بيروت من سيدة التاريخ إلى شهيدة الطوائف
ليس لبيروت تاريخ ولادة، هي قبل التاريخ، كما هي حال المدن الكنعانية الممتدة على الساحل الفينيقي من ما قبل رأس شمرة في سوريا الحديثة إلى سواحل البحر الأحمر، وقيل إن دورة الحياة بموتها وانبعاثها من جديد، أكثر ما تنطبق على بيروت، فبعد كل موت حياة حضارية صاخبة، كأن المقصود أن طائر الفينيق الذي يُبعث من رماده، هو بيروت بالذات. إصطلح المؤرخون القدامى والمحدثون على توصيف هيرودوتس الإغريقي (485 ق.م ـ 424 ق.م) بأنه أبو التاريخ، ولكن سنخونياتن البيروتي الذي سبق هيرودتس بقرون عدة، ظل مؤرخاً مشكوكاً بأمره حتى الربع الأول من القرن العشرين، وحين قرر فيلون الجبيلي محاججة أهل اليونان في القرن الميلادي الأول، ونقل كتابات سنخونياتن من الفينيقية إلى الإغريقية ليجادلهم بعلو مقام تاريخ الفينيقيين وأسبقية حضارتهم وعقائدهم وتصورهم لخلق الكون، لم يجر الإعتراف به كأول مؤرخ في العالم، إلى أن جاءت حفريات رأس شمرا السورية في عام 1929، لتضع حداً للمجادلة الألفية التي كرّست ورسّخت سنخونياتن مؤرخاً لم يسبقه مؤرخون. من بيروت الفينيقية انطلقت أولى كتابات التاريخ، تماماً كما انطلقت من مدينة صور الفينيقية حروف الأبجدية، على أن رد الإعتبار للحضارة الفينيقية، هو امر يقوم به بجهود مضنية مؤرخون ومفكرون سوريون معاصرون، من مثل احمد داوود وعيد مرعي وإياد يونس وغيرهم، بعدما تخلى اللبنانيون عن ذلك جراء الحقد المبين والمقيم بينهم، فبعضهم ذهب إلى الفصل بين فينيقيا ومحيطها الكنعاني، مثلما هو واقع اليمين العنصري، وبعضهم الآخر انصرف إلى الطعن حتى القتل بالحضارة الفينيقية، كما هو مذهب أطراف يسارية وقومية عربية شوفينية. العالم والمؤرخ الفرنسي فيكتور بيرار يرجح في كتابه Les phéniciens et l’Odyssée “الفينيقيون والأدويسة” الصادر في باريس عام 1902، أن هوميروس صاحب الملحمتنين الإغريقيتين المعروفتين “الألياذة” و”الأوديسة” من أصل فينيقي، فمدارات الملحمتين من أسماء الآلهة والقبائل والأشخاص والأشياء كالأسلحة والأطعمة، فضلاً عن الأمكنة، الكثير منها فينيقية الجذور، بل أغلبها، وعلى ما تقول الترجيحات إن قصائد هوميروس تمت كتابتها أولاً باللهجة الإيلوية، وهي لغة شرق بحر إيجة في آسيا الوسطى، حيث كانت الثقافة الفينيقية مسيطرة تماماً، وبعد ذلك جرى نقل القصائد إلى اليونانية القديمة.
وفيما كان هيرودوتس قد أشار في تاريخه المعروف، إلى وجه الشبه بين أفروديت الإغريقية وعشتروت الفينيقية معبودة بيروت، فإن العالم الأميركي ويليام ف. أولبرايت يعتبر في كتابه “آلهة كنعان” أن سنخونياتن البيروتي، يقدم نظرية في خلق العالم، تعود إلى ما قبل زمنه، وبالتأكيد قبل تبلور العقل اليوناني، ويستعين المؤرخ اللبناني يوسف الحوراني في كتابه “مجاهل تاريخ الفينيقيين” بنص للفرنسي روبرت دوبويسون يقول فيه إن فيلون الجبيلي “استعمل نصا قديما لسنخونياتن البيروتي، حيث ورد فيه أن عليون (إيل) وبيروت ولّدا الإنسان والسماء والأرض”، وما يعادل ذلك يقتبسه لويس شيخو في “بيروت تاريخها وآثارها” عن سنخونياتن فيقول “لو أعرنا سمعاً إلى الأقدمين من الفينيقيين لقلنا إن اصل بيروت يتصل بعهد الآلهة ويرتقي إلى أوائل الخليقة، وسنخونياتن روى عنها ما شاع في زمانه”.
