الحروب والبحث عن مُجرميها...


في التوصيف، ثمة تعريفات متعددة لـ جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، إذ يُشير كل منها إلى نظام قانوني مُختلف، على المستويين الوطني والدولي، حيث صُنفت تلك الجرائم على المستوى الدولي، بوضوح بعد الحرب العالمية الثانية، في قوانين المحاكم العسكرية الدولية التي أقامها الحلفاء في نورمبرغ وطوكيو؛ وفي اتفاقيات جنيف 1949 وبروتوكوليها الإضافيين 1977 "تحت توصيف الانتهاكات الجسيمة لهذه الاتّفاقيات"؛ وفي عامي 1993 و1994 في قوانين المحكمتين الجنائيتين الدوليتين الخاصتين بيوغوسلافيا السابقة ورواندا. وكذلك فإن قانون المحكمة الجنائية الدولية الدائمة الصادر في تموز/ يوليو 1998، والذي دخل حيّز التنفيذ في تموز/ يوليو 2002، يوضح قائمة شاملة بالجرائم التي تخضع للعقوبة من قبل هيئة قضائية دولية. وبحلول نيسان/ أبريل 2013، صادقت 122 دولة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

جرائم الحرب، وكذا الجرائم ضد الإنسانية، ومثلها جرائم الإبادة الجماعية، لها تعريفات واضحة في القوانين الجنائية الخاصة لكل دولة، وتخضع بموجب تلك القوانين للعقوبات. إلا أن الاسم الدقيق الذي يؤطر تلك الجرائم، والعناصر التي تُحددها، تتفاوت حسب كل قانون وطني، لكن في المقابل، فإن المحكمة الجنائية الدولية، ساهمت في المواءمة بين التعريفات الوطنية لهذه الجرائم. بيد أن محاولة إيقاع العقوبة على مرتكبي تلك الجرائم بواسطة الجهات القانونية الوطنية قد واجهت قيودًا واضحة، لأنها غالبًا ما ارتكبت في سياق نزاع مسلح، وشاركت فيها جيوش وطنية وممثلون للسلطات الحكومية. وكذلك فإن الأنظمة القضائية الوطنية التي يعتمد عليها المتهم أو الضحية من غير المرجح أن تظلّ في تلك الحالات مستقلة أو نزيهة ولن يكون لديها الوسائل الضرورية لإجراء المحاكمات بكفاءة.

في ذات الإطار، وضمن المنطق اللا موضوعي، فإن الولايات المتحدة تُصر على محاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على خلفية العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، واتهامه بارتكاب جرائم حرب، لكن ضمن ذلك، فإن الولايات المتحدة، لا تملك الولاية القضائية على أوكرانيا، ولا تملك أدلة دامغة، على جرائم بوتين المزعومة، وبالتالي سيكون من المستحيل إثبات الوقائع التي تدعي واشنطن بوقوعها، وفي المقابل فإن الأخيرة لا يُمكنها حتى إثبات بأن بوتين قد أمر بالفعل بارتكاب ما تُسميه واشنطن جرائم ضد الإنسانية.

وضمن مُعطيي إساءة الفهم وإساءة الاستخدام، فإن الإشكاليات التي رافقت مُصطلحي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لا يُمكن حصرها، خاصة أنه في زمن الحروب، توجد أنشطة معينة غير مقبولة بالمعنى القانوني، ومن المؤكد أن الحرب العالمية الثانية، تضمنت فظائع من أنواع مختلفة على كلا الجانبين، لكن القصف الأمريكي المتعمد على المدن الألمانية آنذاك، وتحديداً في هامبورغ ودريسدن، لم يُكن مُبرراً، في وقت كانت فيه ألمانيا على وشك الهزيمة في الحرب، وكان لافتًا أن تلك المدن لم تكن هدفًا عسكريًا، وكانت مليئة باللاجئين، لكن كانت حصيلة القصف الأمريكي مقتل ما لا يقل عن 200000 مدني.

في جانب ذي صلة، فإن أكبر جريمة حرب في التاريخ، كانت القصف النووي الذي أمر به الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان 1945" حتى 1953" لهيروشيما وناغازاكي، والذي قتل على الأرجح أكثر من 200000 معظمهم من المدنيين، عندما كانت اليابان تستعد أيضاً للاستسلام، ونظرًا لأن هاري ترومان كان في الجانب الذي ربح الحرب، فـ لم تكن هناك عواقب قانونية أو عقوبة تتعلق بقراره، على الرغم من أن النقاد منذ عام 1945، شجبوا في بعض الأحيان أول استخدام للأسلحة النووية.

حقيقة الأمر، إن كان قتل المدنيين الأبرياء دون داعٍ، هو التعريف القياسي لـ جرائم الحرب، فإن أخر خمسة رؤساء أمريكيين، كانواً فعلاً مُجرمي حرب. بهذا المعنى، ومن الناحية التاريخية، فإن الاتهامات بارتكاب جرائم حرب، والتي ليس لها معنى حقيقي في القانون، وكذا تتسم بمرونة لا متناهية، غالبًا ما تعتمد على قوة الجانب المنتصر، وقدرته على تشويه الحقائق، والإفلات من المحاكمة، وهنا تتجلى قدرة الولايات المتحدة، بوصفها دائماً الطرف المنتصر، فالنظام العالمي الجديد متمحوراً حول الولايات المتحدة، خاصة مع وجود الأمم المتحدة (UN) في مدينة نيويورك، والبنك الدولي في واشنطن، والدولار كعملة احتياطية للعالم، وفي الأمم المتحدة تم تعزيز التفوق الأمريكي من خلال إنشاء مجلس الأمن، الذي يمتلك وحده سلطة التفويض بعمل عسكري ضد أي دولة، على الرغم من أن لدى مجلس الأمن خمسة أعضاء دائمين، وكل منهم لديه حق النقض، مما يعني أنه لا يمكن اتخاذ أي إجراء فعال ضدهم مهما فعلوا. وهكذا أصبحت الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا، وضمنهم إسرائيل، مُحصنين وبشكل فعال من أي جرائم حرب تُثبت ضدهم.

ختاماً، صحيح أن المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، قد تم إنشاؤها للتعامل مع "جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية"، لكن الصحيح أيضاً أن الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، لا يعترفون بسلطة المحكمة، وقد ذكرت الولايات المتحدة أنه لن يُسمح لأي محقق من المحكمة الجنائية الدولية بدخول الولايات المتحدة. بالنظر إلى ذلك، يصبح من الممكن أن نشهد كيف أن المهزلة الكاملة لجرائم الحرب، وغيرها من انتهاكات النظام العالمي الجديد، دائماً ما تؤطر بالضبابية ومنع الوصول إلى الدلائل، وأكثر من ذلك، قد يتم اتهام الطرف الأضعف في أي معادلة سياسية أو عسكرية، بارتكابه جرائم حرب.

الحقيقة القبيحة في ما يخص جرائم الحرب، بأن الدول العظمى دائما ما تتمكن من الإفلات بجرائمها، ولا يُمكن الإمساك بأي خيط من خيوط الجريمة، التي يدفع ثمنها المدنيين وحدهم في زمن حروب الكبار.