«تحولات استراتيجية» .. النظام العالمي والتعددية القطبية.


واجه النظام العالمي حتى وقت قريب، جنوحاً أمريكياً غير مسبوق، تمثل باستخدام القوة أو التهديد بها، في كافة الأزمات والصراعات الدولية. فقد تمثلت السياسة الأمريكية بمضامينها وعناوينها العريضة، بقطع كافة الطرق على أي مفاوضات، أو تدويل للأزمات، إلا فيما يتعلق بخدمة استراتيجيتها، وكانت السمة الأبرز في ذلك، التفرد الأمريكي بالقرارات، حتى تلك المتعلقة بمصالح شركاؤها التقليدين. ضمن ذلك، فإن بالسياسات الأمريكية اعتمدت نموذج السيطرة الإستعمارية، وفرض الرؤى والقرارات، دون أن تدرك أن مسؤولية القيادة الدولية تتطلب الفهم العميق للمشاكل والأزمات الدولية، والمشاركة الإيجابية في حلها بتحجيم الأزمات لا خلقها، وتلك إشكالية متعاظمة لانعكاساتها على كافة الشؤون الدولية. في جانب آخر، فإن مفهوم القيادة الأميركية لعالم يواجه إشكالية معرفية لدى الإدارات الأميركية، لكون هذا المفهوم ينحصر في القدرة الأميركية على ضمان المصالح القومية، وهو مأزق إستراتيجي خطير وقعت فيه الولايات المتحدة في ممارستها لدور الفاعل الوحيد، والمنظم الرئيسي للعلاقات الدولية.

ربطاً بما تقدم، فإن التحليلات السياسية ومثلها الدراسات الإستشرافية، مزجت بين التفاؤل المفرط والتشاؤم، حيال الوضع الدولي بعموم جُزئياته، لكن التعمق في مشهد النظام العالمي الجديد، فأنه يتجلى لنا وبشكل واضح، أن النظام الدولي يمر بمرحلة انتقالية. هي مرحلة لم تعد من خلالها الولايات المتحدة، صاحبة التفرد بالقرارات الدولية. فاليوم هناك قوى كبرى تنافس الولايات المتحدة على إدارة النظام الدولي، مع المراهنة على صعود نجم الصين من ناحية، والوحدة الأوروبية، وعودة روسيا لتلعب دورها على الساحة الدولية من جديد، من ناحية أُخرى.

في جانب موازٍ، ثمة قناعة راسخة لدى غالبية مراكز الأبحاث الإستراتيجية، بأن النظام العالمي الذي تبلورت عناوينه عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، لن يتمكن من المحافظة على أُسسه القديمة، وأن هناك مؤشرات تُنبئ بأفوله، إلى أن جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لتوضح بجلاء علامات الانهيار المرتقبة منذ عقود طويلة.

في العمق، فأنه خلال العقود التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، أصبح النظام العالمي محكوماً بدور أمريكي صِرف، الأمر الذي لم يوافق التطلعات الإستراتيجية لكلٍ من روسيا والصين، وهما الدولتان اللتان استثمرتا عقوداً من انشغال الولايات المتحدة الأميركية في حروب تقليدية ثانوية في الصومال وكوسوفو والعراق وأفغانستان، حماية لمصالحها الحيوية في العالم، وما يُسمى نشر الديمقراطية، الأمر الذي استنزف قدراتها، بالتوازي فقد عملت موسكو وبكين على الاستفادة من انفتاح العالم عليهما، في بناء أسس لكيانات اقتصادية وعسكرية راسخة، مع الإبقاء على نُظم تقف على النقيض مع النظام الغربي.

وعلى الرغم مما يبدو من أن النظام العالمي ما زال تحت إمرة أميركا، إلا أن مكونات التعددية القطبية والفرز المتعاظم بين القوى الغربية وغيرها بات واضحاً، وتضاعف الضغط على القيادة الأميركية للنظام العالمي، وتزايدت أعداد الدول التي تتحدى القيادة الأميركية، خاصة أن سياسات واشنطن المتعددة، وأولوياتها الإقليمية والدولية المتشابكة، أضعفت واشنطن وحلفاؤها على السواء. صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال تمتلك مصادر القوة العسكرية والإقتصادية، لكن الصحيح أيضاً، بأن السياسات الأمريكية خلال العقود الماضية، قد عززت مواقع خصومها إقليمياً ودولياً.

العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، كانت سبباً في بلورة مشهدية جديدة للنظام العالمي، لا سيما أن جوهر الاستراتيجية الروسية، يرتكز على محددات تسعى لوقف تمدد حلف شمال الأطلسي باتجاه المجال الحيوي لروسيا، وفي المقابل، فإن واشنطن استشعرت الخطر الروسي المُهدد للهيمنة الأمريكية، فأوعزت لشركاؤها الأوربيين، لتوحيد صفوفهم، وتفعيل سلاح العقوبات الإقتصادي، في محاولة لإضعاف روسيا. لكن ثمة إشكالية عميقة تهدد النظم الأوروبية، جراء استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، الأمر الذي يُهدد بتصدع التحالف الغربي، نظراً إلى كلفته العسكرية والسياسية والمالية الهائلة.

إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، تسعى للإبقاء على زخم التحالف الغربي ضد روسيا. نتيجة لذلك، تقوم الولايات المتحدة بتعزيز حلف شمال الاطلسي، عبر ضم المزيد من الدول. لكن في مقابل المساعي الأمريكية، ثمة معادلات روسية وصينية، وضمناً القوى المناهضة للسياسات الأمريكية، بدأت تطفو على السطح لبناء تحالفات جديدة، تكون نداً للأمريكي، وتقوم بتحييد التفرد الأمريكي بالقرارات الأممية والدولية.

بات واضحاً، أن خطاب الانفراد في القيادة الأميركية، مثل أن أميركا تقف شامخة وترى ما هو أبعد في المستقبل من دون الدول الأُخرى، لم يعد مقبولاً، لدى شركاء واشنطن. وعليه يمكن القول استناداً إلى ما سبق، أن الولايات المتحدة، وعلى الرغم من امتلاكها مفاتيح القوة، وسعيها لتجحيم القوى العظمى، إلا أنها لم تستطع أن تؤسس نظاماً أحادي القطبية، بل إن ممارسات العقدين الماضيين قد أسست للانفراد بالقوة خارج النظام العالمي، الأمر الذي سيفرز نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب، جوهره إتفاق وإجماع الدول، على مأسسة نظام عالمي جديد، وذلك ليس سعياً فردياً من هذه الأقطاب، بل باتفاق دولي على تقاسم المسؤوليات الدولية، فمن المستحيل أن يستمر النظام الدولي خاضعاً لقوة واحدة، ومن الاستحالة أكثر إخضاعه بالقوة.