هل تفهم أنقرة الرسائل، وهل نجيد كتابتها؟
ليس الاحتلال التركي للأراضي العراقية واستهدافها بالقصف وليد لحظة آنية؛ بل يمتد الى عقود منذ زمن النظام البائد حيث كان الجيش العراقي وقتها وعلى الرغم من انخراطه في حرب الثمان السنوات على الحدود الشرقية، جزءاً من اتفاق المطاردة الحثيثة مع تركيا على الحدود الشمالية لاستهداف مسلّحي حزب العمال الكردستاني مقابل ضخّ كميات كافية من المياه لبضع سنوات من قبل الجانب التركي.
الغريب في الأمر أن حكومة النظام البائد إحتضنت المعارضة الإيرانية لسنوات طويلة سواءً الكردية منها، أو منظمة مجاهدي خلق؛ لكنها لم تحتضن المعارضة التركية الكردية، ولا أي حكومة عراقية بعدها لم تقم بذلك حتى الآن، وهي أوراق ضغط قوية لأي دولة تعاني من انعدام النوايا الحميدة في علاقاتها مع جيرانها، خصوصاً وهي محاصرة في أمنها المائي، ومرتبطة بتبادل تجاري يعد الأعلى بعد الصين قوامه عشرون مليار دولار سنوياً.
أي دولة ضعيفة مفتتة لا تمتلك حكومة قوية تكون عرضة لأن يتناهش أوصال أراضيها وثرواتها الآخرون، كيف وهذه الدولة تعرضت لاحتلال غربي غاشم عام ٢٠٠٣، كانت تركيا جزءاً منه حين انطلقت الطائرات الأميركية لضرب العراق من قاعدة أنجرليك التركية وثلاثة مطارات أخرى.
كافأت الولايات المتحدة تركيا وأردوغان بالذات على هذا التعاون، إذ حصل على مليارات الدولارات والمنح وعقد عدداً من الاتفاقيات مقابل ما تقدمه تركيا للولايات المتحدة في غزو العراق وفتح مجالها الجوي واستقبال القواعد الأمريكية، وهذا هو سر النهضة الاقتصادية التركية بعد ٢٠٠٣، وسُمِح لتركيا بنشر خمسة آلاف جندي على الحدود العراقية، وكوفئ عضو البرلمان أردوغان الذي قدّم مشروع قرار يسمح لتركيا بالمشاركة في غزو العراق، وافقت عليه الأغلبية الإخوانية لكن رفضه البرلمان بفارق ثلاثة أصوات فقط، وأصبح رئيساً للوزراء في نفس العام حتى عام ٢٠١٤ حين أصبح رئيساً للجمهورية التركية.
طالت أظافر أردوغان فحاولت الولايات المتحدة في عهد ترامب تقليمها اقتصادياً ونقدياً عبر ضرب الليرة التركية، وانتحرت أميركا ترامب سياسياً وعسكرياً واقتصادياً في المنطقة والعالم فانتهزت تركيا أردوغان الفرصة لتضع موطئ قدم لها مكان كل خطوة تتقهقر فيها أميركا، ولا أقرب وأسهل من العراق وسوريا إذ كانت مخالب تركيا قد وصلت ليبيا والقرن الإفريقي وأفغانستان.
شكّل حوض غاز شرقي المتوسط عقدة مفصلية في علاقات تركيا مع أوروبا والكيان الصهيوني، كما شكّل حوض غاز وسط آسيا الأكبر عالمياً والواقع وسط بيئة ديموغرافية تركمانية، ذريعةً لأنقرة للتمدد شرقاً بحجة حماية القومية التركمانية والتواصل معها، وإحياء مجد الإمبراطورية العثمانية الغابر.
حاولت قوى غربية وإقليمية عديدة في الأعوام ٢٠١٩. ٢٠٢٠،٢٠٢١ زجّ العراق في مواجهة عسكرية مع إيران شرقاً بالنيابة؛ عبر الإتيان بحكومة موالية للغرب والقضاء على الحشد الشعبي وفصائل المقاومة، وهو الأمر الذي عجزت عنه هذه القوى بقدر عجز العراق وقواته (المسلحة) عن خوض أي حرب حالياً شرقاً أو شمالاً، وفي ظل التطورات العالمية الحالية لا سيما في المنطقة ليس من مصلحة العراق الدخول في حرب مباشَرة مع تركيا في منطقة تتصارع عليها القوى الكبرى، ويؤمّل أن تمر بها فروع طريق الحرير الى أوروبا، والتي تستقتل حكومات أربيل لاحتكار مرورها في الأراضي التي تسيطر عليها، وهذا سر من أسرار الاستقتال للسيطرة على سنجار؛ ولهذا تبقى أذرع للمقاومة الضاربة عبر الصواريخ والمسيرات، وعمليات الكرّ والفرّ هي السلاح العسكري الأنجع لمقاومة الاحتلال التركي.
