قراءة في العدوان الإسرائيلي على مرفأ اللاذقيّة


بعد الإستهدافين الإسرائيليين الأخيرين لمرفأ اللاذقيّة السوري، لم يكن مُفاجئاً ذلك الغضب العارم من قِبل السوريين، ولومهم للقيادة السورية بتأخرها بالردّ المباشر على هذين العدوانين  وللقيادة الروسية التي وقفت مُتفرجةً على الطيران الإسرائيلي وهو يقصف بالقرب من أكبر قواعدها في سوريا، وبطبيعة الحال، فإن غضب السوريين وعتبهم يلقيان كلّ الاحترام والتقدير، لأنّ ذلك يكشف عن مدى محبّتهم لوطنهم، واعتزازهم بكرامتهم، وبأنّهم مستعدون لخوض كلّ شيء في سبيل ذلك.
الآن، وبعد أن بردت الرؤوس، وهدأت العواطف، فربّما أصبحنا نلقى آذاناً صاغيةً عند الخوض في هذا الموضوع، ولذلك سنُحاول أن نقرأ ما جرى بصورةٍ موضوعيةٍ وواقعيةٍ، بعيداً عن جلد الذات، ولوم الصديق، وهنا سنناقش مواقف الدولتين المعنيتين، أي سوريا وروسيا، بالإضافة إلى موقف الكيان الإسرائيلي

▦ الموقف الروسي:
• بدايةً يجب علينا أن نعترف أن روسيا اليوم هي ليست الاتحاد السوفييتي السابق، فالقيم والمبادئ التي كان يتحلى بها النظام السوفييتي، من نهجٍ اشتراكيٍ، وتمسّكٍ بالصداقة، ودعمٍ للقضايا المُحقّة، وما شابه، تراجعت الآن ليحل مكانها النهج الرأسمالي، واتباع مصالحها الوطنية، بصرف النظر عن الأسلوب المُتّبع لتحقيق هذه المصالح، حتى لو كان هذا الأسلوب لا يتناسب مع مصالح دولٍ أخرى، كانت فيما مضى صديقةً للإتحاد السوفييتي، وبطبيعة الحال، هذا حقٌ مشروعٌ لروسيا ولغيرها من الدول.

كما علينا أن ندرك، أنّ مشاركة القوات الروسية مع الجيش العربي السوري في العمليات العسكرية، تقتصر على مواجهة القوى الإرهابية المُسلّحة في الداخل السوري، إضافة للدعم السياسي، والعسكري، واللوجستي، وبالتالي هي ليست بوارد خوض حربٍ مع أيّة دولةٍ دفاعاً عن سوريا أو عن غيرها، لأنّ أيّ مواجهةٍ عسكريةٍ مع أيّة دولة،ٍ سواء مع تركيا، أو مع الكيان الصهيوني، سيتسبب بدخول أكثر من طرفٍ لنجدة أيٍّ منهما، ما يعني الإنزلاق نحو حربٍ عالميةٍ لا مصلحة لأحد بها.

• العامل الثاني المؤثر في سياسة روسيا تجاه "إسرائيل"، هو قوة اللوبي الصهيوني في روسيا، وتمكنه من فرض سيطرته على مختلف جوانب الحياة الروسية، ومن المعروف أن هذا اللوبي قدّم كلّ أشكال الدعم للرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين لكي يصل إلى سدّة الحكم، وذلك بالتنسيق مع الحركة الصهيونية العالمية، وبعد سنواتٍ قليلةٍ من حكمه أصبح اليهود يشغلون حوالي نصف المناصب السياسية والإقتصادية والإعلامية والثقافية والعلمية الهامّة في روسيا، وما زال هذا اللوبي يتمتع بالقوة القادرة على التأثير في السياسات الروسية.

• العامل الثالث، هو أن حوالي مليون يهودي جاؤوا من الإتحاد السوفييتي السابق وسكنوا في "إسرائيل"، ومعظمهم هاجر إلى "إسرائيل" بعد تفكّك الإتحاد، وهذا الأمر برغم أهميته لجهة العلاقات الثنائية بين الطرفين، من حيث التجارة والسياحة، إلّا أنه عاملٌ ضاغطٌ على أيّ توجهٍ روسيٍ لا يُرضي "إسرائيل"، وقد عمل المستوطنون الروس على الشأن الإعلامي بشكلٍ كبيرٍ، بحيث أصبحوا يمتلكون عشرات الوسائل الإعلاميّة، من محطات راديو وصحف ومجلات، وكلّها ناطقةٌ باللغة الروسية.

