عين روسيا على لبنان.. وفق منظور المصالح الروسية


لفهم طبيعة وماهية التحركات الروسية في عموم المنطقة، لابد أن نستحضر رؤية ألكسندر دوغين في كتابه “النظرية السياسية الرابعة”، الذي قال أن هدف روسيا لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، ينطلق من محددات واضحة لجهة زعزعة الهيمنة الأمريكية والأطلسية على النظام الدولي، ومنع محاولات تطويق روسيا. في هذا الإطار ، يعتبر الكثير من المراقبين في العلاقات الدولية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يطبق هذه الاستراتيجية وفق ما بات يعرف بأطروحة “الأوراسية الجديدة”، وبالتالي فإن لبنان يدخل ضمن مناطق تداخل النفوذ، بين دولة تحاول الهيمنة بالمطلق على لبنان هي الولايات المتحدة، ودولة عظمى أو كبرى وهي روسيا، تحاول تأطير المحاولات الأمريكية في لبنان، والرامية اصلاً إلى إخراج روسيا من دائرة النفوذ والتأثير، وبالتالي فإن الكلمة الأخيرة ستكون للدولة العظمى في حال حصل تعارض في المصالح، خصوصًا أن روسيا تبحث في لبنان عن فرص تجارية، واستعمال المرافئ والمطارات اللبنانية، وعقد صفقات لبيع الأسلحة، وكل ذلك يحتاج إلى الاستقرار، بينما تبحث واشنطن عن الانطلاق من لبنان لزعزعة استقرار الدول المجاورة، واستخدام الورقة اللبنانية للتفاوض على الملف النووي الإيراني، فضلًا عن محاولات إخراج حزب الله من أي معادلة سياسية.
بالتزامن مع استمرار الأزمات بعناوينها السياسية والاقتصادية والمجتمعية في لبنان، ومع العجز الفرنسي عن ترجمة المبادرات الانقاذية إلى عناوين سياسية، وعطفاً على الانكفاء الأمريكي عن عموم المنطقة، تصاعد اهتمام روسيا بلبنان، الأمر الذي قرأه البعض ترجمة للتوجهات الروسية، في إحداث عوامل استقرار إقليمية، سواء في سوريا أو لبنان،  فقد حدثت في الآونة الأخيرة مجموعة من المؤشرات التي تؤكد الاهتمام الروسي بالوضع اللبناني الداخلي، والبارز هنا، أن التصريحات الروسية دائما ما كانت تحض الأفرقاء السياسيين في لبنان، على تشكيل حكومة، للخروج من جُملة المآزق التي يعاني منها لبنان، مع التركيز دائما على جُزئية عدم التدخل في هذا المسار، من قبل أي دولة إقليمية أو دولية.
التعمق في التوجهات الروسية تُجاه لبنان، يمكننا قراءة جُملة أهداف روسية، ويُمكن إيجازها بالآتي:

أولاً – تسعى روسيا ومن خلال أنشتطها الدبلوماسية والسياسية في لبنان، إلى لعب دور الوسيط عند جميع الأفرقاء السياسيين في لبنان، والمعروف أن روسيا، لديها علاقات جيدة مع الساسة اللبنانيين، الأمر الذي يمكن من خلاله تقريب وجهات النظر فيما بينهم، ولعب دور الموازن، وعليه بات واضحاً، أن الروس لديهم ميزة القبول من قبل جميع الأطراف، بُغية دعم مشروع الاستقرار في لبنان، وعلى الرغم من التقارب الروسي الإيراني في العديد من الملفات الإقليمية، إلا أن هذا التقارب لا ينسحب بشكل كليّ على لبنان،  إذ تفضل روسيا تنويع علاقاتها مع مختلف اللاعبين السياسيين في لبنان، حيث تعمل روسيا على إقامة علاقة متوازنة مع جميع الأطراف دون تشكيل تحالف منفرد مع جهة واحدة.

