دمشق وأنقرة " لا عداء دائم في السياسة" .. ضرورات إستراتيجية.
بمعزل عن نفي الخارجية السورية، لـ صحة التقارير التي أوردتها صحيفة "حرييت" التركية، والتي تحدثت عن رسائل تركية نُقلت إلى دمشق قبل زيارة الرئيس بشار الأسد إلى الإمارات العربية المتحدة، لجهة النقاشات التي تجري حالياً داخل الحكومة التركية لاستغلال الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية، والبحث عن فرصة جديدة لخلق أجواء تدعو لتحسين العلاقات بين أنقرة ودمشق. إلا أنه ثمة معطيات واقعية، يُمكن البناء عليها، لإعادة ترميم العلاقات السورية التركية، بما يؤسس لحل سياسي في سوريا، يُجنب الجميع المزيد من التحديات الإقليمية والدولية.
من الواضح أن الدور التركي تُجاه الحرب الروسية الأوكرانية، سيؤسس لمشهد جديد في العلاقات بين أنقرة ودمشق، فالسياسات القائمة حالياً ببعديها الإقليمي والدولي، قد تسهم في مناخ التصالح، لاتخاذ خطوات جديدة تُعيد العلاقة بين البلدين.
فالتطورات العالمية، أجبرت تركيا على اتخاذ موقف سياسي جديد حيال الملف السوري، خاصة أن موقف تركيا – أردوغان، لجهة مقاربة الأزمة السورية، بات أكثر مرونة، وتحديداً بعد الدعوات والضغوط الداخلية، التي يتعرض لها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من قبل أحزاب المعارضة التركية، وهذا ضمناً ما ألمح إليه بيان الخارجية السورية، حين وصف التقارير التركية لجهة التقارب مع دمشق، بأنها "بروباغندا إعلامية" مفضوحة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في تركيا، وبما يعكس التجاذبات السياسية بين أردوغان ومعارضيه.
وعليه، فإن جوهر السياسة الخارجية التركية وتوجهاتها الجديدة، تبدلت بوضوح منذ مطلع العام الماضي، فقد ارتكزت السياسات التركية على جُزئية إعادة العلاقات مع دول الجوار، وبدأت أنقرة فعلياً بتغيير المسار السياسي عبر فتح قنوات تواصل بينها وبين الدول التي قاطعتها إبان أحداث "الربيع العربي".
كل ذلك، يُمكن وضعه في إطار العودة التركية إلى سياسية "صفر مشاكل"، والعمل لإقامة تعاون إقليمي يُتيح الفرص لتفعيل القدرات التركية، المرتكزة على موقع تركيا الجيوسياسي, وحاجة كل القوى الإقليمية والدولية لهذا الموقع والدور التركي. وربطاً بذلك، فإن الظروف والتطورات الإقليمية والدولية، وتحديداً بما يخص الحرب الروسية الأوكرانية، فإن هذه المعطيات دفعت تركيا للبحث عن نهج عقلاني، للتعاطي مع الفوضى القائمة في الملف السوري، ومعالجة الهواجس والتحديات التي تؤطر سياق عودة العلاقات السورية التركية، وإعادة تفعيل الخيارات الدبلوماسية، لإيجاد مخرج للأزمة السورية بمستوياتها كافة؛ الأمر الذي يؤكد بأن أنقرة تُعيد برمجة بوصلتها السياسية نحو دمشق.
المُعطى الأهم الذي أُوسس على خليفة التجاذبات الداخلية التركية، وكذا المشهد العام في الإقليم، يُعطينا مشهداً جلياً، وضرورة إستراتيجية، تُجبر تركيا "مرحلياً"، لإيجاد حل للملف السوري، الأمر الذي بات بُحكم الضرورة لـ حزب العدالة والتنمية، وبما يُفضي حالة من الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، مع احتواء لحالة النزيف التي أصابت القاعدة الشعبية لـ أردوغان، وحزب العدالة والتنمية.
في المقابل، فإن الدولة السورية وانطلاقاً من الواقعية السياسية لجهة مقاربة التطورات، فإنها تُدرك أن التنسيق مع أنقرة، في ملفات متعددة، لا سيما الأمني منها، أمر لابد منه، وكذا إعادة فتح قنوات التواصل مع تركيا، قد يؤسس لمشهد سياسي جديد، ينهي الكارثة السورية.
حقيقة الأمر، إن الخطاب السياسي في تركيا، بدأ باتخاذ توجهات تأتي بمجملها في سياق ضرورات التواصل مع دمشق، وهنا يحضر قوياً كلام النائب في البرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، أحمد برات تشونكار، حيث قدَّم تقريراً عن أهداف ومواقف تركيا في الأزمة السورية، وأقرّ بأن تركيا دعمت المعارضة المسلّحة ومجموعات ما تسمى الجيش السوري الحر منذ اندلاع الأزمة من أجل تغيير النظام السياسي السوري وإسقاط الرئيس بشّار الأسد، لكن هذا الدعم لم يصل إلى أية نتيجة مرجوَّة منه، وفي نهاية التقرير تمّ التأكيد على أن أنقرة بدأت تُغيّر مواقفها تجاه دمشق رويداً رويداً، وبدأت تتعاون مع إيران وروسيا بصورة جدية أكثر، وتغيّرت أهداف أنقرة، ولم تعد إزاحة الرئيس بشّار الأسد عن السلطة من أولوياتها.
ضمن ما سبق من وقائع ومعطيات، بات مؤكداً بأن هناك رغبة تركية في البحث عن مسارات توصلها إلى دمشق، لكن لا تزال أنقرة تبحث عن توقيت سياسي يضمن لها القدرة على التماهي مع التطورات الإقليمية والدولية، وبما لا يؤثر على جوهر السياسية التركية المُعتمد على البقاء ضمن توازنات الكبار المؤثرين في القضايا الإقليمية والدولية.
كل ما سبق يؤكد بأن التجاذبات السياسية وجزئياتها المترافقة مع بدايات الحرب على سوريا، لم تعد تُمثل عوائق لا يمكن تجاوزها، أو عدم إمكانية وضعها في أطر التقارب والتنفيذ، بل على العكس. فقد بات من الضروري البحث عن تفاهمات تُمهد الطريق لإعادة صوغ التحالفات، بما يؤسس لخارطة طريق سياسية في سوريا، تُحقق للجميع مكاسب وامتيازات بالمعنى السياسي.
ختاماً، إن الوقائع والمعطيات التي يعيشها الداخل السوري، تفترض مقاربات جديدة على الدولة السورية اتخاذها، وقد يبدو واقعياً ومنطقياً أن تُفتح قنوات التقارب مع تركيا، إذ ليس من مصلحة دمشق وكذا أنقرة، إبقاء حالة العداء بشكلها الحالي، ومن الأجدى أن تمسك دمشق خيوط المشكلة، وتعمل على تحريكها بما يتناسب والمصلحة السورية.
ومن المهم القول، بأنه في السياسية ليس هناك عدو دائم، كما ليس هناك صديق دائم، وقد جسدت مقولة ونستون تشرشل "لا عداء دائم ولا صداقة دائمة في السياسة بل مصلحة دائمة"، القاعدة التي بني عليها السلوك السياسي، في أن السياسة في النهاية هي مصلحة دائمة في الأساس.
Your Comment