سنخونياتن، ذاك الكاهن والمؤرخ، سيتردد اسمه تكراراً في مجادلات ومحاججات ما بعد ميلاد السيد المسيح، ويأتي على رأس المجادلين مؤرخ الكنيسة الأول يوسابيوس القيصري (264 ـ 340 م) صاحب كتاب “تاريخ الكنيسة”، ففي كتابه “الإستعداد للحياة الإنجيلية” يورد كتباً لفيلون الجبيلي ونصوصاً لسنخونياتن، ويقول عن الأخير “إنه أسبق من حرب طروادة، قدم تاريخه لملك بيروت أبي بعل الذي تلقاه مع جماعة فاحصين عن الحقيقة، وزمن هؤلاء قبل زمن موسى، وقام الجبيلي بترجمة مخطوطته من الفينيقية الى الإغريقية”. وعلى هذه الحال، يمكن النقاش عما إذا كانت بيروت شكلت باكورة كتابة التاريخ، فقبل سنخونياتن، اقتصرت الكتابات التاريخية على المدونات التي تسجل وقائع الحروب وانتصارات الملوك، ولا تدخل في هذا التصنيف الآثار الكتابية والأعمال الأدبية والدينية في بلاد الرافدين ومصر الفرعونية، مثل “ملحمة غلغامش” وغيرها، فتلك لها شأن آخر. المؤرخون والجغرافيون القدماء مثل استرابون (10 ـ 63 ق.م) وبيليني الكبير(80 م) في مؤلفه الضخم “التاريخ الطبيعي” وبطليموس (160 م) “في الجغرافيا” يتوقفون كثيراً عند بيروت وجمالها وثرائها ومرفئها وأحراجها وحتى لحظة تدميرها عام 140 ق.م، من قبل القائد العسكري ديودوتس تريفون، وعلى ما يظهر أن خرابها طال وامتد، إلا أنها أعادت إحياء نفسها في العقود الأخيرة قبل الميلاد، وفي العهد الروماني اكتسبت لقب “جوليا السعيدة” نظراً لرقيها ومدنيتها وثرائها وامتداد نفوذها الى منابع نهر العاصي. * في القرن الثاني للميلاد، ستشهد بيروت نشوء مدرسة الحقوق، التي شكلت أساساً للنهضة القانونية الأوروبية، ففي بيروت كانت تصاغ دساتير الإمبرطورية الرومانية، وإلى حدود أن الفيلسوف أونابيوس أطلق عليها لقب “ام الشرائع”، وهو اللقب نفسه الذي سيستخدمه لاحقاً الخطيب الإنطاكي الشهير ليبانيوس، وأما جمال المدينة في ذرورة نهضتها تلك، فيوجزه غريغوريوس العجائبي بقوله “إنها مدينة ساحرة تأخذ بألباب الشبان”. وعن ذلك العصر الذهبي لبيروت، ينظم الشاعر اليوناني “ننوس” قصائد للمدينة يورد بعضها الشاعر اللبناني شوقي بزيع في كتابه “بيروت في قصائد الشعراء”، يقول “ننوس”: يا بيروت أنتِ أرومة الحياة مرضعة المدن/ مفخرة الأمراء أولى المدن المنظورة/ الأختُ التوأم للزمن أرضُ العدالة ومدينة الشرائع عرزال البهجة/ معبد كل حب ونجمة بلاد لبنان.
