قيادة الأزمة... ضرورة إستراتيجية

" في وقت الأزمات يبرز القادة الجيدون" رودي جولياني


عالم اليوم وفي ظل تنامي الأزمات المتتالية يتطلب فهما عميقاً و واضحاً لمعنى الأزمة وآليات التعاطي معها، في ضوء ما يمتلكه القادة من قدرات وإمكانيات تمكنهم من إيجاد ممرات آمنة للتعامل معها وتذويبها ومنع انعكاساتها من التأثير على مجمل الوضع العام في أي مؤسسة أو بلد، لتهدد استقراره أو انهياره في اقسى الحالات.
تعد قيادة الأزمات مكون حاسما للقيادة الفعالة حيث يعد التعامل مع الأزمة من أخطر الأمور التي قد تواجه صاحب القرار أو المسؤول الأعلى، لما لذلك من أهمية في التأثير على شؤون الرعية ومصالح البلد العليا. قبل الخوض في مناقشة مفهوم قيادة الأزمة، من المهم التعرف على ماهية الأزمة و أطوار نموها بالإضافة الى مفهوم القيادة وخصائصها لبلورة رؤيا واضحة عن دور القادة في وقت الأزمات. 
تُعرّف الأزمة بشكل عام على أنها " تطور سريع لحدث معين يسبب خللاً واضحاً في منظومة معينة تتطلب استجابة سريعة، من أجل التخفيف من العواقب اومنع حدوثها ".
وعلى مستوى الأمن القومي، فقد تم تعريف الأزمة على أنها " حادثة او موقف يتطور بسرعة ويتطلب معالجة تتوائم و كفاءة عناصر القوة الوطنية دبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً ومعلوماتياً، لتحقيق أهداف وطنية وحماية المكتسبات بصورها المختلفة وحفظ الأمن بشقيه الداخلي والخارجي للدولة".
 أما القيادة فتعرف بأنها "عملية يقوم بها فرد أو مجموعة، للتأثير على مجموعة من الأفراد لتحقيق هدف مشترك". ومن خلال ما عرضنا بشأن التعريفين أعلاه، يمكن تعريف قيادة الأزمة على أنها " عملية الاستجابة لحدث ما أو موقف مؤثر، من خلال التأثير في الآخرين وحثهم على التغلب على الحدث أو الموقف أو الاستفادة منه في وقت مناسب". 
يشير ميتروف الى إن " الأزمات والكوارث والمصايب هي حقائق مؤسفة ولكنها حتمية في الحياة، حيث كانت معنا منذ البداية و ستبقى حتى نهاية البشرية. باختصار هي جزء لا يتجزأ من حالة الإنسان".
عادة ما تمر الأزمة بأطوار محددة تتمثل بخطوات يمكن من خلالها الاستشعار بها وتقليل اضرارها أو منعها في أحسن الحالات، ومن هذه الأطوار حسب ما طرحه ميتروف:
•    تجنب الأزمات: وذلك من خلال جعل التخطيط للأزمات جزءا من سلسلة عمليات التخطيط الاستراتيجي بالإضافة إلى تضيق نطاق قائمة مخاطر الأزمة وقراءة إشارات وتحذيرات انطلاقها.
•    الاستعداد للأزمة: من خلال تهيئة فرق التعامل مع الأزمة وتحليل السيناريوهات الاستراتيجية واستقراء الآثار الجانبية بإجراء فحص دقيق للواقع.
•    التعرف على الأزمة: من حيث ماهية ما قد تسببه من ضرر على المصالح الخاصة والعامة.
•    احتواء الأزمة من خلال اتخاذ قرارات استجابة سريعة وسياسة اتصال فعال مع أصحاب المصلحة والجمهور والقوى الفاعلة، فضلا عن السلطات الساندة.
•      حل الأزمة: من خلال إدارة وقيادة تتعامل بوعي وقدرة كبيرة على التحمل والعمل تحت الضغط العالي وفي بيئة متسارعة الأحداث غير متنبئة العواقب، وهو ما يتطلب دور قيادي فعال و إجراءات حاسمة ذكية وقرارات مدركة لأهمية ما قد تؤول إليه الأحداث والمواقف.
•      المراجعة والتقييم: حيث تتم في هذه المرحلة مراجعة كيفية التعامل مع الأزمة ومتى تم إدراك وجودها وإشارات التحضير لها، وما الذي تم القيام به بشكل جيد ومن الذي كان لابد من القيام به بشكل أفضل لتكون النتائج أفضل، وما هي الخطوات والتحضيرات الواجب اتباعها لمنع حصول هذه الأزمة مرة أخرى.

