واشنطن وشركائها الشرق أوسطيين.. المنطق الاستراتيجي المتغيِّر
يقيناً، ثمة متغيرات جوهرية على ما يمكن تسميته بالعقيدة الدبلوماسية الأمريكية، والتي اتخذت في عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، نموذجًا مختلفًا عن السياسية الأمريكية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الأمر الذي أدى إلى وضع ضغط كبير على شركاء واشنطن الإقليمين وتحديداً في الخليج العربي وكذا إسرائيل. وفي جانب أخر، فقد أدت تلك التغييرات إلى بروز تحديات عند شركاء واشنطن، أهمها كيفية التوفيق بين موجبات التحالف مع الولايات المتحدة، وواجب الالتزام بالأمن القومي لتلك الدول، خاصة أن التحالفات بين واشنطن وشركاؤها الإقليميين قديمة وثابتة، وقائمة أصلا على تبادلات متينة في مجالات التسليح والمعلومات الاستخباراتية، وغيرها من ساحات العمل المشترك، لتكون بذلك فترة رئاسة بايدن، لجهة الشركاء التقليديين للولايات المتحدة، موسومة بين إطاري، التنسيق التقليدي مع واشنطن، وتأطير الأخطار المتزايدة جراء التحولات بعناوينها المختلفة إقليميًا ودوليًا.
حلفاء الولايات المتحدة الشرق أوسطيين، باتوا على دراية بآلية السياسات الأمريكية الجديدة، واعتماداً على المنطقية في التعاطي مع استراتيجيات الإدارة الأمريكية بقيادة جو بايدن، اعتمدوا على ما يمكن تسميته بالسياسات الالتفافية، فمثلاً، لم يلجأ حلفاء واشنطن للتصادم معها جراء السعي الأمريكي لإبرام اتفاق نووي جديد مع إيران، وبدلا من ذلك، تركوا الإدارة الأمريكية تصل إلى المكان الذي تريده في الاتفاق النووي، لكن في الوقت ذاته، اعتمدوا آلية سياسية ترتكز على حماية أمنهم القوي ومصالحهم الإستراتيجية، بانتظار تطور السياسات في واشنطن. وبناء على ذلك، يُلاحظ التصعيد الإسرائيلي في سوريا ضد أهداف سورية وإيرانية، وكذا حالة التصعيد في اليمن التي اتخذتها قوى التحالف السعودي، إضافة إلى الفريق المناهض للمقاومة في لبنان، والذي اتخذ سياسات صدامية ضد حزب الله.
كل ما سبق، يعطينا فكرة واضحة، حيال حلفاء واشنطن التقليدين، والذين قرروا الصمود في مواقفهم، والاضطلاع بمهام حماية أمنهم القومي، دون التدخل بشكل مباشر في سياسات واشنطن. ورغم ذلك، فإن الإدارة الأمريكية الحالية، لا تريد خسارة هؤلاء، لأنها تدرك بأن خسارة شركاؤها التقليديين، سيكون له الأثر الكبير تجاه الرأي العام الداخلي في الولايات المتحدة، وكذا على رصيدها الدولي، خاصة في ظل حالة التسابق المحموم بين الولايات المتحدة والصين وروسيا.
في المقلب الآخر، فإن غالبية القوى الإقليمية والدولية، التي تتلقى ضمانات أمنية أمريكية، لا تؤرقها الهواجس المؤطرة حيال روسيا والصين، لجهة نظرية ملئ الفراغ الأمريكي في الشرق الأوسط، اعتماداً على الانكفاء الأمريكي من ملفات متعددة، لكن ثمة إطار قد يكون ركيزة لسيناريو تنويع العلاقات، وهندسة اصطفافات شرق أوسطية جديدة، عنوانها الرئيس الحصول على ضمانات أمنية وسياسية وعسكرية، تحقق شروطا لاستقرار طويل الأمد، نتيجة لذلك، فإن ما يسمى تحول واشنطن نحو آسيا، مقرونًا بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والتردد الأمريكي الواضح بالابتعاد عن استخدام القوة العسكرية، واستبدال ما سبق، بالعقوبات الاقتصادية، فإن ذلك كان محرضًا للشركاء الأمنيين للولايات المتحدة، إلى تنويع علاقاتهم، ومع ذلك، فباستثناء إسرائيل، يشهد اللجوء إلى روسيا والصين للحصول على الأسلحة اتجاهاً نحو الازدياد المستمر.
