحكم نفسه بنفسه، وهو حق ينطوي على الايمان بالحرية الطبيعية للانسان. ان من يقبل بحكم "المستبد العادل" الوهمي انما يتنازل طواعية عن حقه بالسيادة والاستقلال والحرية وحق تقرير المصير. وما قيمة الخبز اذا فقد الانسان كل هذه الامور؟ من يطلب "المستبد العادل" كمن يبحث عن "السكر المالح"، ولن يجده!