أين الميزان؟!


يؤمن الوهابيون التيمويون أن الله تبارك وتعالى، وفقا لهرطقات ابن تيميه (يجيء ويأتي وينزل ويدنو وهو فوق عرشه بائن من خلقه. فهذه كلها أفعال له سبحانه على الحقيقة، ودعوى المجاز تعطيلٌ له عن فعله، واعتقادُ أن ذلك المجيء والإتيان من جنس مجيء المخلوقين وإتيانهم نزوعٌ إلى التشبيه يفضي إلى الإنكار والتعطيل).

كما أنهم يثبتون لله عز وجل صفة الوجه (face) حيث يقول مهرطقهم خليل هراس تفسيرا لكلام ابن التيميه فيما يسمى كتاب (العقيدة الواسطية): (والنصوص في إثبات الوجه من الكتاب والسنة لا تُحصى كثرةً، وكلها تنفي تأويل المعطِّلة الذين يفسرون الوجه بالجهة أو الثواب أو الذات، والذي عليه أهل الحق أن الوجه صفةٌ غيرُ الذات، ولا يقتضي إثباته كونه تعالى مركبًا من أعضاء، كما يقوله المجسِّمة، بل هو صفة لله على ما يليق به، فلا يشبه وجهًا ولا يشبهه وجه).

الوهابيون أو التجسيديون الوثنيون المعاصرون يفهمون تلك الكلمات الواردة في القرآن على ظاهرها –ولا نقول الصفات- فهي من الأساس ليست كذلك.

لو أنهم قاموا بما يتوجب عليهم (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) ولكنهم أبوا إلا عتوا ونفورا.

ولأن هؤلاء الأغبياء كما وصفهم ربنا عز وجل (إن هم إلآ كالأنعام بل هم أضل سبيلا) تراهم يتحدثون عن (وجه) و(رجل) و(يد) بينما هم لا يقدرون على وصف الملائكة وهم خلق من خلق الله.

يرد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على هؤلاء الأشباه بقوله (إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ فَصِفْ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَجُنُودَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي حُجُرَاتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ مُتَوَلِّهَةً عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ فَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَاتِ وَ الْأَدَوَاتِ وَ مَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ).

وبدلا من أن يكلف هؤلاء أنفسهم ما هو فوق قدرة البشر فليشرحوا لنا معنى ما ورد في كتاب الله عز وجل عن صفات قدرة الله وحكمته وهي أمور تدخل ضمن تكليفهم بإقامة للعدل ونبذ للظلم!!.

إذا كان هؤلاء الحمقى قد فهموا من تلك التعبيرات القرآنية ما يوهم إثبات صفات لله زائدة عن الذات فليخبرونا عن معنى (الميزان) الذي تحدث عنه سبحانه في محكم كتابه؟!!.

(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) الرحمن7-9.

هل هو ميزان حقيقي لكنه لا يشبه تلك الموضوعة في المتاجر والأسواق أم أنه أداة من الأدوات العقلية ومعيار دقيق وحساس مكانه الضمير الإنساني الجمعي والفردي.

البشر مكلفون ومأمورون بإقامة العدل لكن الأمر ليس مفوضا إليهم بصورة كاملة فالله سبحانه وتعالى فوق الجميع يدبر ويراقب ويمكر وهو خير الماكرين (وَسَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِمَّنْ ظَلَمَ مَأْكَلًا بِمَأْكَلٍ وَمَشْرَباً بِمَشْرَبٍ مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ وَ مَشَارِبِ الصَّبِرِ) كما قال الإمام علي ع.

آية أخرى هي قوله سبحانه وتعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ( الأنبياء 47.

بديهي أن كلمة الميزان كما الموازين تعني قانون العدالة الإلهية وهو قانون حاكم للكون بأسره وليس فقط للعلاقات بين البشر سواء كانوا أفرادا أو جماعات.

نقول: الإرادة الإلهية لا تنفصل لا عن الحكمة الإلهية ولا عن العدل الإلهي فالله تبارك وتعالى حكمه العدل (الَّذِي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا وَعَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى وَعَلِمَ مَا يَمْضِي وَمَا مَضَى مُبْتَدِعِ الْخَلَائِقِ بِعِلْمِهِ وَمُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِهِ بِلَا اقْتِدَاءٍ وَ لَا تَعْلِيمٍ وَ لَا احْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَكِيمٍ وَلَا إِصَابَةِ خَطَإٍ وَلَا حَضْرَةِ مَلَإٍ)[1].

