تنهض بيروت فينهض لبنان .. وإلا ...


يختصرالناس   الولايات المتحدة بأميركا ،  ويخلعون إسم الكل على الجزء ، لأن الجزء يرمز إلى الكل.
ويختصر المصريون القاهرة بمصر كلها ، ويزاوجون بين مصر والقاهرة ، ويصفونها ب " أم الدنيا " مع أن القاهرة حديثة الوجود والعمران نسبيا .
والسوريون  يسمون دمشق بالشام ، مع أن بلاد الشام  واسعة  وشاسعة ، وهنا أيضا يُختصر الكل بالجزء .
بيروت بالنسبة إلى لبنان ، هي لبنان ، وإذ لا  يختصر اللبنانيون لبنانتيهم ببيروت قولا ولفظا ، فإن سلوكياتهم  وثقافاتهم تؤكد " بيروتيتهم " ، وسيادة  اللهجة البيروتية المدجنة ، غزت  واستولت على اللهجات المناطقية والطرفية بصورة شبه كلية.
هذه دلالة  انتماء لبناني عام إلى بيروت 
الدلالة  الثانية  تكمن في اتساع الضواحي حول بيروت .
 فالضواحي هي مسعى الإقتراب من المركز ، لمن عجز عن ذلك سبيلا ، بل هي انتماء  لبيروت  ولو كان عن بُعد.
هكذا هي الضواحي حول بيروت ، إذ تبدو الضواحي المنتشرة شرقا وجنوبا وشمالا ، أشبه بأبناء وبنات يحيطون أمهم ، وأمهم هي بيروت .
الدلالة الثالثة تتمثل في الليونة البيروتية ، والقدرة على استيعاب الوافدين من الأطراف ، فالمرونة البيروتية ، لم يجذبها تصنيف الآتين من المناطق بين " المحلي " و الغريب " ، فلا غرباء في بيروت ، وقد استوعبتهم المدينة في كل أزقتها وأحيائها : من الطريق الجديدة إلى المزرعة ، ومن النويري إلى الخندق الغميق ورأس النبع ، ومن البسطة إلى مار الياس و الحمرا ورأس بيروت ، إلى  عين المريسة والجميزة والصيفي والأشرفية وغيرها .
هذه القابلية للإستيعاب ، دفعت  بالخليط  اللبناني والمختلط ، والمتعدد والمتنوع  أن يعكس صورته في بيروت ، وغدت بيروت صورة عن لبنان ، بل واقعا عن لبنان ، بل لبنان هونفسه  في حضوره وشخصه وذاته .
مثل هذه القابلية غير متوافرة في الأطراف ، فالأطراف أكثر انطواء على نفسها ، والوافد  إلى الأطراف يبقى غريبا مهما طال زمنه وأمده ، فالمدن أكثر  رحابة وانفتاحا وتسامحا، وفي لبنان ـ  بالمعنى العام  ـ مدينة واحدة هي بيروت.
ولذلك  ، بيروت ، اختصرت  لبنان بطوائفه ومذاهبه  وأحزابه واتجاهاته ، وبأطرافه ومناطقه ، وبأريافه ومدنه.
بل إن بيروت ، اختصرت في لحظة ذروتها الثقافية والإقتصادية  والسياسية  والجمالية ، جميع العرب وجموعهم  وأجمعهم ، بأنظمتهم وسياساتهم ، بحروبهم وانقلابتهم ، بمطابعهم وإعلامهم ، وشعرائهم وأغانيهم ومقاهيهم ، وقد كان الشاعر الكبير نزار قباني أجرأ العرب بفضيلة الإعتراف بالغيرة من بيروت وإلى حدود نحرها ، حين أنشد قصيدته الشهيرة عن بيروت وقال :
يا ست الدنيا يا بيروت
نعترف أمام الله الواحد 
إنا كنا منك نغار
وكان جمالك يؤذينا
نعترف الآن 
بأنا  لم ننصفكِ ... ولم نعذركِ ... ولم نفهمكِ
وأهديناك بدل  الوردة سكينا .
ذاك اعتراف الفاضلين ، مصحوب مع بكائية مشهودة .
 ما يلاحظ منذ حين : شيوع دورات الحياة الطائفية  والمذهبية المنفصلة عن بيروت الجامعة  ، وبروزعصبيات  المناطقيات  الحادة ، وسطوع  الخطاب الطائفي وخفوت الخطاب الوطني ، وصعود  الفيدراليات السلوكية  المؤسسة لثقافات متصادمة ، وتفشي  الإنعزاليات الإقتصادية ، تطرح سؤالا مصيريا حول مصير العاصمة اللبنانية ، وحول إذا ما فتىء بالإمكان الحديث عن بيروتية لبنان وبيروت الجامعة لكل اللبنانيين .
مصير بيروت يعني مصير لبنان ومصير لبنان  مرتبط  بالإجابة على. مصير بيروت .
هل  يمكن الحفاظ على ما تبقى من رمزية بيروت ؟ هل يمكن صون آخر مساحات الرحابة والإجتماع الوطني العام ؟ هل يمكن أن تبقى بيروت  متنوعة بأصولها ؟ وأهم من كل ذلك : هل يمكن أن  تبقى  بيروت حاضنة للفروع الذين سرعان ما يتحولون إلى أصول ؟
هل تبقى بيروت ؟
هل تبقى بيروت ليبقى لبنان ؟
سلام لبيروت ...