التجارب الحركية الإسلامية والمساران الشيعي والسني
عند النظر في تجارب العمل الحركي والتنظيمي الإسلامي المعاصر، في مساريه الشيعي والسني، وكذا الفكر والفقه السياسي لكلا المسارين، سنجد أن الوسط الإسلامي الشيعي كان المبادر والفاعل دائماً، ويعود ذلك الى الميول التقليدية للواقع الشيعي الى الأساليب المنظمة والحركية، والسرية أحياناً، في العمل النهضوي والاجتماعي المذهبي، وفي المواجهة الدائمة مع الأنظمة الطائفية وأنظمة الاستبداد والتبعية، تبعاً لحالة القمع والتهيش التراكمية التي ظل الواقع الشيعي يعيشها، بينما ظل النهضويون الحركيون السنة، جزءاً من المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية الرسمية للدول التي ينتمون اليها بالجنسية أو التبعية السياسية، ولاسيما الدولة العثمانية والدولة المصرية.
وكانت بدايات العمل الحركي الإسلامي السني، مع ظهور جماعة النور في تركيا في عشرينات القرن الماضي، ثم جماعة الإخوان المسلمين في مصر في العام 1928، ثم الجماعة الإسلامية في الهند في العام 1941، وفي باكستان في العام 1948، ثم حزب التحرير في فلسطين والأردن في العام 1952.
في حين أن العمل الحركي والتنظيمي الإسلامي الشيعي، بدأ في العقد الأول من القرن الماضي، وتحديداً مع الجماعات والحركات الإسلامية التي تأسست في ايران بالتزامن مع حراك المشروطة والمستبدة والمشروعة بعد العام ١٩٠٦، ثم حركة الغابة في الفترة نفسها، ثم جمعية النهضة الإسلامية في العراق في العام ١٩١٦، وحزب النجف السري في العام ١٩١٧، والجمعية الوطنية الإسلامية في العراق في العام ١٩٢٠، ثم جماعة فدائيان إسلام في ايران في العام ١٩46، ثم حركة الشباب المسلم في العراق في العام ١٩٤9، ثم الحزب الجعفري في العراق في العام ١٩٥٢، ثم منظمة المسلمين العقائديين في العراق في العام ١٩٥٣، وبعدها حزب الدعوة الإسلامية في العراق في العام ١٩٥٧.
كما أن بوادر الفكر السياسي الإسلامي التغييري الشيعي الحديث، ولاسيما ما يتعلق بفكر الدولة وولاية الفقيه والحاكمية والدستور، وفكر النهضة ضد الاستبداد والتبعية، ظهرت قبل الفكر السياسي الإسلامي السني الحديث بعقود، ومن الاجحاف والخطأ التاريخي الكبير أن ننسب الفكر السياسي الإسلامي الشيعي الحديث الى الفكر السياسي الإسلامي السني، فبزيارة قصيرة الى تاريخ أفكار السيد جمال الدين الأفغاني (مجلة العروة الوثقى= 1884) والشيخ فضل الله النوري (تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل= 1907) والشيخ الأخوند الخراساني والميرزا محمد حسين النائيني (تنبيه الأمة وتنزيه الملّة= 1909) والشيخ محمد تقي الشيرازي والشيخ مهدي الخالصي والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد محسن الأمين العاملي وغيرهم من مصلحي الشيعة وفقهاؤهم، سنرى أنها سبقت ظهور الشيخ بديع الزمان النورسي والشيخ محمد عبدة والشيخ رشيد رضا والشيخ حسن البنا والشيخ أبو الأعلى المودودي والشيخ تقي الدين النبهاني، بسنين طوال.
وحين كان الوسط الإسلامي السني يدافع عن الخلافة العثمانية، ويسوِّغ للسلطنة الوراثية ولاستبدادها في تركيا ومصر؛ كان فقهاء الشيعة ومفكروهم في ايران والنجف، ينظِّرون للفكر السياسي الإسلامي النهضوي والدولة الدستورية المشروعة، ويثورون ضد الاستبداد السلطاني الشيعي في ايران، في حين لم يظهر الفكر السياسي الإسلامي الدستوري إلّا مع أبي الأعلى المودودي في العام 1947، وإذا كان المودودي قد تحدث عن مفهوم الحاكمية عند طرح موضوع الدستور في باكستان، فإن الشيخ فضل الله النوري سبقه بأربعة عقود، وبعمق فقهي وقانوني أكبر. ويكفي أن نعرف العالم المصلح النهضوي الشيعي السيد جمال الدين الأفغاني (الأسد آبادي) هو أستاذ زعيم الفكر الإسلامي السني النهضوي الحديث الشيخ محمد عبدة. أما الشيخ حسن البنا فقد اقتبس كثيراً من أفكاره من السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده.
