محددات الانسحاب الأمريكي من المنطقة.. أولويات جيو-استراتيجية.


تحولات ومتغيرات جمّة، طرأت على جُملة المشاهد في الشرق الأوسط؛ فقد شهدت السياسات الدولية تُجاه المسرح الشرق أوسطي، تباينات وتحديات من شأنها أن تنعكس على ماهية الصراعات، وكذا التحالفات القائمة في المنطقة، لا سيما أن الشرق الأوسط، شهد خلال العقد الأخير تحولات يُمكن وصفها بالاستراتيجية، الأمر الذي وضع منطقة الشرق الأوسط، ضمن التفاعلات المؤثرة والفاعلة، في سياسات النظام الدولي، لكن في المقابل، فإن الشرق الأوسط، لا يزال في تقديرات النخب الأمريكية، وعلى المستويات السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية، يحظى بأهمية استثنائية، رغم القناعة لدى النخب في واشنطن، بأثر المتغيرات السياسية التي شهدها الشرق الأوسط، على جعل المصالح الأمريكية في منطقة تشهد تحولات مستمرة، أقل حيوية مما كانت عليه سابقًا، إلَا أن ذلك لا يلغي حقيقة وجود مصالح هامة تستحق الحماية، وعلى الإدارات الأمريكية إيجاد مقاربة لتكييف وجودها في المنطقة مع هذه الوقائع، وليس مغادرة المنطقة والتضحية بالمصالح الأمريكية.

في المقابل، وضمن الدوائر العميقة في واشنطن، يُشكل الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط، معادلة تَوافق تُجمع النخب السياسية على تطبيقها واقعاً، لا سيما أن الجميع في واشنطن، مُتفق على أن منطقة الشرق الأوسط، لم تعد مؤطرة بامتيازات تُشكل حافزاً أمريكياً للبقاء، خاصة أن الشرق الأوسط، خضع لمتغيرات جيوسياسية، أخرجته من دائرة الاهتمام الأمريكي، بعد أن كانت هذه المنطقة من العالم، تُشكل تاج النفوذ الأمريكي.

السياسة السابقة، بدأت في عهد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق "باراك أوباما"، الذي وضع تقييمات يُمكن بموجبها تأطير التدخل الأمريكي في المنطقة، وترشيده حتى الحدود الدُنيا، مع تخفيف مستوى الانخراط في صراعات الدول، واعتماد نظرية جديدة، تعتمد على ضرورة أن تتولى دول المنطقة، حل أزماتها وصراعاتها بمفردها.

النخب الأمريكية، أعادة تعريف المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث تم نزع البعد الاستراتيجي من علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع دول المنطقة، وحصر المصالح والعلاقة الأمريكية، في إطار المنافع المباشرة، التي جرى ترجمتها في الغالب، على شكل صفقات تسلّح، ما دفع غالبية دول المنطقة إلى توسيع دوائر علاقاتها الخارجية، وعدم حصرها باللاعب الأمريكي، الذي بات يستخدم بكثافة ورقة الانسحاب والبقاء لمساومة دول المنطقة، في وقت بدا حضور الفاعلين الدوليين الآخرين في المنطقة يظهر بوضوح، كـ روسيا والصين.

