ارتفاع الأسعار وغضبة الحرافيش !!
ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي نستلهم فيها كتابات أديبنا العالمي نجيب محفوظ, والتي استخدم فيها رمزية عالية في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية, وهو ما جعلها صالحة للإسقاط على الواقع الاجتماعي والسياسي المصري في غير زمانها, وبما أن أدب نجيب محفوظ كان مغرق في المحلية إلى أبعد مدى, خاصة حال المجتمع المصرى منذ مطلع القرن العشرين وحتى منتصفه, فقد ركز على الحارة المصرية باعتبارها نموذج حي للتفاعل الاجتماعي يحاكي الحالة العامة للمجتمع المصري, وكان دائما يصور الحاكم على أنه فتوة الحارة, بينما الغالبية العظمى من سكان الحارة هم الحرافيش الذين يقوم الفتوة بحمايتهم واستغلالهم أحياناً وقهرهم في أحيان أخرى, ودائما ما كان يبرز حالة الصراع على لقب فتوة الحارة أو فتوة الحرافيش على أنه صراع على السلطة.
ودائما تكون حالة الصراع بين الفتوات بعيدة كل البعد عن الحرافيش فهم دائما متفرجين ولا يقومون بفعل إيجابي إلا نادرا كما يوصفهم عالم الاجتماع السياسي الإيطالي فيلفريدو باريتو, فهم يقفون ليشاهدوا حالة الصراع والمنافسة والنزال بين الفتوة القديم والفتوة الجديد وعندما ينتصر إحداهما على الآخر يقفون في صفه ويهتفون بحياته, ولم يقدم محفوظ الحرافيش ثائرون إلا نادراً فهم لا يثورون إلا عندما يفيض بهم الكيل ويزداد القهر والظلم والاستبداد ويصلون إلى الموت جوعاً, هذه الصورة التي قدمها محفوظ للحرافيش صحيحة إلى حد كبير فهم لا يثورون بسهولة, لكنهم عندما يثورون فلا يستطيع أحد إيقافهم, حيث يتحولون إلى شلالات هادرة أو طوفان أو بركان يصعب السيطرة عليه, ولعل خروج المصريين في 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 خير شاهد وخير دليل على ذلك.
هذه الصورة الأدبية الواقعية التي جسدها نجيب محفوظ في غالبية أعماله واستحق بها الوصول للعالمية والحصول على جائزة نوبل يمكن الاسترشاد بها وأخذ العبرة منها, إذا ما حاولنا تطبيقها على واقع المجتمع المصري فيما بعد محفوظ وحتى الآن, فالغالبية العظمى من المصريين من الفقراء الذين يمثلون في روايات نجيب محفوظ الحرافيش ظلوا صابرين على الفتوة أو الحاكم حسني مبارك وحكوماته التي ظلت تابعة للمشروع الرأسمالى الغربي لمدة ثلاثة عقود كاملة أفقرت خلالها الغالبية العظمى من المصريين بفعل السياسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي انتهجتها والتي أدت إلى زيادة الفرز الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء, حيث الأغنياء يزدادون غنى وثراء فاحش والفقراء يزدادون فقراً وجوعاً ومرضاً, وتحت هذا الضغط الرهيب طفح الكيل وخرج الحرافيش في 25 يناير على شكل شلالات بشرية أو طوفان بشرى أو بركان بشرى لم يتمكن معه مبارك ونظامه ومؤسساته وأجهزته الأمنية الصمود كثيراً فطالبوه بالرحيل هو وحكومته وقد كان.
وكانت مطالبهم محددة فالحرافيش تاريخياً لا يطالبون إلا بالعيش, فأضاف عليها أبناء الشرائح الطبقية الوسطى الحرية والعدالة الاجتماعية لتكتمل الصورة, وعاد الحرافيش لبيوتهم منتظرين من الفتوة الجديد أن يوفر لهم العيش فقد أوصلهم الفتوة القديم إلى حد الموت جوعاً, وجاء الفتوة الجديد وأعلن أنه يحكم بشكل مؤقت لحين انتخاب فتوة جديد لذلك صبر عليه الحرافيش بحكم المرحلة الانتقالية, وجاءت لحظة الانتخابات وقام الحرافيش بتأييد الرجل البركة محمد مرسي الذي رفع شعارات دينية ليوهم الحرافيش بأنه سيكون في صفهم وسيحقق مطالبهم في العيش وبالفعل نجح وأصبح الفتوة رسميا, وظل الحرافيش ينتظرون تحقيق مطالبهم لكنه أصر على السير وفقاً للنهج الاقتصادي للفتوة القديم, وبدأت أحوال الحرافيش تتدهور بشكل كبير وزادت معاناتهم اليومية من فقر وجوع ومرض بالإضافة لغياب الأمن والأمان فخرجوا سريعاً وتخلصوا من الفتوة وجماعته الإرهابية في 30 يونيو, وجاء فتوة جديد بشكل مؤقت وصبر عليه الحرافيش باعتباره ليس مسئولاً.
وطالب الحرافيش بسرعة انتخاب فتوة جديد وقاموا باختيار الرئيس عبد الفتاح السيسي وتأييده باعتباره المنقذ, وقدم الرجل نفسه بطريقة جيدة حيث ذكرهم بفتوتهم القديم جمال عبد الناصر الذي انحاز لهم بمشروعه الاجتماعي الذي انتصر للحرافيش وحقق لهم قدر كبير من العزة والكرامة والعدالة الاجتماعية, وأكد لهم في كل مناسبة أنه على خطى فتوتهم التاريخى, وأنه سوف يحقق مطالبهم المشروعة وسيوفر لهم العيش, وقام الرجل بالفعل بالانتصار للحرافيش في مجالات عديدة, لكن كانت دائما حكوماته ليست على مستوى طموحاته وطموحات الحرافيش, حيث ينتمي أغلب وزرائه إلى زمن الفتوة القديم, وتصر حكوماته على استمرار نفس السياسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المنحازة ضد الفقراء من الحرافيش, وعلى الرغم من الارتفاع الجنوني في الأسعار بما لا يواكب دخول الغالبية العظمى من المصريين, إلا أن الحرافيش مازالوا متمسكين بالأمل في فتوتهم الذين آتوا به وأجلسوه على مقعد الفتوة لكي يوفر لهم العيش, لذلك يجب أن يتحرك ضد رجال الفتوة القديم الذين يعرقلون مشروعه, ويطيح بهم وبسياساتهم حتى يتمكن من الانتصار للحرافيش وتحقيق مطلبهم الوحيد وهو العيش, لذلك دائما ما نردد مقولة أديبنا الكبير نجيب محفوظ " إياك وغضبة الحرافيش ", اللهم بلغت اللهم فاشهد.
Your Comment