• العامل الرابع، هو اتفاقيات التعاون العديدة الموقّعة بين روسيا و "إسرائيل"، والتي تشمل كافّة المجالات، بما فيها المجالات الأمنية، والعسكرية، والفضائية، والتجارية، لذلك لا يمكن لروسيا، ولا مصلحة لها أن تضرب علاقتها مع "إسرائيل" عرض الحائط.

▦ الموقف الإسرائيلي
مؤكّدٌ أن العدوانين الأخيرين على مرفأ اللاذقيّة يحملان عدد من الأهداف، حيث يأتي في مقدمتها، إيقاف تقدم إمكانيات محور المقاومة العسكرية، إذ بات القادة الصهاينة على قناعةٍ، بأنّ شعار زوال كيانهم هو ليس مجرّد شعاراً نظرياً يستحيل تحقيقه، وأنّه تحوّل إلى شعارٍ يمكن تنفيذه في أيّ وقتٍ من الأوقات، كذلك أصبحوا متأكدين أنهم لن يستطيعوا التصدي لهذا الخطر لوحدهم، ولذلك يعملون لجرّ العالم خلفهم، وبقوّة الأمر الواقع، لخوض مواجهةٍ عسكريّةٍ مع أحد أطراف محور المقاومة، على أن يتدخل كافّة أعضاء هذا المحور في هذه المواجهة، وبالتالي يستطيع الصهاينة أن يُشعلوا حرباً قد تستطيع القضاء على كلّ إمكانيات المحور، بما فيها البرنامج النووي الإيراني، والصواريخ التي أصبحت مزروعة في محيط "إسرائيل" وصولاً إلى الصواريخ الاستراتيجيّة بعيدة المدى المُتواجدة في إيران، ولذلك اختاروا مرفأ اللاذقيّة كونه هدفاً لا يمكن لسوريا السكوت عن استهدافه، باعتباره أصبح الرئة الوحيدة التجاريًة التي تتنفس منها في ظلً حصارٍ خانقٍ.

• الهدف الثاني، هو زيادة الحصار على سوريا، ومنع البواخر وشركات التأمين من الوصول إلى مرفأ اللاذقيّة، باعتباره أصبح مكاناً غير آمن.

• الهدف الثالث، قد يكون رسالة إلى حليفتهم أوكرانيا، تقول أن روسيا ليست تلك القوّة المُخيفة، بدليل أنّنا نقصف أهدافاً تقع على تخوم أكبر قاعدة لها في سوريا والمنطقة، وهذه الرسالة قد تدفع بأوكرانيا إلى مزيد من الخطوات الاستفزازيّة تجاه روسيا، مما يشغل الأخيرة عن ملفات الشرق الأوسط.

• الهدف الرابع، هو إبعاد كلّ المرافئ التي تُقلّل من أهمية مرفأ حيفا في فلسطين المحتلة، ليكون مرفأ حيفا هو الوحيد القادر على تنفيذ مبادرة الصين "الحزام والطريق"، وقد يكون هذا السبب الأساسي لتدمير مرفأ بيروت عام 2020م

▦ الموقف السوري
ما من شكٍّ أنّ سوريا وحلفاءها يدركون كل ما تسعى له "إسرائيل"، ويستطيعون تعطيل ذلك بطريقةٍ أو بأخرى، ولن ينجرّوا إلى حربٍ شاملةٍ معها حسب توقيتها، لأن أولوية دمشق الآن هي استكمال تحرير أراضيها من الإحتلالين الأميركي والتركي وأدواتهما، ولكنّها لن تتوانى عن الردّ بطريقةٍ غير مباشرةٍ، بانتظار أن تتهيّأ الظروف للردّ الذي يتناسب مع ما تقوم به "إسرائيل".
  

وفي الختام، يُدرك الإسرائيليون أن الوقت لا يعمل لصالحهم، وأن أطراف محور المقاومة قد استثمروا الوقت بأفضل ما يمكن في تطوير قدراتهم القتالية، كما يدرك الإسرائيليون أنً كلّ يومٍ يمرّ تزداد قوّة هذا المحور، فلا العقوبات على إيران أوقفت تطوير قدراتها العسكرية، ولا الحرب على سوريا أطاحت بها أو بقيادتها، ولا تهديد المقاومة يُجدي، ولذلك نرى القادة الصهاينة يُسابقون الزمن لافتعال حربٍ، لاعتقادهم بأنّها الطريقة الوحيدة التي توقف تطور قدرات هذا المحور، ويكاد لسان حال محور المقاومة يقول للإسرائيليين، نعدكم أن تصلوا للحرب، ولكن بحسب توقيتنا، وإنّ غداً لناظره قريب.