أعطني قضاءً نزيهاً.. أُعطك بلداً قوياً.. إسقاطات لبنان وسورية.


القضاء دعامة كبرى لتحقيق العدل وحمايته، وإرساء قواعد الأمن والاستقرار، وإشاعة الطمأنينة في المجتمع وحفظ كيانه، فمن خلاله تتجلى مظاهر الثقة في مؤسسات الدولة ومنها المؤسسة القضائية، ولا تتكرس تلك الثقة إلا بتوفر مقومات تضمن حق المحاكمة العادلة، وتبرز بوضوح معالم استقلالية القضاء، والركون إلى العدل والإنصاف، وعدم المماطلة في الفصل في النزاعات. فإذا اطمأن الناس للقضاء انطلقت كوامن ملكات البذل والإبداع والإسهام في خدمة البلد والدفاع عن مقوماته، والسعي لتنميته وازدهاره.
والقضاء جزء لا يتجزأ من أجهزة الدولة؛ فلا ينفك وما ينبغي له عن مقومات الأمة وتطلعاتها. وإن الشعوب التي لا تربطها روابط عاطفية من أي نوع، والتي تقوم العلاقات بين أفرادها وجماعاتها إلا على المصلحة فقط لا يكون لها في الغالب دوام بقاء، كما لا يكون لها تقدم عمراني مذكور؛ ذلك لأن الروابط العاطفية من شأنها أن تعصم الجماعات والمجتمعات من الانحلال عندما تتضارب مصالحها، وتحفظ كيانها عندما تعصف بها عواصف الشهوات المادية، وتقيم بينها ميزان العدل والسلم بدل الفتنة والظلم.
هذه المقدمة هي تمهيد وإسقاط، لحالة لابد من تأصيلها في المجتمعين السوري واللبناني، خاصة أن هذان المجتمعان متداخلين جغرافياً واجتماعياً، كما أن الحالة السياسية في كلا البلدين، تنعكس على الأخر تأثراً وتفاعلاً، ولابد في هذا الإطار، أن يكون القضاء كمنظومة مستقلة، له دور أساسي في تفنيد الخلافات السياسية التي تمر بها الدولة، ووضع حدود وخطوط حمراء، على كل الأفرقاء السياسيين، يُكلف تجاوزها مساءلة وتحقيق مباشر، والأهم في كل ذلك، أن يكون القضاء خارج أي حسابات سياسية، بمعنى عدم تسيسيه، بُغية رفع الدولة إلى مصافي الدول المتقدمة.
لبنان الذي يشهد حالياً أزمات سياسية واقتصادية ومجتمعية خانقة، تزيد من صعوباته حالة القضاء المُسيس، الأمر الذي هز أركان الدولة اللبنانية في مناسبات عدة، ما يُنذر بازدياد معاناة البلاد، التي يُهددها الانهيار التام، وما نُريد أن نقوله هنا، وكمثال مباشر على توصيف القضاء المُسيس، تلك الأزمة التي ظهرت في كف يد النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون، عن ملفات مالية تتعلق بالفساد، ويُذكر هنا بأن القاضية عون، محسوبة على الرئيس ميشال عون وصهره النائب جبران باسيل، الأمر الذي يطرح تساؤلات جمّة لجهة الهدف من كف يدها، وسحب قوتها القضائية، ومنعها من الاستمرار بعملها حيال متابعة ملفات الفساد، وتحديداً تلك المتعلقة بالنواحي المالية للدولة والهدر العام.
لكن القاضية عون تمردت على قرار النائب العام التمييزي غسان عويدات، بكفّ يدها عن القضايا المالية، واقتحمت ليومين متتاليين مكاتب مكتف لاستيراد الأموال” مدعومة بمناصرين من “التيار الوطني الحر” للحصول على وثائق ومستندات، وهو ما لاقى رفضاً لبنانياً واسعاً من قبل تيارات وأحزاب تناهض ميشيل عون وجبران باسيل.
