الدبلوماسية السرية و أمن الدولة القومي
تنتخب الدول شخصيات على مستوى عالي من القدرة والكفاءة والإخلاص للعمل في مؤسسات حكومية مهمة كوزارة الخارجية وجهاز المخابرات ومستشارية الأمن القومي وأجهزة الأمن والدفاع الأخرى، لما لتلك المؤسسات من أهمية كبيرة في مواجهة التحديات وتعزيز مرتكزات الأمن القومي.
عادة ما يتم اختيار تلك الشخصيات بمواصفات خاصة بعيداً عن المحسوبية والمنسوبية و الولاءات، حيث تتم مراجعة الخلفيات العلمية والمهنية والاجتماعية، فضلاً عن السيرة الذاتية والسلوك العام لكل من يرغب بالانضمام إلى تلك المؤسسات، لما لها من أهمية كبيرة في أداء الواجبات والمهام بشكل سري وعلني. فالهدف الرئيسي هو تهيئة كوادر متخصصة ضمن اسس وعوامل تطوير مستمر، يعتمد النوع وليس الكم.
للدول العديد من الوظائف المثالية كالنظام والعدالة و الرفاهية و الحرية إلا أنه لا شيء أهم من الأمن، فبدون الأمن لا يمكن للدولة أن تحيا، وبالتالي فإن البقاء هو الهدف الأساسي لأي دولة، لاسيما في المجال الفوضوي التنافسي للعلاقات الدولية. ومن أجل البقاء فإن أي وسيلة تؤدي إلى ذلك مسموحا بها رسمية كانت أم غير رسمية علنية كانت أو سرية. "ستيوارت موراي "
تعد الدبلوماسية واحدة من الوسائل التي تسهم في تعزيز الأمن. يقول باترفيلد وايت " أن الدبلوماسيون كثيرا ما يستخدمون الوعود والعلاقات الشخصية والمصالح المشتركة والمساومة والابتزاز والخداع وحتى التهديد بالحرب للحصول على ما يريدون، إلا ان الدبلوماسية أفضل من إطلاق نيران البنادق".
إذن الدبلوماسية هي وسيلة لتحقيق اهداف السياسة الخارجية وحماية مصالح البلد العليا وأمنه القومي.
تحتوي الدبلوماسية على وظائف مهمة مثل التفاوض والتمثيل والتواصل، لكن وظيفتها الرئيسية هي الحصول على المعلومات وجمعها ومشاركتها واستخدامها لأسباب تكتيكية عملياتية أو استراتيجية، وبدون هذه الوظيفة لن تتحقق الوضائف الاخرى.
تعد الدبلوماسية السرية واحدة من أدوات تعزيز الأمن القومي، ففي الوقت الذي تضطلع فيه مؤسسات معينة بمهمة المساهمة في صنع السياسات الخارجية للدولة كوزارة الخارجية والدفاع وجهاز المخابرات ومستشارية الأمن القومي، تلعب الدبلوماسية بشقيها السري والعلني دورا كبيراً في بلورة الرؤى والأفكار والخطط الأساسية لأجندة الأنشطة الخارجية التي ترتكز عليها السلطة التنفيذية في تحقيق أهدافها الإستراتيجية.
تعرف الدبلوماسية السرية بأنها "الأفعال والأنشطة الدبلوماسية التي تقوم بها الحكومة بشكل سري لتحقيق اهداف السياسة الخارجية من خلال الوسائل الفعالة للتسوية والإقناع أو التهديد بالحرب أو العمليات العسكرية" نك بارفيت.
لقد مثلت الدبلوماسية السرية أسلوباً شائعا في العلاقات الدولية لاسيما بين القوى الكبرى لاعتبارات المصالح الوطنية العليا التي يعد الأمن القومي دافعاً ومبرراً لها على الرغم من بعض النتائج والآثار السلبية التي خلفها هذا النمط من العمل الدبلوماسي.
لإزالت الدبلوماسية السرية مفتاحاً للعديد من العلاقات التي أفضت الى تفاهمات داعمة لأبعاد الأمن القومي. فقد إشار جراهام أليسون إلى أن الزيارة السرية لرئيس جهاز المخابرات الامريكي في حينها مايك بومبيو إلى كوريا الشمالية ساهمت في عقد لقاءاً مهما بين الرئيس ترامب ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ. كما أن زيارة هنري كيسنجر السرية إلى الصين في عام 1971 ساهمت في راب الصدع وانهاء العداوة التي استمرت عقوداً من الزمن بين الصين وأمريكا. كما أن شكل العلاقة المتميزة و دور الدبلوماسية السرية والعلنية ما بين إيران و ألمانيا دفعت ألمانيا لأن تكون " درعاً واقياً لإيران " حسب تعبير جوشكا فيشر، الا أنها أبرزت إلى السطح عمق الصراع غير المعلن بين المانيا والغرب من جهة وأمريكا من جهة أخرى بشأن الملف النووي الإيراني.
يلعب العراق اليوم دوراً محورياً في إنضاج الحوار السري الأمني وتوجهه الدبلوماسي ما بين كل من السعودية وإيران. حيث انتهت مؤخراً جولة المحادثات الخامسة بين البلدين والتي خرجت بنتائج إيجابية تزيد الآمال بخطوات جدية على طريق استئناف العلاقات، وهذا ما يعزز دور العراق في أن يكون عامل استقرار للمنطقة ولاعب أساسي في تقريب وجهات النظر وحل المشاكل العالقة بين أبرز قوتين إقليميتين في الخليج. الأمر الذي سينعكس تأثيره إيجاباً على دعم مصالح العراق العليا وتعزيز أمنه القومي.
لقد أصبحت التحديات التي يشهدها العالم اليوم مسرحاً للعديد من الأحداث التي تشكل عائقاً امام فهمٍ أوسع للواقع الدولي والإقليمي بجميع تداعياته وخلفياته وخفاياه. وأصبحت البيئة الدولية مسرحاً للعديد من التفاعلات التي تجسدها الدول من خلال سياساتها الخارجية و مؤسسات صنع سياساتها الخارجية بفواعلها الرسمية - المتمثلة بدبلوماسييها وموظفيها في العديد من المجالات سياسياً واقتصادياً وامنياً وثقافياً واجتماعياً - وفواعلها غير الرسمية ودبلوماسيتها السرية التي تلعب دوراً مهما في عملية صنع السلام وحل النزاعات.
Your Comment