يُفهم مما سبق، أن شركاء الولايات المتحدة، لديهم هواجس متزايدة جراء الاعتماد على واشنطن لتوريد الأسلحة الدفاعية، وبالتالي يُفهم أن التحول إلى الأسلحة الروسية أو الصينية، يحكمه معطيين أساسيين، الأول أن القيود المفروضة على الأسلحة الروسية أو الصينية، ليست صعبة بقدر القيود التي تفرضها الولايات المتحدة، والثاني يكمن في أن التحول إلى موردين آخرين يعكس حقيقة العالم متعدد الأقطاب، والذي أصبحت فيه روسيا والصين فاعيلين ومؤثرين في نسق اتخاذ السياسيات الشرق أوسطية، وهنا لابد من التذكير بأن روسيا والصين تحكمهما علاقات اقتصادية مهمة مع دول الشرق الأوسط وتحديداً الخليج العربي وكذا إسرائيل، لا سيما في مجال الطاقة، فالصين مثلاً ، استوردت ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما استوردته الولايات المتحدة من النفط الخام من الشرق الأوسط في عام 2021.
لكن في المقابل، وعلى الرغم من التحولات الأمريكية واتساقها نحو آسيا، لا يمكن إنكار حقيقة مفادها، أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بحضور سياسي وعسكري واقتصادي في الشرق الأوسط؛ هو تأثير له فواعل وتأثيرات جمة، لكن ثمة من يقرأ تضاؤل الثقة بالأمريكي لدى شركاء واشنطن، ضمن إطار تقويض الجهود الأمريكية للرد على النفوذين الروسي والصيني المتنامي في الشرق الأوسط، وإزاء تزايد المطالب ومحدودية الموارد في المرحلة المقبلة، فإن واشنطن تدرك، بأنه يتعين عليها التصرف بحكمة أكبر في التزاماتها، وباتساق أكبر في متابعة هذه الالتزامات، خشية أن تكون ضماناتها غير مطمئنة لشركائها التقليديين.
على المدى القريب، سواء عاد بايدن إلى الاتفاق النووي مع إيران أم لا، لا يوجد التزام أمريكي في المنطقة أكثر أهمية من التعهد بمساعدة الشركاء بوجه “التهديد الإيراني المتزايد”، حتى لو لم يصل هذا التهديد إلى مستوى السلاح النووي، خاصة وأن ارتفاع أسعار النفط يمدّ المزيد من الأموال إلى خزائن إيران. ومهما كانت الصفة التي يطلقها المسؤولون الأمريكيون على التزامهم – “حازماً” أو “ثابتاً” أو “صارماً” أو أي مصطلح دبلوماسي آخر من هذا القبيل – فإن وقوف واشنطن إلى جانب شركائها القدامى هو أفضل طريقة للحفاظ على المصداقية وردع الخصوم.
ختاماً، يمكن القول بأن غالبية دول الشرق الأوسط، واستناداً إلى قراءتها حيال السياسات الأمريكية والمشهد الدولي، أن الولايات المتحدة تتجه نحو إعادة النظر في تموضعها في الشرق الأوسط، ما يجعل إعادة التقويم أمراً محتومًا، على الرغم من أن نطاق التحوّل الأميركي وحجمه والغاية منه لا تزال موضع نقاش، لكن هناك استعداد لهذا التحول من قبل حكومات بعض البلدان في المنطقة، ولكن هذا الاستعداد يترافق مع تباينات جمة، إضافة إلى الأمنيات بأن تقدّم لها أيُ أطراف جديدة تَدخُل إلى الشرق الأوسط، منافع أمنية مماثلة، إنما يقترن في الوقت نفسه بالإدراك الواعي بأن الولايات المتحدة تبقى الضامن المفضّل لها والذي لا يمكنها الاستغناء عنه.
ما يمكن استنتاجه، هو أنه غالبًا ما أخفت العلاقات الدفاعية المعقّدة بين واشنطن وشركاؤها الشرق أوسطيين، تدهورًا في العلاقات السياسية، أو حجبت المنطق الاستراتيجي المتغيّر، أو عتّمت على التحديات الأمنية غير التقليدية، وحين تتباين وجهات النظر إلى التهديدات أو السياسات المتعلقة بالتعامل مع هذه التهديدات، تبادر واشنطن دائمًا إلى إجراء استشارات دفاعية أو ما يُسمّى بحوارات إستراتيجية لتهدئة الخلافات. غير أن هذا الأسلوب الذي يُستخدَم بمثابة وسيلة للطمأنة، تسبب تفاقم المشكلات في العلاقات بين الطرفَين، من خلال الالتفاف على الثغرات الإستراتيجية والتشنجات السياسية المتعاظمة بدلًا من معالجتها.
Your Comment