وحين ضربها الزلزال المشؤوم والمدمر في القرن الميلادي الخامس، كتب فيها الشاعر اليوناني “اغاتيوس” مرثية شعرية، هذا بعض منها: أنا وردة فينيقيا التي ذوت بفعل الزلزال وزال عنها جمالها الرائع ها أنذا المدينة التعيسة كومة من الخرائب وأبنائي أموات هل تبكون أيها العابرون فوق أطلالي؟ وداعاً أيها الملاحون الباحثون عن مرفأ لهم وداعاً أيتها القوافل الآتية من وراء البحار. إذا كان المؤرخون القدماء، خصوصاً اليونانيون والرومان، لم يدخروا جهداً للحديث عن انواع التجارة التي امتهنتها بيروت في مراحلها المختلفة، فإن المصريين كانوا يطلقون على الفواكه والمصنوعات والمعادن المستوردة من بيروت “بضاعة بيروت”، مثلما ورد في الكتابات الهيروغليفية، وعلى ما يظهر أن هذه الصورة، وبالتحديد استيراد المعادن، ستحفل بها كتابات المؤرخين والرحالة العرب في العهود التي أعقبت الفتوحات العربية، ففي كتاب “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” لشمس الدين المقدسي (945 ـ 990) جاء “وفي إقليم الشام معادن حديد في جبال بيروت”، وفي “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” يقول العلامة والجغرافي الإدريسي (ت 1165) إن “مدينة بيروت على ضفة بحر الملح، بالمقربة منه جبل فيها معدن حديد يُستخرج منه الكثير ويُحمل إلى بلاد الشام” وفي “تحفة النظار في غرائب الأبصار”، يقول إن بطوطة (1304 – 1377) “سرنا إلى بيروت وهي مدينة حسنة الأسواق، وتُجلب منها إلى ديار مصر الفواكه والحديد”، وعن بيروت يقول ياقوت الحموي في “معجم البلدان” إنها مدينة مشهورة، وينقل عن الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان أبياتاً شعرية عن بيروت، منها هذا البيت:
أيا يا حبذا شخص/ حمت لقياه بيروت. بصرف النظر عن الأعمال التجارية التي مارستها بيروت في مختلف حقباتها، إلا أن التجارة لم تكن ميزتها، فثمة مدن فينيقية أخرى مثل صيدا وصور وأوغاريت سبقتها في هذا المجال، إلا أن سمة بيروت المرافقه لعمرها المديد، كانت الثقافة والجمال، ومع ذلك، حين قررت بيروت دخول المجال التجاري منذ الثلث الاول من القرن التاسع عشر، غدت بسرعة قياسية مدينة في مصاف المدن العالمية الاولى في التجارة، وهذا ما يلاحظه بعين ثاقبة العالم الإنكليزي فيليب مانسيل في كتابه “ثلاث مدن مشرقية”، حين يقول إن رؤوس الأموال في بيروت كانت منذ البداية أموالاً محلية و”بحلول العام 1907 كان مرفأ بيروت يتعامل في 11 بالمائة من تجارة الإمبراطورية العثمانية”، وفي كتاب “نشوء القومية العربية” لزين زين ورد عن مقيم أجنبي في بيروت عام 1863 قوله “منذ سنوات قليلة كان التجار الكبار من الأجانب وأما الآن فإنهم من اللبنانيين، انظر إلى ارصفة الميناء تجد أكداساً من البضائع، إنظر إلى عرض البحر تجد بواخر كبيرة من جميع موانىء المتوسط”.
في المجال الجمالي، سبق الحديث عن رمزية بيروت الجمالية التي تغنى بها الشعراء الأقدمون، وهذا الجمال يرافق كل نهضة وولادة جديدة للمدينة، وعلى ذلك، وصفها الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني حين زارها عام 1898 بـ”درة تاج آل عثمان” كما جاء في مجلة “العرفان” لصاحبها الشيخ احمد عارف الزين، وفي عام 1902، صدر عدد من مجلة “الهلال” المصرية على غلافه مكتوب “بيروت زهرة الشرق”، ولما جاءها زائراً الأمير المصري محمد علي باشا عام 1910، قال عنها في “الرحلة الشامية” إن بيروت “أشهر وأهم مدن سوريا التجارية وهي أكبر ميناء في بلاد الشام ومركزها الطبيعي غاية في الجمال، مما قل أن يتناوله النظر في غيرها من البلاد”.