وبنظرة أشمل على تسيس القضاء اللبناني، ومنعه من التدخل في أزلام بعض السياسيين، وربطاً بالقاضية عون، فقد كانت قضية “مكتف” ضمن القضايا التي تتولاها عون، لكن النائب العام التمييزي اتخذ قراراً قبل أيام، بتعديل المهام وإحالة القضايا المالية إلى قاضٍ آخر، بما فيها تلك المتعلقة بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة والصيارفة على خلفية التلاعب بسعر صرف الدولار في السوق السوداء، إضافة إلى قضايا الأموال المهربة من لبنان.
ووفق تقارير لبنانية، فإن قرار عويدات جاء كإجراء تأديبي لمخالفة عون القوانين والأصول، التي تنظم عمل القضاء والتعاميم الصادرة عن النائب العام التمييزي، لكن في العمق، يبدو واضحاً أن كف يد القاضية عون، مرتبط بحسابات سياسية بقوى وأحزاب المستقبل والكتائب غيرهم، لا مصلحة لهم بكشف مثل هذه الملفات، لتورطهم المباشر بها، وبالتالي فإن قرار القاضي عويدات، جاء متناغماً مع تلك الأحزاب، لإبعاد تحقيقات الفساد عنهم.
ضمن ما سبق لجهة القاضية عون والقاضي عويدات، نُدرك بأن القضاء في لبنان، كما غيره من المؤسسات، خاضعاً للانقسامات السياسية التي تنعكس بدورها على القضايا ومنها المالية الأخيرة، والتحقيقات المرتبطة بتهريب الأموال ورفع سعر صرف الليرة اللبنانية، والتي تشكل السبب الرئيسي في الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعاني منها الشعب اللبناني.
وبذلك، لابد من تحييد القضاء عن صراعات قوى السلطة، التي أوصلت البلاد إلى حالتها الراهنة، ورفع اليد عنها، والكف عن محاولات استتباعه واسترهانه وزجه في صراعات النفوذ، والمحافظة على هذه المؤسسة التي يفترض أن تكون الضمانة والجدار الصلب الذي يجب أن يتصدى لكل أشكال الفساد، وبذلك ومع الحفاظ على القضاء كمؤسسة لبنانية جامعة، يتم إنقاذ لبنان من الانهيار، خاصة أن كشف شبكات الفساد المالي في لبنان، سيكون له منعكسات سياسية واقتصادية غاية في الأهمية، والنقطة الأبرز في ما سبق، أن يكون القضاء غير مسيس ليقوم بمهامه على أكمل وجه.
في سورية التي عانت وعلى مدى عشر سنوات، من حرب بمستويات متعددة، منها السياسي ومنها العسكري، دون تغييب مفردات الحرب الاقتصادية، وكنتيجة منطقية وطبيعية لمفرزات الحرب وتداعياتها، لابد أن تحدث حالة من الخلل المُجتمعي، تكون لها انعكاسات على تضخم حجم الفساد والفاسدين، بل واستثمار البعض في عناوين الحرب، والعمل على منع توقفها، مع الضغط على بعض القوى الإقليمية والدولية، بُغية تأمين استمرار تدفق السلاح إلى سوريا، لِما لهذا الأمر من فوائد يجنيها تُجار الحرب في سوريا، أو كما يُسمون دواعش الداخل.
وبعد أن وصلت الحرب في سوريا، إلى المرحلة النهائية، وانكشاف شبكات الفساد والمستثمرين بالحرب، وبدء الدولة السورية ببناء واقع سياسي ومجتمعي جديد، لابد من تعزيز دور القضاء بكافة مؤسساته، وأكثر من ذلك، لابد أن يكون للقضاء السوري، سلطة على كافة الوزارات والمؤسسات، والضرب بيد من حديد على كل الفاسدين ومنظومة الفساد التي انتشرت وبكثرة في مؤسسات الدولة السورية، وبالتالي فإن القضاء السوري، لابد أن يكون مستقلاً بالكامل، لا تتحكم به سلطة مسؤول، ولا متنفذ هنا أو هناك.