إن مسألة عدم تحريك جندي عراقي واحد تجاه تركيا لا تتعلق فقط بما سبق ذكره، لكن ضعف الحكومات العراقية المتعاقبة وعدم قدرتها على الإتيان بأي مبادرة تأديبية تجاه انتهاكات أنقرة هو عامل مهم جداً مكّن الفاعل التركي من التوغل العسكري والاقتصادي وحتى الثقافي داخل العراق؛ رؤوس الأموال العراقية المهاجرة الى تركيا والمستَثمرة لشراء العقارات، وغسيل الأموال التركية التي موّلت الإرهاب في العراق، كلها أمور حدثت نتيجة تراكم الفشل الحكومي المتعاقب والأداء الأمني الهزيل لسنوات عديدة، وليس وليد عام أو عامين، حتى وصلنا اليوم الى الإقرار بأن أي مقاطعة اقتصادية شعبية للبضائع التركية هي أمر غير مجدٍ وسيثير حفيظة طبقة كبيرة من التجار والمستهلكين على حد سواء بعد إغراق الأسواق بها دون الالتفات الى البحث عن بديل مكافئ بالجودة ذاتها وبسعر منافس، وهنا لا مفر من الالتفات الى الصين، وهذا أيضاً يعتمد التوازنات الدولية، فحكومات بغداد الضعيفة جعلت واشنطن تتحكم في اختيار منشأ القميص الداخلي للمواطن العراقي إنْ كان من إسطنبول، أو شنغهاي.
تهاونت حكومات البرزانيين المتعاقبة في أربيل مع الاعتداءات التركية، ونعتقد بأن أرصدةً مصرفيةً قوامها ستة وخمسين مليار دولار في المصارف التركية واستثمارات أخرى، جديرة بأن تجعل المرء متواطئاً ربما، لا متهاوناً فقط.
لذا عادت الكرة في ملعب سياسيي بغداد وبرلمانييها، ولا يمكنهم إزاء ذلك إلا الخروج بقرار شبيه بقرار ٢٠٢٠ لإخراج القوات التركية المحتلة، وهو بطبيعة الحال لا يمتلك قوة القانون الذي لو افترضنا جدلاً أن تقدمه حكومة تصريف الأعمال اليومية، وهو فرض محال صدوره من ياقةٍ معدّلةٍ، وصوّت عليه البرلمان العراقي بالإجماع، فأطماع تركيا أكبر من أن تذعن لهذا القانون.
من سخرية الأقدار أن ذريعة مطاردة الPKK. في الأراضي العراقية بحجة كونه منظمة إرهابية كما صرّح وزير الدفاع العراقي جمعة عناد، قابلها استغراب السفير التركي علي رضا غوناي في ملتقى الرافدين ٢٠٢١ من هذا التصنيف؛ قائلاً: (من الجيد أنكم ترون أن من حق تركيا مطاردة الPKK. في الأراضي العراقية، لكن الغريب هو أننا نحن في تركيا لا نعدّه منظمة إرهابية!! نحن نفرّق بين الإرهاب مثل داعش، والخارجين عن القانون مثل الPKK.، وما بينهما هم المواطنون العاديون. ولقد حاولنا التقارب مع الPKK. كثيراً لكن واشنطن كانت تفرّق بين أبناء الوطن الواحد!!)إنتهى.
كثيراً ما ركّز السفير التركي السابق فاتح يلدز في محادثاته مع سياسيين عراقيين على كون اليبشه(وحدات مقاومة سنجار) الأيزيدية هي جزء من الPKK. ومن الحشد الشعبي في الوقت ذاته، وهذا مفتاح للغزين: الأول وجوب إخلاء سنجار وطريق الحرير من أي قوى معادية لتركيا، أو خارجة عن سيطرتها، والثاني توريط الحشد الشعبي في أي إشكاليات مع ال PKK. لسحبه من المنطقة، وجرّه الى مواجهات مع الجيش العراقي.
حتى مسألة إزالة صورة للزعيم الكردي عبد الله أوجلان لم تكن حركة ذكية من الضابط العراقي، لأن هذا الرجل يعد رمزاً ملهِماً لفئة كبيرة من الكرد حتى داخل العراق، حاله حال جيفارا وغاندي وحسن البنّا، ولا يمكن استفزازهم بهذا الشكل، ولا نعلن شيئاً جديداً إن عدَدْنا أوجلان منافساً آيديولوجياً شرساً للإرث البرزاني في المنطقة، مما يجعل الPKK. مستثنىً دائماً من دعوات لم الشمل الكردي البرزانية.