قد تعد الأزمة الظرف الكاشف عن طبيعة القيادة و آلية التعامل معها  وهو ما يتطلب خطوات معينة يمكن إيجازها في الآتي:
1.    الكشف المبكر: قد يكون من الصعب اكتشاف الأزمات تدريجيا قبل أن تلحق الضرر بالمنظمة أو المؤسسة، وحتى إذا ظهرت الأزمة بسرعة فقد لا يدرك القادة مدى تأثيرها حتى وقت لاحق، لذا قد يساعد التعرف المبكر على تطوير اسلوب قيادي قوي وفعال، وهو ما يتطلب مواكبة للأحداث الدولية والإقليمية، و دراسة تأثيرات ذلك على الشان الداخلي فضلا عن تحليل وفهم تحديات البيئة الداخلية ومشاعر المجتمع مع التركيز على دور جمع المعلومات الدقيقة للاجهزة المتخصصة بعيدا عن ما قد تصوره بطانة السلاطين.
2.    الحنكة والقدرة على إدارة الغموض: يدرك القادة في وقت الأزمات أنهم لن يمتلكوا جميع الإجابات لذا عليهم أن يحددوا مسارات المضي قدما بما يمتلكون من معلومات، والتفكير فيما وراء الأزمة وخارج الصندوق بنهم و فضول، الامر الذي سينمي قدرات متوازنة وفقاً للمصالح الرئيسية. فعلى القادة أن لا يتراجعوا، ويسعون إلى إدارة التغيير للتعامل مع الغموض.
3.    تحديد الأولويات عند اتخاذ القرارات: كقادة في وقت الأزمات لابد من وضع أولويات للاستجابة، ولتكن سلامة الجمهور وفرق الاستجابة على راسها، الأمر الذي يضمن حماية حياة الإنسان و أمنه ومن ثم الانتقال إلى الضرورات اللاحقة وفقا للأولويات المعدة.
4.    التفاءل المحدود: أن النظرة المتفائلة مع إدراك جدية القضية تسمى " بالتفاءل المحدود " وهي الطريقة التي يمكن للقائد من خلالها تهدئة الجمهور والموظفين وأصحاب المصلحة، بينما يظلون متيقظين لما يجابهونه من مخاطر. عادة ما يكون في البيان الذي يصدره القائد في وقت الأزمة رسائل واضحة للتعاطف مع معاناة الأمة، إلا أنه لابد للقائد أن يظهر ثقته على تجاوز الأزمة و مثابرة المجتمع للتغلب على صعوباتها. 
5.    التواصل الشفاف في وقت الأزمات: يمكن للتواصل الشفاف مع المجتمع والجمهور وأصحاب المصلحة أن يبعث برسائل مطمئنة، لذلك من الضروري وضع خطة اتصال فعال من خلال الاعتراف بوجود الأزمة ومن ثم معرفة تأثيراتها وانعكاساتها والتأكيد على السعي لتجاوزها وعدم تكرار حصولها. أن المعلومات التي من الممكن أن تقدم حول خطة الاستجابة ستزيد من ثقة الجمهور بقيادته. هناك ضرورة أيضا إلى الشفافية في الأفصاح عن ما لا يحرز امتلاكه من معلومات، كما أن الوعد بالبحث عن المزيد من المعلومات سيعزز الثقة بالإجراءات والردود المتبعة للاستجابة. لابد من أن يوضع بنظر الاعتبار إعلام الجمهور بتحديثات الموقف، كما يمكن مناقشة الخطوات المتبعة مع الجمهور لمشاركة المسؤولية و تشجيع القيادة على تعديل خطط واستراتيجيات الاستجابة. قد تكون وسائل التواصل الإجتماعي فرصة جيدة للتواصل مع الجمهور لمنع الشائعات وتنامي مشاعر الغضب التي قد تُستغل من قبل الأطراف المعادية.
6.    الاستعداد لطلب دعم إضافي: في حالات الأزمات يسعى اغلب القادة إلى الاحتفاظ بالسلطة، إلا أن أهمية طلب الدعم الإضافي لاسيما وقت الأزمات التي تقل او تضعف معها الموارد هو أمر ضروري لتجاوز الأزمة، بالإضافة إلى تعزيز التعاون وفق الاهداف المعدة والمشتركات المسؤولة.
7.    القدرة على التكيف: يتميز القادة الجيدون في وقت الأزمات بالقدرة على التكيف وتغيير خطط الاستجابة و مراجعتها وفقا لتطورات الموقف. 
ان دور القيادة يتعاظم في أوقات الأزمات الحادة، وهو ما يتطلب مواجهة مباشرة للتهديدات على المستويين الأمنيين الوطني والقومي. أن الضرورات الاستراتيجية لقيادة الأزمات تحتم وضع أسس ومتبنيات التوافق بين المصالح المتعارضة وتقليل الخسائر واتخاذ القرارات السريعة رغم محدودية الوقتز كما أن الاعتماد على إعداد وتحليل السيناريوهات والمعلومات سيعزز قدرة التواصل، بالاضافة الى توزيع الصلاحيات وتهيئة قيادات الصف الثاني البديلة، فـ " القائد الحقيقي هو من يقوم بتهيئة قادة". 

وعطفاُ على ما تقدم، فإن الضرورة الاستراتيجية لقيادة الأزمة قبالة ما تتبناه خطوات إدارة الأزمة على المستوى التكتيكي تعتمد بالأساس على التوقع قبالة رد الفعل، و الإجراءات طويلة المدى قبالة الإجراءات قصيرة المدى، ومبادئ الاستجابة قبالة العمليات، والتركيز الشامل قبالة التركيز اللحظي الضيق، بالإضافة الى القدرة على وضع أسس اتخاذ القرارات المدروسة للتوصل إلى إستنتاجات معقولة قبل تنفيذ القرارات المتخذة. 

وأخيرا، قد تكون الأزمة التي يواجهها القادة هي اللحظة الحاسمة في الحياة المهنية، فالقادة الذين لا يستغلون الأزمات لإجراء تغيرات طويلة المدى لا يهدرون الفرص فحسب بل يزرعون البذور لتكرار التجربة. كما أنه من الضروري الاشارة الى ان أي تعلم لمهارات قيادة الأزمة لن يسد النقص أو الخلل في شخصية القائد ونزاهته أو قيمه الأخلاقية.