ولا نُجافي الحقيقة إن قلنا، بأن بعض الفاسدين في سوريا، لديهم هيمنة على بعض مفاصل القضاء، الأمر الذي يردع الكثير من السوريين، من التوجه إلى الهيئات القضائية لتقديم شكوى بحق الفاسدين، على الرغم من حيازة ملفات ووثائق تُثبت فسادهم، وفي جانب آخر، فإن البعض انطلق من إيمانه بسوريا، وضرورة محاربة الفساد، بل والإضاءة على مكامنه، فكانت تأتيهم الكثير من التهديدات، وفي حالات قليلة يتم إسكات صوتهم بطرق متعددة، ولا مجال هنا لنورد بعض الحالات، لكن ما يُمكن قوله، أن القضاء في سوريا، وبرغبة شخصية من الرئيس الأسد، سيكون مُستقلاً وفعلاً ومؤثراً، بل وسيكون له صلاحيات مطلقة في المرحلة القادمة، لا سيما أن القادم من الأيام في سوريا، سيكون حافلا بفتح ملفات الفساد والفاسدين، وهذا يُعد خطوة أولى في إعادة إعمار سوريا فكراً ومجتمعاً، قبل الحجر.
ضمن ما سبق، لابد من التذكير بأن في بعض المحاكم في سوريا، هناك قضاة فاسدين، وهذا الأمر له منعكسات وتأثيرات جمّة على هيكلة القضاء السوري، الأمر الذي يجب معالجته فوراً، بل واستئصاله نهائياً من أروقة المحاكم، فالقاضي الفاسد له تأثيرات على سير العدالة بين المواطنين، وبالتالي على المجتمع، وعلى كل أركان الدولة، إذ لا يعقل أن تتم محاكمة أحدهم بعقوبة أقل بكثير من العقوبة التي يستحقها، فقط لأنه يمتلك مالاً يرشي به، أو لأنه “محسوب” على أحد المتنفذين في الحكومة، وهذا الأمر يعكس بشكل حقيقي وواقعي، فساد القاضي، مع إعطاء فرصة للكثيرين بأن يسلكوا نفس المسار، ما يعني وجود تهديد حقيقي لنزاهة القضاء والقضاة، وبذات الإطار، لابد من العمل على تمكين القضاة في نواحي عدة، كالفصل بين الأحزاب في سوريا، وحتى على مستوى الوزارات والمؤسسات الحكومية، لابد أن يكون للقضاء إطلاع مباشر على عمل الحكومة بوزاراتها ومؤسساتها، بشكل يؤسس لعمل حكومي قوي وغطاءه القضاء النزيه.
في الخلاصة، القضاء هو أساس بناء الدولة، وحين يكون القضاء نزيهاً، يُبنى وطناً قوياً، وفي سوريا كما لبنان، هناك الكثير من مفاصل الحياة بمستوياتها كافة، تحكمها تفاصيل الحياة السياسية، لكن في سوريا بصورة أقل، ورغم ذلك، لابد من تحييد السياسة عن القضاء، والضرب بيد من حديد، على الفاسدين، وتعطيل منظومة فسادهم، لبناء سوريا أقوى ولبنان أبهى، مع التأكيد دائما، على أن سوريا، وتجنباً لفساد الكثير من مفاصل القضاء في لبنان، لابد من العمل على تعزيز المؤسسات القضائية في سوريا، وتهيئة القضاة بشكل يُمكنهم من ممارسة مهامهم دون التأثير عليهم من قبل المتنفذين ودواعش الداخل في سوريا، وبذلك نمنع تجربة القضاء في لبنان، من الانتقال إلى سوريا.

المصدر: رأي الیوم