السلفية: النظرية الثالثة
ينقسم المسلمون من الناحية المذهبية إلى قسمين, الشيعة الذين يؤمنون بإمامة أهل البيت عليهم السلام ويعتقدون أن الإمامة بمعناها الشامل هي اختيار إلهي ينحصر فيهم دون غيرهم والفريق الثاني هم (أهل السنة) الذين يعتقدون بإمكانية تجزئة الإمامة وتوزيع مهامها, فهناك أئمة السياسة وهم الخلفاء وهناك أئمة الفقه الأربعة أو التسعة وهناك أئمة العقيدة مثل الأشعري والماتريدي وغيرهم.
الأئمة نوعان: الأول هم من وصفهم سبحانه (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) وهم (لاَ يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) والصنف الثاني قد أقام بناءه على الظنون والآراء الشخصية وهو (لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ)!!.
(استقرت) الأمور في عالمنا الإسلامي على هذه التقسيمة بدءا من العصر المملوكي وتحديدا في عصر الظاهر بيبرس الذي قرر المذاهب الأربعة في الفقه والأشعري في الاعتقاد ومنع كل ما عداها حتى جاء العصر الوهابي وجاء معه السلفيون الذين أعلنوا أولا الاستغناء عن خدمة الأئمة بكافة أنواعهم وأشكالهم وقرروا العودة المباشرة إلى النص (بفهم السلف الصالح) حسب زعمهم.
يقول الشيخ صالح آل الشيخ:
المسلمون صنفان: سلفيون، وخلفيون. أما السلفيون: فهم أتباع السلف الصالح. والخلفيون: أتباع فهم الخلف، ويسمون بالمبتدعة إذ كل من لم يرتض طريقة السلف الصالح في العلم والعمل والفهم والفقه فهو خلفي مبتدع.
والسلف الصالح هم القرون المفضلة وفي مقدمتهم صحابة رسول الله الذين أثنى الله عليهم بقوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) الفتح: 29 الآية. وأثنى عليهم رسول الله بقوله: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.
وتتابعت أقوال الصحابة أنفسهم، والتابعين لهم بإحسانٍ على الثناء على مجموعهم، والإقتداء بمسالكهم.
قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: (من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) وهذا أمر مجمع عليه بين أهل السنة، لا يخالف في ذلك منهم مخالف، وإذا كانوا على مثل هذا الفضل العظيم فلا غرو أن يتشرف المسلم بالانتساب إلى طرائقهم في فهم الكتاب والسنة، وعملهم بالنصوص.
وكانت كل فرقة ضالة من فرق الأمة تستدل لمرادها بآياتٍ وأحاديثٍ خلاف فهم السلف لها وتوسعوا في ذلك حتى كفر بعضهم بعضاً وضربوا كتاب الله بعضه ببعض، كل ذلك بفهمهم للنصوص حَسبَ ما تدعيه كل فرقة، فأصبحت كل الفرق الزائغة تقول: نأخذ بالكتاب والسنة، فالتبس الأمر على ضعيفي النظر، قليلي العلم والمخرج من هذه الدعاوى والأقوال الزائغة هو اتباع نهج خير القرون فما فهموه من النصوص هو الحق، وما لم يفهموه ولم يعملوا به فليس من الحق. وهكذا تابعوهم بإحسانٍ ممن تلقوا عن الصحابة الكرام فصار من انتسب إلى منهج هؤلاء الصحابة في فهم الكتاب والسنة، ومن أخذ بما صحت روايته عنهم مرفوعاً إلى النبي، ومن ترك الآراء العقلية والفهم المحدث صار سلفياً وصار من لم يكن كذلك خلفياً مبتدعاً.
هذه هي الأطروحة السلفية في صورتها الأصلية التي تؤكد على التلقي المباشر من الصحابة والتابعين والأخذ بما (صحت) روايته عنهم ولو كان مرفوعا (غير متصل السند) إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله و(ترك الآراء العقلية والفهم المحدث) ليصير المسلم بذلك سلفيا ويتحاشى أن يصبح (خلفيا مبتدعا).