ثانياً – لا يخفى على أحد، أن المُحرك الأساسي لسياسات الدول، ينطلق من البعد الاقتصادي، وبالتالي فإن روسيا تسعى إلى حماية مصالحها الاقتصادية، لا سيما المصالح النفطية، إذ تستخدم روسيا شركاتها النفطية كأدوات للسياسة الخارجية، ويندرج تحرك شركة روسنفت النفطية الروسية، نحو لبنان في السياق نفسه، أي الجمع بين الاقتصاد والسياسة، حيث يكثر الحديث عن توجه روسي لربط دول مثل العراق وإيران وسوريا وتركيا ولبنان وليبيا من خلال الطاقة لمواجهة تحالفات الطاقة الأخرى في المنطقة، مثل تحالف مصر وقبرص واليونان، وحصلت موسكو على موطئ قدم في قطاع النفط والغاز اللبناني من خلال شركتي نوفاتيك Novatek (لاستكشاف وإنتاج الغاز والنفط)، وأيضًا من خلال روسنفت التي تم إلزامها بإعادة تأهيل خزانات النفط في مرفأ مدينة طرابلس اللبنانية.

ثالثاً- توسيع نفوذ روسيا لتاطير نفوذ أعداءها، هو هدف استراتيجي روسي بعيد المدى، إذ شهدت السنوات القليلة الماضية قيام موسكو بعمل توازني دقيق، فمن ناحية، قامت بعمليات عسكرية مشتركة مع حزب الله في سوريا، ومع ناحية أخرى تغاضت عن الضربات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف سورية وايرانية،  على الرغم من أن موقف روسيا من حزب الله إيجابي، حيث يعترف الروس بجناحه السياسي وبأنه قوة منتخبة من الشعب، في ذات الإطار، أن سعي موسكو لتسليح الجيش اللبناني، وإبرام اتفاقيات للتعاون العسكري مع لبنان، خصوصًا أن موسكو، وعلى خلاف المساعدات العسكرية الأمريكية للجيش اللبناني، تعرض إمداد لبنان بالسلاح الثقيل؛ كل ذلك يُعد من المنظور الروسي، ضرورة لمواجهة النفوذ الأمريكي في لبنان.

ضمن ما سبق،تعتبر روسيا أنها وجدت في لبنان الأرضية السهلة في المنطقة لتعويض نسبي لخسارتها حليفين مهمين في الشرق الأوسط هما ليبيا والعراق، خصوصًا أن القوى الداخلية المتنافسة تبحث عن نظام دولي جديد، وتحاول روسيا ملء الفراغ الناتج عن انسحاب اللاعب الأمريكي منه، وانتهاجه في لبنان مبدأ “العصا فقط” عبر الحصار الاقتصادي والعقوبات، لذلك فإن روسيا تبدي المزيد من المرونة والانفتاح على كافة الأطراف.
ختاماً فإن اهتمام روسيا باكتساب نفوذاً إضافياً في لبنان يُفسر محاولاتها توسيع مدى نفوذها في الشرق الأوسط، كرد فعل على محاولات حلف الناتو تطويقها في أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفيتي السابق،وتعتمد روسيا في مسعاها هذا على توجهات أمريكية تخفف من التركيز على الشرق الأوسط وتحول اهتمامها نحو أقاليم أخرى، وتعتمد الاستراتيجية الروسية حتى الآن على الانخراط في الأزمات، ولعب دور الوسيط المقبول، وتفعيل الحوارات بين الأطراف المتناحرة.
الفترة المقبلة ستشهد مزيداً من الحراك السياسي والدبلوماسي الروسي في لبنان، الأمر الذي قد يلعب دوراً في الحد من الانهيار المالي والاقتصادي، أو على الأقل ضبط الانهيار لتمرير الوقت بفترة أقل قساوة، حتى حصول التسوية الشاملة مستقبلاً.

المصدر: رأي الیوم