عن المسلمين السُنة، الهوية اللبنانية، “الغبن”.. والخيارات البديلة


ثلاث فرص استراتيجية أهدرتها  نزاعات القوى السياسية اللبنانية المفتوحة على مصراعيها منذ ستة عشر عاماً حتى يومنا، ما هي؟ تتمثل هذه الفرص أولاً بمنعطف اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وثانياً بمفصل حرب تموز/يوليو 2006، وثالثاً ببدايات الإحتجاجات الشعبية عام 2019، ولو أحسن السياسيون اللبنانيون، الإستثمار الوطني في هذه الفرص، لكان المشهد اللبناني العام، على غير الصورة المأساوية التي باتت تختصر لبنان بإعتباره بلداً منهاراً وأمثولة للدولة الفاشلة. الدولة الفاشلة يرافقها دائما السؤال الصعب: هل تنهض من جديد؟ تماماً مثلما يرافق السؤال إياه الدولة قيد التأسيس: هل تمتلك مقومات القيام؟ ولعل لبنان في هذه الآونة يقع عليه ثقل السؤالين معاً، هل ينهض ويقوم؟ بعض القوى السياسية اللبنانية، المفترض أنها وريثة الجيل السياسي المؤسس للوطن اللبناني، لا تطرح على نفسها هذه الأسئلة ـ الفرص، والتي يمكن ان تشكل الإجابة عنها، مدخلاً حقيقياً لقيامة لبنان وولادة ثانية له، بل هي تذهب إلى معركة مكاسرة مع “جناح” لبناني آخر، لولاه لما عرف لبنان الحديث وجوده. من هو هذا الجناح؟ هم المسلمون السُنة. قليل من التاريخ القريب لعله يفيد: ـ قبل إعلان الإستقلال الوطني، كان هناك اربعة تيارات سياسية في لبنان: ـ 1: تيار لبنانوي استقلالي كلي يدعو الى الإستحماء بالغرب ويرفض اي علاقة مع الدول العربية خشية ادماج لبنان في محيطه العربي الواسع. ـ 2: تيار لبنانوي استقلالي يدعو الى تعاون اقصى مع الدول العربية شرط الحفاظ على استقلال لبنان وطابعه الخاص. ـ 3: تيار عروبي يرفض بالمطلق استقلال لبنان ويدعو الى تصحيح ما يسميه “الخطأ التاريخي” بضم الساحل والأقضية العربية الى جبل لبنان. ـ 4: تيار عروبي يدعو الى عروبة الدولة اللبنانية مع الحفاظ على طابعها اللبناني والتعاون الأقصى مع المحيط العربي. التياران اللبناني والعروبي الداعيان الى استقلال لبنان والتعاون الأقصى مع الدول العربية التقيا وشكلا ما يعرف بالميثاق الوطني، وأبرز رموزه الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح. بصرف النظر، عمن أبدع فكرة الميثاق الذهبية، وهل هو بشارة الخوري أو رياض الصلح أو كلاهما، أم أن تلك الفكرة تعود إلى كاظم الصلح  صاحب مقولة “النصف والنصف الآخر” وقد أطلقها في عام 1936، ومعناها أنه لا يمكن دمج لبنان بدولة عربية موحدة إذا كان نصف اللبنانيين يعارضون ذلك، وفي الوقت نفسه لا يمكن  إخضاع نصف اللبنانيين لدولة لبنانية تحميها فرنسا، وحيال ذلك ما العمل؟ سأل كاظم الصلح وأجاب: بـ”جمع النصفين” ليكونا واحداً في دولة وطنية لبنانية واحدة لا تخضع للحماية الفرنسية ولا تتطلع إلى الإندماج مع دولة الوحدة العربية. حول عائلة الصلح، قال البطريرك بولس المعوشي (1894 ـ 1975) حين أتاه نبأ تعيين تقي الدين الصلح رئيساً للحكومة في عام 1973، إن الإطمئنان يملأ نفسه حين يرأس رجل من آل الصلح الحكومة اللبنانية “فهم روح لبنان لدى العرب وروح العروبة في لبنان”.