أما عندما يفشل البشر في إقامة العدل ومقارعة الظلم فالإرادة الإلهية حاضرة دوما لتحقق العدالة المنشودة وإن طال الزمن.

معنى العدل

يصنف علماء الإمامية الإلهيات إلى أبواب منفصلة (العقيدة في الله ثم التوحيد والصفات) ثم يتحدثون عن (العدل والتكليف والقضاء والقدر) وهو التصنيف الوارد في كتاب عقائد الإمامية للعلامة المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر.

في اعتقادنا أن مسائل التكليف والقضاء والقدر تكاد تشكل موضوعا واحدا متداخلا ومتفرعا عن قضية العدل الإلهي.

قال الشيخ الصدوق أبو جعفر[2]: اعتقادنا أنّ الله تبارك وتعالى أمرنا بالعدل وعاملنا بما هو فوقه، وهو التفضّل، وذلك أنه عزّ وجلّ يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيّئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون).

والعدل هو أن يثيب على الحسنة، ويعاقب على السيّئة.

أما الشهرستاني فيقول في الملل والنحل: العدل‏‏ وضع الشيء موضعه وهو التصرف في الملك على مقتضى المشيئة والعلم والظلم بضده فلا يتصور منه الجور في الحكم ولا الظلم في التصرف‏.‏ وعلى مذهب أهل الاعتزال‏:‏العدل‏:‏ ما يقتضيه العقل من الحكمة وهو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة‏.‏

يقول الشيخ المفيد في (تصحيح الاعتقاد): العدل، هو الجزاء على العمل بقدر المستحق عليه، والظلم، هو منع الحقوق، والله تعالى عدل كريم جواد متفضل رحيم، قد ضمن الجزاء على الاعمال، والعوض على المبتدئ من الآلام، ووعد التفضل بعد ذلك بزيادة من عنده. فقال تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) الاية، فخبر أن للمحسنين الثواب المستحق وزيادة من عنده وقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) يعني له عشر أمثال ما يستحق عليها. (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) يريد أنه لا يجازيه بأكثر مما يستحقه، ثم ضمن بعد ذلك العفو ووعد بالغفران

فقال سبحانه: (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) وقال سبحانه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). وقال سبحانه: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) والحق الذي للعبد هو ما جعله الله تعالى حقا له واقتضاه جود الله وكرمه، وإن كان لو حاسبه بالعدل لم يكن له عليه بعد النعم التي أسلفها حق، لانه تعالى ابتدأ خلقه بالنعم وأوجب عليهم بها الشكر، وليس أحد من الخلق يكافئ نعم الله تعالى عليه بعمل، ولا يشكره أحد إلا وهو مقصر بالشكر عن حق النعمة. وقد أجمع أهل القبلة على أن من قال: إني وفيت جميع ما لله تعالى علي وكافأت نعمه بالشكر، فهو ضال، وأجمعوا على أنهم مقصرون عن حق الشكر، وأن لله عليهم حقوقا لو مد في أعمارهم إلى آخر مدى الزمان لما وفوا لله سبحانه بما له عليهم، فدل ذلك على أن ما جعله حقا لهم فإنما جعله بفضله وجوده وكرمه. ولان حال العامل الشاكر بخلاف حال من لا عمل له في العقول، وذلك أن الشاكر يستحق في العقول الحمد، ومن لا عمل له فليس في العقول له حمد، وإذا ثبت الفضل بين العامل ومن لا عمل له كان ما يجب في العقول من حمده هو الذي يحكم عليه بحقه ويشار إليه بذلك، وإذا أوجبت العقول له مزية على من لا عمل له كان العدل من الله تعالى معاملته بما جعله في العقول له حقا. وقد أمر الله تعالى بالعدل ونهى عن الجور، فقال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان). انتهى النقل.