عقبات وعراقيل
إنها نظرية جميلة وبراقة ولكن هناك بعض العراقيل التي لا يمكن تجاوزها مهما كانت براعة الخطيب أو بلاغة الكاتب.
أول هذه العراقيل: أن الصحابة أنفسهم لم يدعوا وجوب اتباع كل تصرفاتهم والدليل على ذلك أن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال (إني لا آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على الحرب, ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأني كنت قتلته سريحا أو خليته نجيحا ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين يريد عمر وأبا عبيدة فكان أحدهما أميرا وكنت وزيرا.. وأما اللاتي تركتهن…).
وبالتالي فهو يرى أن بعض ما فعله يحتاج لمراجعة ومن ثم كيف يمكن القول بأن فهم الصحابي يعد نصا دينيا ملزما؟؟.
كما أن عمر بن الخطاب والعهدة على صحيح البخاري (رواية رقم 6442) أكد على هذا المعنى عندما قال: (بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترَّنَّ امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمَّت ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرَّها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه، تغرَّة أن يقتلا).
فكيف يقال إذا أن كل تصرفات الصحابة هي دين ينبغي على الإنسان إن يتعبد إلى الله بإتباعه؟!.
المفارقة الأخرى تكمن في تقسيم المسلمين إلى سلف صالح وخلف مبتدع في حين أن المناهج العقائدية والفقهية التي يتبعها القوم كلها من صياغة هذا الخلف المبتدع؟!.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر فالعقيدة الواسطية التي يعتنقها القوم هي من وضع ابن تيميه الحراني وهو من أبناء القرن الثامن الهجري وكذا ما كتبه تلميذه ابن القيم, فكيف نقبل هذا التقسيم الذي يعتبره القوم أساسا لمعتقدهم؟!.
النموذج الأبرز لخروج السلفيين عن منهجهم القائم على تفضيل السلف على الخلف المبتدعين هي قضية الذات والصفات.
فقد كان علماء السلف من أمثال مالك بن أنس (والعهدة على الشهرستاني في الملل والنحل) يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقا واحداً وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل: اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك إلا أنهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية ويقولون عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله تعالى ”الرحمن على العرش استوى” ومثل قوله: ”خلقت بيدي” ومثل قوله ”وجاء ربك” ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له وليس كمثله شيء وذلك قد أثبتناه يقيناً.
كان هذا هو رأي بعض علماء (السلف) – اتفقنا معه أم لم نتفق – وهو الرأي الذي لم يرق (للسلفيين) الذين فضلوا رأي (الخلفي) ابن تيميه الذي أثبت لله تبارك وتعالى تلك الصفات الخبرية على كيفية تجسيدية لا تترك مجالا للمناورة حيث يقول في عقيدته الواسطية في تفسير قوله تعالى (مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) تضمَّنَتْ هاتان الآيات إثبات اليدين صفة حقيقية له سبحانه على ما يليق به، ولا يمكن حمل اليدين هنا على القدرة؛ فإن الأشياء جميعًا ـ حتى إبليس ـ خلقها الله بقدرته، فلا يبقى لآدم خصوصية يتميز بها. وفي حديث عبد الله بن عمرو: (إن الله عز وجل خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده).
ورغم أن أحدا من (السلف) قبل (الخلفي) ابن تيميه لم يلجأ إلى التمييز بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية إذ أن القرآن الكريم قد استخدم المصطلحين بمعنى واحد فالله هو رب السماوات والأرض حتى جاء هو وادعى إمكانية أن يكون ثمة إيمان بتوحيد الألوهية وشرك في الربوبية ليفتح لنفسه المجال ولتلميذه محمد بن عبد الوهاب من بعده لتكفير الموحدين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله لأنهم بزعمه يوحدون الألوهية ويشركون في الربوبية!!.
السلفية إذا لا تعدو كونها إطارا فضفاضا جرى من خلاله تمرير أفكار أغلبها من مبتدعات نجم أنجبه (وخلفه) لنا عصر المماليك, هو ابن تيميه وتابعه محمد ابن عبد الوهاب لا أكثر ولا أقل.
Your Comment