من جانب آخر فالبيشمرگه جهاز تنفيذي يأتمر بأمر القادة العسكريين في أربيل، ويفترض أن يأتمر -جدلاً- بأمر قائد القوات المسلحة في بغداد، وما ينطبق على الجيش العراقي ينطبق عليه.
ولا يختلف إثنان على أن طريقة تعاطي البيشمرگه، وحكومة أربيل وحكومة بغداد مع الاعتداء التركي الأخير على دهوك لن تختلف عن سابقاتها؛ والبيان الخجول لوزارة الخارجية العراقية هو أفصح مثال على ذلك.
الغريب هو محاولة حرف الأنظار عن هذا الاعتداء، ومحاولة توريط جهات أخرى به مثل الPKK. الذي نفى تواجد أي قوات له قريبة من مكان الاعتداء والمرتفعات المحيطة به، أو إيران!!
إيران التي حين تقصف مقراً للموساد في أربيل تقوم الدنيا ولا تقعد، ولا أخوض في ذلك طويلاً.
إن تكرار الاعتداءات التركية وامتدادها الى حقبة زمنية طويلة لا يعني أن تصبح عادة، ولا يعني أن الصبر عليها هو صبر سرمدي، وإن كان بعض السياسيين السماسرة يتلقّون تعليماتهم من رئيس جهاز المخابرات التركي ورئيس الجمهورية التركية ذاته، ويؤثّرون -على تعاقب أجيالهم- على المشهد السياسي العراقي، فلا يعني إعمام ذلك على المشهد السياسي برُمّته.
هناك جملة من الإجراءات التي يمكن للفاعلين العراقيين اللعب على أوتارها:
- بالنسبة للحكومة العراقية يمكنها استدعاء ممثل العراق في تركيا وإغلاق مبنى السفارة الى أجل غير مسمى، وطرد السفير التركي وتسليمه مذكرة احتجاج شديد اللهجة، وصدور ذلك عن حكومة الكاظمي أقرب الى المحال.
- منع السفر الى تركيا وعدم استقبال المواطنين الأتراك الى أجل غير مسمى، وهذا كما قبله.
- إيقاف المشاريع الحكومية المقامة بالتعاون مع الشركات التركية الى أجل غير مسمى. كما سبق.
- لا أعتقد أن امتداد الإجراءات التأديبية الرادعة الى المقاطعة الاقتصادية الشعبية للبضائع التركية هو إجراء ناجع وسريع بحد ذاته لأنه لن يضر تركيا على المدى القريب والمتوسط، بل يشحن الشارع المنكوب بارتفاع سعر صرف الدولار والسياسات النقدية والاقتصادية الفاشلة للحكومة الحالية، كما يثير حفيظة المستوردين من أرباب القطاع الخاص، والمتصلين بالأحزاب السياسية، مما يخلق البلبلة داخل العراق قبل أن تتضرر أنقرة؛ لذا يجب أن تكون المقاطعة قراراً سياسياً سيادياً برلمانياً- حكومياً يبدأ من المشاريع الحكومية ويمتد الى المتاجر الخاصة، متعالياً على أي مصالح فئوية، وهذا أمر صعب لكنه ليس مستحيلاً.
- يظل حزب العمال الكردستاني ورقة ضغط بيد الدولة العراقية (حكومات، وبرلمانات، وأجهزة أمنية، وأحزاب سياسية، وفصائل مقاومة) يمكنها من خلاله استرداد الحصة المائية للعراق، على سبيل المثال.
- اللعب على وتر الخلاف التركي- الإماراتي حول استثمار حقل الغاز الضخم في السليمانية، وطرق إمداده الى أوروبا.
- يظل دور فصائل المقاومة باستهداف القواعد التركية داخل الأراضي العراقية بالصواريخ والمسيرات وقطع طرق إمدادها، دوراً مهماً وناجعاً في تقليم الأظافر التركية.
- تطوير رد الفعل المقاوم بإرسال المسيرات (ولو الاستطلاعية منها) الى داخل الأراضي التركية، لتحلّق فوق مواقع السدود التركية مثل أليسو والجزرة، حتى لو أسقطتها الدفاعات الجوية التركية، أو ظلّت طريقها، وما عملية الإمارات، وعملية كاريش عنّا ببعيد؛ المهم هو وصول الرسالة، ونحن بلد الكتابة الأولى، والحرف الاول…والأخير.
Your Comment