أما الشهيد السعيد السيد/ محمد باقر الصدر فيقول في كتابه (المدرسة القرآنية):

العدل هو جانب من التوحيد، العدل صفة من صفات اللّه سبحانه وتعالى، حال العلم، حال القدرة، لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم، في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا ميزة اجتماعية، ميزة القدوة، لأن العدل هو الصفة التي تعطي وتغني المسيرة الاجتماعية والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة إليها اكثر من أي صفة أخرى، أبرز العدل هنا كأصل ثاني من أصول الدين باعتبار المدلول التوجيهي، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة، قلنا بان صفات اللّه وأخلاق اللّه علّمنا الإسلام على ان لا نتعامل معها كحقائق عينية ميتافيزيقية فوقنا لا صلة لنا بها وإنما نتعامل معها كمنارات على الطريق، من هنا كان العدل له مدلوله الأكبر بالنسبة إلى توجيه المسيرة البشرية ولأجل ذلك أفرز. وإلاّ العدل في الحقيقة هو داخل في إطار التوحيد العام، في إطار المثل الأعلى.

لماذا الإصرار على اعتبار العدل ضمن العناوين الكلية؟!

من ناحية فالعدل يمكن إدراجه ضمن العناوين الفرعية للمفاهيم الإسلامية شأنه شأن الرحمة والصدق وفعل الخير وإخلاص العبادة لله رب العالمين وغيرها من القيم التي حض كتاب الله وسنة نبيه على التمسك بها.

فلماذا التمسك بهذه القيمة تحديدا وإدراجها ضمن العناوين الرئيسة للمعتقد الإسلامي في إطاره الإمامي؟!.

الله تبارك وتعالى يقول (ورحمتي وسعت كل شيء) فلماذا لم يوضع عنوان (الرحمة الإلهية) ضمن العناوين الرئيسية للمعتقد الإمامي؟!.

لو تأملنا في كتاب الله عز وجل وفي مسار تاريخ الأمة الإسلامية لوجدنا أن (العدل) يتخطى كونه مطلبا وتكليفا ألزم به الله عباده وألزم به نفسه (سبحانه وتعالى عما يشركون) ليصبح قانونا ناظما لحركة الكون والأفراد والجماعات.

لو تأملنا في مجموع القيم الأخلاقية الواردة في كتاب الله عز وجل (لا تقربوا الزنا)، (أوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) لتأكد لنا أن العدل الإلهي جزء لا يتجزأ من كل هذه القيم، وهو ليس جزءا عاديا بل محور وناظم وضابط إذا جرى انتهاكه أصيبت المنظومة بأسرها بالعطب والخلل والشلل وصولا إلى الدمار الجزئي أو الكلي انتهاء بزوال الأمم واختفائها من الساحة الكونية.

الطهارة الأخلاقية واجتناب الفواحش هي القيمة الأخلاقية ظاهرا أما العدل فهو ذات القيمة باطنا.

الوفاء بالعهد هو القيمة ظاهرا والعدل هو ذات القيمة باطنا.

نحن لا نقول (والعياذ بالله) أن القيم المشار إليها أو غيرها من قيم الدين ومبادئه هي قيم شكلية بل نقول أن هذه القيم ورغم أهميتها المطلقة جوهرها ولبها هو العدل كونه قيمة ناظمة وجامعة لكل القيم.

القيم المشار إليها ولا نستثني منها قيمة ولا مبدأ ولا نقلل من شأن أي التزام أخلاقي تشبه حبات المسبحة أما العدل فهو الخيط الجامع والناظم لهذه الحبات ولولاه ما كانت هناك مسبحة.

الشاهد أن الميزان الذي وضعه الله تبارك وتعالى للأنام هو قيمة ناظمة للعلاقات بين البشر كما بين الكائنات والموجودات بما فيها الحيوانات والنباتات وأخير ذلك التوازن البيئي الذي اختل وفسد في زماننا هذا بسبب ما ارتكبه البشر من جرائم في حق الأرض والماء والهواء وكلها وضعها الله خدمة للكون بما يحتويه ومن يحتويه من خلق الله.

الآن افتقد البشر العدالة في علاقاتهم البينية كما افتقدوها في تعاملهم مع الطبيعة وأصبح سلوكهم تخريبيا لا يؤمن بغير منطق القوة والقهر.

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً…فالظلم ترجع عقباه إلى الندمِ

تنام عيناك والمظلوم منتبهٌ…يدعو عليك وعين الله لم تنمِ

عين الله لم تنم ولن تنم.