مشهد رأس الحسين بالقاهرة
ينطلق الجدل حول وجود رأس الإمام الحسين عليه السلام في مقامه المعروف في القاهرة من تلك الفرضية التي تبناها بعض علماء الشيعة والقائلة برد الرؤوس إلى كربلاء ودفنها صحبة الأجساد الطاهرة قبيل العشرين من صفر أي في اليوم الأربعين للاستشهاد.
تقارب المسافة بين الكوفة ودمشق ألف كيلومتر وهو ما يحتم علينا أن نتساءل كيف أنجزت رحلة الذهاب والعودة من الكوفة إلى دمشق خلال أقل من أربعين يوما؟!.
السؤال الثاني: هل كانت رحلة السبايا صحبة الرؤوس الطاهرة رحلة مباشرة أم أنها جرت بشكل استعراضي إجرامي يهدف لإظهار البطش واللا مبالاة والاستهانة بقيمة أهل بيت النبوة ومكانتهم بين الناس؟!.
يقول المؤرخون أن رحلة قافلة السبايا لم تتم بصورة مباشرة –لزوم الاستعراض- حيث سلك المجرمون بهم طريق الجزيرة شمالا ومروا بهم عبر الموصل وهي ضعف المسافة المباشرة من الكوفة إلى دمشق وقد سجل التاريخ معالم هذه الرحلة عبر الموصل، ونصيبين، وحماة[1].
أما موضع الشاهد لدينا فهو ما ذكره الشيخ/ عباس القمي في كتابه (نفس المهموم):
قال ابن شهر اشوب في روضة الشهداءص368: ان القوم لما ارادوا ان يدخلوا الموصل ارسلوا الى عاملها ان يهيا لهم الزاد والعلوفة وان يزين لهم البلدة، فاتفق اهل الموصل ان يهيئوا لهم ما ارادوا وان يستدعوا منهم ان لايدخلوا البلدة بل ينزلون خارجها، ويسيرون من غير ان يدخلوا فيها، فنزلوا خارج البلدة على بعد فرسخ منها ووضعوا الراس الشريف على صخرة فقطرت عليها قطرة دم من الراس المكرم فصارت تشع ويغلي منها الدم كل سنة في يوم عاشوراء، وبقي هذا الى ايام عبد الملك بن مروان فامر بنقل الحجر، فلم ير بعد ذلك منه اثر ولكن بني على ذلك المقام قبة سميت (مشهد النقطة)، وهذا نفس المعنى الذي أورده السيد المقرم رحمه الله.
كما يقول الشيخ عباس القمي/ وأما مشهد الرأس الشريف بعسقلان ففي بعض الكتاب أنه مشهور[2].
الحديث إذا عن عودة الرأس الشريف إلى كربلاء ودفنها مع الأجساد الطاهرة بعد أربعين يوما من وقوع الجريمة هو ما يحتاج إلى إقامة الدليل وليس العكس خاصة في تلك الأجواء الإجرامية الإرهابية التي لم تراعى فيها لأهل بيت النبوة الكرام حرمة ولا مكانة.
كما يشير كلام الشيخ القمي رحمه الله إلى أن مشهد الرأس الشريف بعسقلان لم يكن اختراعا فاطميا كما قد يلحن البعض بالقول.
شهادات معاصرة
ونعني بها شهادات علماء الآثار المعاصرين المصريين في القرن العشرين ومن بينها شهادة الأستاذ/ حسن عبد الوهاب في كتابه (تاريخ المساجد الأثرية):
ولما كانت عسقلان هي قنطرة وصول الرأس إلى القاهرة فإني أورد أقوال من أخذ بها من المؤرخين. ص80.
فممن أخذ بها ابن ميسر المؤرخ الذي قال وكان حمل الرأس من عسقلان إلى القاهرة ووصوله إليها يوم الأحد 8 جمادى الآخرة سنة 548هـ 1153مـ.
أما القلقشندي فيقرر نقل الرأس من عسقلان إلى القاهرة سنة 549هـ.
وأيضا إبراهيم بن وصيف شاه وسبط ابن الجوزي فقد ذكر الأول سنة 549 والثاني سنة 548هـ.