في ذات الإطار، فإن صانع القرار الأمريكي والنخب السياسية المرتبطة به، وضعت النظرية الإنسحابية من الشرق الأوسط، ضمن فرضية تقول، إن جُملة المصالح التي تُشكل سياسة الولايات المتحدة تُجاه الشرق الأوسط، فقدت أهميتها، وبالتالي لم تعد تستحق هذه المنطقة الاهتمام، وبالتوازي مع حجم المخاطر، يُمكن رصد متغيرات ثلاث، في بلورة السياسة الأمريكية الإنسحابية من الشرق الأوسط:
أولاً-  في السابق، كانت الحاجة الأمريكية لنفط الشرق الأوسط، تُشكل أحد أهم الأسباب التي دفعت أمريكا لوضع المنطقة على رأس أولوياتها، والمحرك الأساس لرصد موارد دفاعية ودبلوماسية ضخمة من أجل ضمان التفوق الاقتصادي الأمريكي، وضمان دوام الرفاهية للأمريكيين.
بينما اليوم، لم تعد الولايات المتحدة بحاجة لنفط الشرق الأوسط، إذ سمحت زيادة إنتاج النفط في الولايات المتحدة، لأن تتحوّل واشنطن إلى طرف مستقل عن الحاجة للطاقة من الأطراف الخارجية، وخاصةً من الشرق الأوسط.
ثانياً- لا جدال في أن إسرائيل وأمنها، يُعد من أهم ركائز التواجد الأمريكي في المنطقة، لكن ومع المتغيرات التي شهدتها المنطقة، وتحديداً في المحيط الإقليمي لـ إسرائيل، وعطفاً على تطبيع العديد من الدول العربية والخليجية علاقاتها مع تل أبيب، كل ذلك كان له تأثيرات في قرار النخب الأمريكية، لجهة حماية أمن إسرائيل، إذ لم تعد إسرائيل بحاجة للدعم الأمريكي سياسياً ومالياً وعسكرياً، نتيجة تطور الاقتصاد الإسرائيلي، وانعكاسات ذلك على الصناعات العسكرية وكذا التكنولوجية، فضلاً عن أن إسرائيل باتت في وضع استراتيجي مريح، جراء استنزاف غالبية الدول التي تناهض الكيان، كل ذلك جعل من التهديدات الأمنية ضد إسرائيل، في أدنى مستوياتها، وبات بمقدور الكيان التعامل مع هذه التهديدات بفضل قدرة جيش الكيان، الذي يُصنف على أنَّه الجيش الأقوى والأكثر تطورًا في المنطقة.
ثالثاً- تراجع مستوى التهديدات الإرهابية للولايات المتحدة الأمريكية، فقد كان الإرهاب أحد أهم مُحددات استمرار البقاء الأمريكي في المنطقة، لكن شهدت السنوات الأخيرة تراجع مخاطر الأعمال الإرهابية، وقد تم تأطير  تنظيم داعش، وحصر فعاليته ضمن نطاقات ضيقة في صحارى العراق وسورية، كما أن القاعدة تمر بمرحلة ضعف في مناطق تمركزها في أفغانستان، ولم تعد تشكل تهديداً جدياً للولايات المتحدة، وفي جانب أخر، فإن غالبية الفصائل الإرهابية في سوريا، والتي ولدت من رحم القاعدة، تسعى اليوم للابتعاد عن الفكر القاعدي، وحصر هجماتها في من تراهم واشنطن أعداء لها.

إلى جانب ما سبق، ثمة المسألة الإيرانية وارتباطها بالملف النووي، إذ ترى النخب السياسية الأمريكية، أن حل هذا الملف، والمرتبط ارتباطاً عضوياً بجُملة التوترات في المنطقة،  ممكن بطريقة أقل تكلفة بكثير، وذلك عبر الطرق الدبلوماسية، أو من خلال العقوبات الاقتصادية، أو في أسوأ الأحوال لا تحتاج لرصد موارد عسكرية أمريكية ضخمة في المنطقة من أجل ضبطها.

ختاماً، وعلى الرغم من التقديرات السابقة، لكن في العمق، فإن انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، لا يُعد دليلاً ومؤشراً على نهاية الاهتمام الأمريكي في المنطقة، والأهم ليس مؤشرًا أيضًا على تراجع النفوذ الأمريكي، وقد أثبتت التجربة السورية أن وجود أعداد بسيطة من القوات الأمريكية، يساهم في خلق توازن مع الأطراف الأُخرى التي تمتلك جيوش وفصائل في المنطقة، كما يُبقي على الفاعلية الأمريكية في أوجها، لكن في جانب موازٍ، فقد بات بُحكم المؤكد، أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية ذاهبةً باتجاه تخفيض عديد قواتها في المنطقة، نتيجة حسابات سياسية داخلية، وحسابات مواجهة النفوذ الصيني، إلَّا أنَّه من غير المرجح الاستغناء عن المنطقة نهائيًا لاعتبارات جيوسياسية، في ظل عودة التنافس الاستراتيجي مع القوة العالمية الصاعدة، التي تسعى إلى تحقيق مكاسب استراتيجية في الشرق الأوسط على حساب المصالح الأمريكية.