المقصود من هذا الإستحضار التاريخي، إلقاء الضوء على دور المسلمين السنة في بلورة الهوية اللبنانية وصيانتها، فهذا عبد الحميد كرامي يؤكد في جلسة في البرلمان اللبناني عام 1943 على ضروة الإسراع  بإعلان دولة الإستقلال “بل لا نريد لهذا الإستقلال أن يتأخر”، وذاك صائب سلام يرفع شعار “لا غالب ولا مغلوب” بعد أحداث العام 1958، علما أن التيار الناصري الجارف آنذاك، والمدعوم من السعودية وسوريا، كان يمكن أن يفعل أفاعيله التغييرية أو التعديلية في بنية النظام السياسي اللبناني. لم يحدث شي من ذاك القبيل، إلى أن جاءت “الوثيقة الدستورية” التي أعلن عنها الرئيس سليمان فرنجية في عام 1976، لتفتح المجال أمام  تعديلات دستورية سرعان ما جرى إغلاق أبوابها، وحين حان آوان “الطائف” في عام 1989، كان اللبنانيون أمام خيارين: إما وقف الحرب وتعديل الدستور، وإما الإستمرار بالحرب وإبقاء الدستور القديم على حاله. تغيّرت مناخات السياسة في دول الإقليم والعالم، فتغيرت بنود كثيرة في الدستور اللبناني. هذه معادلة لا بد من وعيها، فلبنان ودستوره الأول عام 1926، كان لبناناً مختلفاً، ولبنان ودستوره المعدل في عامي 1943 و1947، كان لبناناً آخر، ولبنان بعد  اتفاقية “الطائف” ودستورها، لم يعد لبنان الذي جرى إعلانه في الأول من أيلول/سبتمبر عام 1920. تغير كل شيء في المائة سنة الأخيرة، بما في ذلك وجه الأرض، فهل يمكن العودة إلى نظام رئاسي يعين فيه رئيس الجمهورية الوزراء ويختار رئيساً من بينهم؟ مما يؤدي تلقائياً إلى إجهاض المادة 53 من الدستور والتي تنص على أن “يسمي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسمياً على نتائجها”؟
بعيداً عن الجدل الدستوري، وهو حمّال أوجه، فإن التجاذب حول تشكيل الحكومة، وبصورة ينزاح فيها الشد إلى الرئاسة الأولى، ولّدت انكساراً لدى المسلمين السُنة تبدو معالمه العملية واضحة في العديد من مشاهد الإحتجاج الشعبي في الضنية وعكار وطرابلس والطريق الساحلية بين بيروت وصيدا وبما فيها الأخيرة، وهذا الإنكسار في بعض جوانبه ناتج عن شعور بـ”الغبن” مرده إلى الخشية من تراجع الحضورالفاعل في صناعة القرار الحكومي، بل في تشكيل الحكومة، بل في ما يعتبرونه “انتزاع” صلاحيات رئيس الحكومة!. مهما قيل ويقال حول هذا التوصيف، وربما كثرة قد تعارضه ولا توافق عليه، إنما هذا واقع الحال، وهو واقع يشبه إلى حد كبير واقع المسيحيين وشعورهم بالغبن في مطلع التسعينيات الماضية، حيث ذهبت أكثريتهم الساحقة إلى مقاطعة الإنتخابات النيابية في عام 1992، وما يزيد الأمر تعقيداً بالنسبة للمسلمين السنة، أن حواضنهم العربية التقليدية، السعودية إلى عهد قريب، ومصر الناصرية في العهد البعيد، باتتا في دفاتر الذكرى، فإلى أين يذهبون؟