واعترف بمشهد الرأس ابن المأمون المؤرخ فذكر في حوادث سنة 516هـ أن الآمر بأحكام الله أمر بإهداء قنديل من ذهب وآخر من فضة إلى مشهد الحسين بعسقلان وأهدى إليه الوزير المأمون قنديلا ذهبيا له سلسلة فضية.
أما المقريزي فنقل عن ابن عبد الظاهر رواية وجود الرأس بعسقلان وأن المشهد هناك بناه أمير الجيوش بدر الجمالي وأتمه ابنه الأفضل شاهناشاه وأنه لما خيف من سقوط عسقلان في أيدي الفرنج نقل الرأس إلى القاهرة.
ورواية وجود الرأس بعسقلان معززة بنص تاريخي منقوش على المنبر الذي كان موجودا في مشهد الرأس بعسقلان وهو منبر فخم مكتوب على قوائمه:
الحمد لله لا شريك له محمد رسول الله، علي ولي الله صلى الله عليهما وعلى ذريتهما الطاهرة سبحان من أقام لموالينا الأئمة نسبهما مجدا ورفع راية وأظهر معجزا كل وقت وآية بين ربها فضلا عظيما وعناية وكان من معجزة إظهاره رأس مولانا الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب صلى الله عليه وعلى جده وأبيه وأهل بيتهم بموضع بعسقلان كان الظالمون لعنهم الله ستروه، فيه إعفاء لنوره الذي وعد تعالى آية لإظهاره، لعنة الله على الظالمين وأراد الله تجاذبه به عن دور المخالفين وإظهار الآن شرفا لأوليائه الميامين وانشراح صدور شيعته المؤمنين الذين علم الله صفاء ضمائرهم في الولاء والدين وإنجاز الحجة على العالمين ورزق الله فتى مولانا وسيدنا معد أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلى الله عليه وعلى آبائه الطاهرين السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبا النجم بدر المستنصري إظهاره في أيامه فاستخرجه من مكانه وخصه بإجلاله وتكريم مقامه وتقدم بإنشاء هذا المنبر برسم المشهد الشريف الذي أنشأه ودفن فيه هذا الرأس في أشرف محلة قبلة الأمير وصلاة المتقبلين وشفيع المستشفعين والزائرين وبناه من أسه إلى علوه وابتاع له الأملاك وحبس منافعه على عمارته وسدنته وجماله لليوم وما بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وأنفق على جميع ذلك من فضل ما آتاه الله من حل ماله وخالص ما ملكه ابتغاء وجه الله وطلب ثوابه واتباع رضوانه وإعلان شرف هذا الإمام ونشر أعلامه بقوله تعالى إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين وقال النبي صلى الله عليه وآله خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين، ويجب على من يؤمن بالله واليوم الآخر تعظيمه وتشريفه والنظر في مصالحه وعمارة ما يحتاجه في أوانه وتطهيره، وكان إنشاء هذا المنبر سنة أربع وثمانين وأربعمائة).
ومكتوب على باب المنبر ما نصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم: نصر من الله وفتح قريب لعبد الله ووليه معد أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه البررة الأكرمين صلاة باقية إلى يوم الدين، مما أمر بعمل هذا المنبر فتاه السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبو النجم بدر المستنصري عضد الله به الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين وأدام قدرته وأعلى كلمته للمشهد الشريف بثغر عسقلان مسجد مولانا أمير المؤمنين أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما في شهور سنة أربع وثمانين وأربعمائة).
ولما زار الإمام الهروي الرحالة عسقلان سنة 570هـ 1174 مـ قال وبعسقلان مشهد الحسين عليه السلام كان رأسه به. فلما أخذته الفرنج نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة وذلك سنة 548هـ 1153 وذكره القزويني أيضا ووصفه بأنه مشهد عظيم وتابعه ابن الطولوني الحنفي المتوفى سنة 952 1545مـ بقوله (وبعسقلان مشهد الحسين كان به رأسه فلما أخذها الفرنج نقله المسلمون إلى القاهرة سنة 549هـ).