في الأول من تموز/يوليو1947، ستكتب رائدة الشعر العربي الحديث، العراقية نازك الملائكة “يا لها من مكان ساحر بيروت هذه”، وفي “الكتابة والحياة” يقول المفكر العراقي علي الشوك “أنا عشت في مدينتين من أجمل مدن العلم: بيركلي وبيروت”، وفي كتاب “قصتي” يقول محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات وحاكم إمارة دبي “بيروت أذهلتني صغيرا وعشقتها كبيراً، كانت شوارعها النظيفة وحاراتها الجميلة وأسواقها الحديثة في بداية الستينيات مصدر إلهام لي، وحلم تردد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يوماً ما”. وبرغم الكوارث الذي ضربت بيروت منذ عام 1975، فقد جاء في تقرير أوردته صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية (8 ـ 12 ـ2012) أن صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية صنفت بيروت عام 2009 واحدة من أفضل 44 وجهة في العالم، وبرأي صحيفة “صانداي تايمز” البريطانية حصلت بيروت على لقب أفضل مدينة تزورها في عام 2010، وفي صحيفة “صانداي تليغراف” البريطانية أيضاً وفي عددها الصادر في الثامن من يناير/كانون الثاني 2012 تم وصف بيروت بـ”أنها المدينة الأكثر إثارة على وجه الأرض”. الشاعر السوفياتي الداغستاني رسول حمزاتوف (1923 ـ2003) الذي زار بيروت عام 1967 (“المدن” ـ 4 ـ 8 ـ 2017) كتب عنها بعد اندلاع الحرب الأهلية وقال: أتذكرُ يا جنكيز يوم احتضنتنا بيروت معاً كيف سرى من البحر والسماء كانت تعتبر باريس الشرق وأنا شخصياً كنت مؤمناً بذلك. * في المجال الثقافي، ينقل الأديب المصري يوسف القعيد عن الرئيس جمال عبد الناصر، قناعته بأن هناك حيويتين فكريتين عربيتين: القاهرة وبيروت، فالمشرق العربي يصب في بيروت، وحوض وادي النيل والمغرب العربي ووسط أفريقيا تصب في القاهرة. هذه الحيوية الفكرية لبيروت، كان جرى اكتسابها منذ ما قبل منتصف القرن التاسع عشر بقليل، ومن العاصمة اللبنانية خرجت أولى معالم الفكر القومي العربي عن طريق ناصيف اليازجي وبطرس البستاني وجمعية “الآداب والعلوم” في عام 1847، لتلحق بها “الجمعية العلمية السورية” في عام 1857، ثم صحيفة “نفير سوريا” لبطرس البستاني عام 1860. بعد ذلك، تعاقب صدور الصحف والدوريات العلمية والفكرية والأدبية، حتى غدت بيروت والقاهرة عاصمتي الفكر العربي، وما بين الأعوام 1851 و1885، كانت تصدر في بيروت صحف ومجلات “حديقة الأخبار” و”مجموع الفوائد” و”ثمرات الفنون” و”الجنان” و”البشير” و”المقتطف” و”لسان الحال” و”الطبيب” وغيرها. في عام 1910، يحصي عبد الباسط الأنسي في “دليل بيروت” 7 صحف يومية، و11 دورية بين الأسبوعية والشهرية، و10 مطابع، و17 مكتبة، وصدر في بيروت 98 صحيفة ومجلة من عام 1858 إلى عام 1915، بحسب نقولا زيادة في “أبعاد التاريخ اللبناني الحديث”، وفي عام 1923، تشير مجلة “العرفان” إلى ثلاثين مطبعة في بيروت وخمسين صحيفة، ويتضمن كتاب تعريفي أصدرته نقابة “محرري الصحافة اللبنانية” بعنوان “دليل الصحافة اللبنانية” عام 1943، أسماء 43 صحيفة ودورية تصدر في بيروت، وعلى ما يقول يوسف أسعد داغر في “قاموس الصحافة اللبنانية 1858 ـ 1974” إن “هنالك 1000 دورية لبنانية بين جريدة ومجلة أصدرها اللبنانيون منذ عام 1929” حتى تاريخه، لا شك أن أغلبها في بيروت. إن ذلك الدور التنويري الذي أدّته الصحافة البيروتية على مدى زمني طويل، انعكس على مجمل الحياة العقلية في لبنان ومحيطه العربي، من عالم الأفكار إلى فضاء الفن، ومن مدار الأدب إلى فلك السياسات، وهذا ما دفع صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية لأن تصف مدينة بيروت عام 1962 بأنها “عاصمة فكرية وروحية”، وهو ما جعل ايضاً أهم الشعراء يحولون بيروت انشودة للثقافة والحرية والجمال، تماماً مثلما كانت في العهد الفينيقي ثم الروماني ثم اللبناني. يورد الشاعر اللبناني أحمد فرحات في كتاب “شعراء أم النار”، قصائد متنوعة لشعراء فينيقيين، من ضمنهم ملياغروس، وفي إحداها يقول: أنا ليس لي من مهمة مقدسة الآن سوى وصل الأرواح بالأرواح والضفاف بالضفاف والورود بالورود. * من يعي الفرق بين زراعة الورد في الحدائق وبين زراعته في المقابر؟ هل الطائفيات السياسية تعي وتعرف ذلك؟ وهي التي حوّلت بيروت شهيدة، من نيسان/إبريل 1975 حتى آب/أغسطس 2020؟ من يُسرّح شعر بيروت هذه المرة؟ ليس لتنام وتغفو، فهي في سبات، بل لتفتح عينيها على ولادة جديدة وتقول عليَّ وعليكم السلام. رحماك ربي.
المصدر: 180Post
نظر شما