ولكن ما كان يؤثر في انتشار أفكار المفكرين والفقهاء الشيعة ورؤاهم السياسية والحركية، هو العامل الطائفي الضاغط، أو الحصار الطائفي بكلمة أدق، والذي يحول دون السماح بانتشار مؤلفات ودراسات وخطب وأفكار هؤلاء المفكرين والفقهاء الشيعة في الأوساط النخبوية والمتعلمة والشعبية السنية، فتبقى حبيسة الأوساط الشيعية في العراق ولبنان وايران. وهكذا الأمر بالنسبة للتجارب الحركية الإسلامية الشيعية التي سبقت حزب الدعوة الإسلامية، والتي بقيت هي الأخرى حبيسة المجتمعات الشيعية، ولم يسمع بها السنة.
وهذا هو العامل الذي دعا السيد جمال الدين الأفغاني لكي يخفي مذهبه وجنسيته، وهو الشيعي الإيراني، لكي يتخلص من الحصار الطائفي والعنصري، وقد نجح في ذلك، حتى عدّه المفكرون والمؤرخون السنة مؤسساً للنهضة الإسلامية التحررية المعاصرة. وربما كان هذا هو السبب نفسه الذي دعا السيد محمد باقر الصدر ورفاقه من مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية ورواده الى عدم التركيز على مذهبية حزب الدعوة الإسلامية خلال المرحلة الأولى، أي حتى العام 1979، وكذا المرونة المذهبية في خطاب الثورة الذي طرحه السيد محمد باقر الصدر خلال العامين 1979 و1980، لأن السيد محمد باقر الصدر وغيره من مفكري النهضة الإسلامية الشيعية وفقهائها، كانوا يعلمون أنهم يعيشون غرباء في بلدانهم، تحت رحمة أمواج متلاطمة من الروح الطائفية المقيتة، التي تغذيها الأنظمة ومؤسساتها الدينية، لتغلق أي ثغرة ــ كما تسميها ــ في المجتمعات السنية، قد ينفذ من خلالها الخطاب الشيعي. ولم يقتصر هذا الحصار على الأنظمة الطائفية والمؤسسات الدينية والثقافية الحكومية السنية، بل ظل يتسع للحركات الإسلامية السنية والمجتمعات الدينية السنية، وصولاً الى دور النشر والصحف والمجلات والمؤسسات الإعلامية والمراكز الثقافية والدينية الأهلية أيضاً.
وإذا كان الباحث والمؤرخ السني يعيش تحت وطاة هذا الحصار، أو يتذرع بصعوبة وصوله الى المعلومة المتصلة بالمسارات والمناخات الفكرية والحركية الشيعية؛ فإن المثقف والباحث الشيعي، الذي هو ابن هذه المسارات والمناخات، لكنه يتجاهل كل ذلك التراكم الحركي والتنظيمي والفكري والفقهي السياسي الشيعي، ويرى أن الفقهاء والإسلاميين الحركيين الشيعة، عندما أسسوا التنظيمات والأحزاب الإسلامية الشيعية؛ فإنهم تأثروا بفكر الحركات والتنظيمات السنية؛ فهو أما لم يطّلع على تاريخ الفكر السياسي والنهضوي والحزبي الشيعي المعاصر، وإما أنه يتحدث بدافع النكاية بالفكر السياسي الإسلامي وبالعمل الحزبي الإسلامي الشيعي، يسبب موقفه الفكري السلبي المسبق منهما، أو أنه يعيش حالة عدم الثقة بالنفس، لأنه اعتاد أن يصنِّف النهضة الشيعية في خانة الانفعال والتأثر، وليس الفعل والتأثير، وبأنها متأثرة دائماً بالفعل السني، وهو ما يتعارض مع أبجديات التاريخ الشيعي المعاصر. بيد أن عدم الإطلاع وعدم الثقة بالنفس والموقف الفكري السلبي؛ لن يعذره من شطحة العبور على التاريخ وتزييف الحقائق، وإن انطلق من نية حسنة ولم يكن عامداً.
وبالتالي؛ فمن الغريب افتراض أن الإسلاميين الشيعة، وتحديداً السيد محمد باقر الصدر ورفاقه المؤسسين لحزب الدعوة الإسلامية ورواده؛ قد تأثروا بالفكر الحركي الحزبي السني المتأخر زمنياً، ولم يتأثروا بالفكر الحركي الحزبي الشيعي المتقدم زمنياً، والحال أن تأثرهم بالفكر الحركي والنهضوي والسياسي الشيعي الذين سبقهم، هو الأَولى والأصح، ليس لأن العمل الحركي التنظيمي الإسلامي ظهر في الوسط الإسلامي الشيعي قبل الوسط السني؛ بل لأن الفكر والفقه الشيعيين، هما اجتهاديان وتفاعليان، وغير مقيدين بفقه المؤسسة الدينية الرسمية التابعة للدولة، ولا سيما في الموضوعات العامة، فضلاً عن أن الواقع الشيعي هو واقع معارِض وحركي وتنظيمي بالأساس.
Your Comment