المشهد الحسيني بالقاهرة وكان وصول الرأس الشريف من عسقلان إلى القاهرة يوم 8 جمادى الآخرة سنة 548هـ ولما وصل إلى مصر حمل في سرداب إلى قصر الزمرد ثم دفن في قبة المشهد الذي أنشئ له خصيصا سنة 549هـ.
وقد عاين المشهد الرحالة ابن جبير سنة 578هـ ووصفه بقوله:
وفي ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض وقد بني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به مجلل بأنواع الديباج محفوف بأمثال العمد الكبار شمعا أبيض ومنه ما هو دون ذلك وقد وضع أكثرها في أتوار فضة خالصة ومنها مذهبة وعلقت عليه قناديل فضة وحف أعلاه كله بأمثال التفافيح ذهبا في مصنع شبيه الروضة يقيد الأبصار حسنا وجملا فيه من أنواع الرخام المجزع الغريب الصنعة البديع الترصيع مما لا يتخيله المتخيلون والمدخل إلى هذه الروضة مسجد على مثالها في التأنق والغرابة حيطانه كلها رخام على الصفة المذكورة وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها بنيان من كليهما المدخل إليه وهما أيضا على تلك الصفة بعينها والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلقة على الجميع. ومن أعجب ما شاهدناه عند دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل شديد السواد والبصيص يصف الأشخاص كلها كأنها المرآة الهندية حديثة الصقل نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم وبالجملة فما أظن في الوجود كله مصنعا أحفل منه ولا مرأى من البناء أعجب ولا أأبدع منه قدس الله العضو الكريم الذي فيه بمنه وكرمه[3].
تابوت المشهد الحسيني ص 87
وأهم ما بقي من المشهد القديم التابوت الخشبي الذي كان محتجبا تحت المقصورة وهو تابوت مزين بالذهب والفضة وظل هذا التابوت محجوبا عن الأنظار نحو ثمانية قرون لم يسعد برؤياه سوى السيد محمود الببلاوي والسيد محمد الببلاوي لعلاقتهما الوثيقة بالمشهد لكن لم تكتحل به عين أحد من الأثريين.
وقد كتبت عن هذا التابوت في جريدة الأهرام ما نصه: والمعروف أن تحت أرضية هذه القبة حجرة بها تابوت من خشب محلى بزخارف وكتابات. وكانت فرصة سعيدة تلك التي أتاحها لي مولانا الملك فاروق فقد أمر بأن يستبدل القاشاني الذي بأرضية المقصورة النحاسية رخام جميل فكشفت أرضية القبة فانتهزت الفرصة يوم 11 سبتمبر سنة 1939 وهبطت أسفل المقصورة ومعي الأستاذ محمد عرفة فبهرتني صناعة التابوت كما أحزنني حالته بعد أن دب التلف إلى أجزائه فأخذت له في مكانه صورا فوتوغرافية رفعتها مع تقريري إلى لجنة حفظ الآثار العربية أخرجته بعد الاتفاق مع وزارة الأوقاف وأصلحته إدارة حفظ الآثار وأعادته إلى مجده ثم أودعته دار الآثار العربية في 22 يناير 1945.
وبفحص التابوت تبين أنه قاصر على أجناب ثلاثة لا رابع لها وهو مصنوع من خشب ساج هندي وقد روعي في اختيار الآيات القرآنية التي نقش بها التابوت ما يناسب جسدا طاهرا من فرع الدوحة المحمدية مثل (بسم الله الرحمن الرحيم رحمة الله وبركاته أهل البيت إنه حميد مجيد، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
وقد فحصت هذا التابوت وقرأت جميع كتاباته فإذا هي آيات من القرآن لا أثر معها لنصوص تاريخية ولكن دقة الزخارف وقاعدة كتابة الخطين الكوفي والنسخي واجتماع أحدهما بالآخر يضعانه ضمن مصنوعات الدولة الأيوبية. كذلك مقارنته بشبيهه تابوت الإمام الشافعي تدل على أنه معاصر له بل تجعلني أرجح أنهما صنعا في عصر واحد وتاريخ عمل تابوت الشافعي سنة 574 أي في دولة صلاح الدين الأيوبي. ص 91.
Your Comment