 من المفترض أن يذهبوا إلى الدولة، وهذا هو المنطق السليم.  ولكن أين الدولة؟ حين يتحول “الشعب” إلى جماعات لا تأتلف في مجتمع سياسي واحد كما هي الحال اللبنانية في هذه المرحلة، تعمل كل جماعة منفردة لحماية نفسها وتأكيد حضورها، وفي الطريق نحو توفير عناصر الحماية والفاعلية، تلجأ الجماعة (الجماعات) إلى أحد هذه الخيارات: إما التشدد وإما الإستقواء بطرف خارجي وإما التشدد والإستقواء بالخارج معاً، وأول من انتبه إلى هذه الخيارات الفيلسوف أرسطو في كتابه “السياسيات”، ثم تبعه معظم الفلاسفة السياسيين. اذا ما أريد لقراءة سياسية محايدة، أن تقرأ بدقة الواقع السني في لبنان، ستخلص بلا ريب، إلى ملاحظة الشعور بالغبن والإنكسار، ومن شأن استمرارهذا الشعور، أن يؤدي إلى سلوك أحد الخيارات المذكورة آنفا، وفي صدارتها خيار التشدد والتصلب، ولو كان المناخ “السلفي ـ الجهادي” سائداً كما كان أمره قبل سنوات قليلة، ربما كان أسهل الخيارات، ولكن في ظل انحسار هذا المناخ، قد يشكل بروز قيادات متصلبة سياسياً خياراً راجحاً ومتوقعاً، خصوصاً إذا بقيت “حرب الصلاحيات” مندلعة بين الرئاستين الأولى والثالثة. وأما الخيار الخارجي ومهما قيل فيه، فتبدو تركيا أكثر الدول الإقليمية  طموحاً للتمدد نحو لبنان، وإذ ترتبط أطراف لبنانية عدة، بما فيها قيادات سياسية كبرى، بعلاقات وثيقة مع أنقرة، لكن هذه العلاقات لم ترقَ بعد، إلى الروابط السياسية التي تمهد لدور تركي فاعل ومكشوف في لبنان، لأسباب متعددة، لعل أهمها، مخاوف القيادات اللبنانية من تداعيات الصلة السياسية بتركيا على علاقاتها بمصر وأكثر من دولتين خليجيتين، وعلى العموم يبقى الخيار التركي مفتوحاً كلما بقيت “أزمة الغبن” مفتوحة، مع القيادات السنية التقليدية أو مع قيادات ناشئة. ماذا عن مصر؟ حتى الآن، تتهيب مصر توسيع أدوارها إلى خارج مجالها الحيوي (ليبيا ـ نهر النيل ـ قطاع غزة)، وفي حال توصلت القاهرة إلى تسوية الحد الأدنى حول سد “النهضة” مع أثيوبيا، وتقلص انشغالها في ليبيا عبر معادلة “الوضع القائم” الذي لا يرهقها أمنياً وعسكرياً، فلا شك أن اتجاهها “المشرقي” سيشق طريقه إلى حيز الفعل، وليس “مشروع الشام الجديد” الذي يضمها إلى جانب الأردن والعراق، سوى المؤشر العملي إلى تطلع مصر نحو حضور مؤثر في “بلاد الشام”، فهل يكون لبنان خارج هذا الحضور؟ مع الإشارة إلى الحراك المصري الأخير تجاه بيروت وقبل اعتذار الرئيس سعد الحريري. هل وصلت الرسالة؟ رسالة الخيارات الثلاثة؟ أم أن المطلوب مزيد من معارك المكاسرة والطحن؟ في الختام هذا تصويب لا بد منه: ـ الخطأ: نُسب إلى احدهم قوله في ذات خطاب:”السنية السياسية جاءت على جثة المارونية السياسية”. ـ الصواب: الطائفيات السياسية حوّلت لبنان إلى جثة. هل حان وقت القول عن لبنان: إنه قام.. حقاً قام؟

المصدر: 180Post