نكبة أفغانستان بين “النضال السوفياتي” و”الجهاد الأميركي”


ربما كان يمكن لأفغانستان، أن تكون على غير الصورة التي أنتجتها حروب "المناضلين السوفيات" و"المجاهدين الأميركيين" منذ لحظة الإنقلاب الذي قاده الجنرال محمد داوود على ابن عمه الملك محمد ظاهر شاه في تموز/يوليو 1973، فما أعقب الإنقلاب، أفضى إلى تدحرج المشهد الأفغاني نحو قاع تمزقت معه الهوية الوطنية وبات تعريف أفغانستان بأنها أرض الحروب والقبائل والإيديولوجيات القاتلة. لا يتفق الباحثون على المنشأ التاريخي لإسم أفغانستان، فالمفكر جمال الدين الأفغاني في كتابه “تتمة البيان في تاريخ الأفغان” الصادر في عام 1901، يعيد نشأة الإسم إلى مجموعة من الظنون المتوارثة، من بينها أن “أفغان” حفيد لشاؤول أحد أسباط بني إسرائيل، أو إلى ما كان يطلقه الأسرى من أنين وحنين عندما أسرهم “بخت نصر” والأنين يُسمى بالفارسية “أفغان”. بصرف النظر عن الظنون وأصل الأنساب المختلف حوله في كل مكان وزمان، فالراجح أن أصول الأفغان آرية ومعناها النبيل أو المجيد، وهذا ما يذهب إليه العلامة وول دويرانت في “قصة الحضارة”، وأما أفغانستان، بحسب السفير الأفغاني في القاهرة صلاح الدين السلجوقي (1960)، فهي “مهد الآرية والآريين، ولما تكاثر عدد سكان آريانا وضاقت بهم الأرض، هاجروا شرقا نحو الهند، وغربا نحو فارس والعراق”. في التاريخ العربي، اشتهرت أفغانستان بخراسان وهي تسمية تعود للفيلسوف والمؤرخ اليوناني كليستانس إبن شقيقة أرسطو، ذلك أنه بعدما “بدأت فكرة تقسيم العالم بحسب الكواكب السيارة، ولما كانت افغانستان، وفقا للتنجيم السائد آنذاك مرتبطة بالشمس، سمّوها خراسان، أي أرض الشمس” كما يقول صلاح الدين السلجوقي، ولكن أول من أشار إلى مفردة الأفغان في العصور التالية، هو العالم الفلكي الهندي فارها ميهرا في كتابه “برهات ـ سمهيتا” في أوائل القرن السادس الميلادي، فيما راحت أفغانستان تعرف بإسمها الحالي ابتداء من عام 1747 بعد شبه اكتمال وحدتها السياسية والجغرافية في عهد سلطانها احمد شاه  او احمد خان، مثلما ورد في كتاب قيّم لفاروق بدر صادر في عام 1980، وأما أفغانستان الحديثة فقد نالت استقلالها الوطني في عام 1919.

بعد هذا العرض ثمة سؤال أفغاني يمتد على بساط القرن العشرين كله، وقد يغطي القرن الحالي أيضا، ومحور السؤال: ما الفارق بين عصر الملوك في افغانستان الحالية وعصري “التقدميين” و”الجهاديين”؟ لنلاحظ الآتي: ـ أولا؛ في النظام السياسي: يمكن تجاوز المرحلة الأولى من النظام الملكي الأفغاني والممتدة بين الأعوام 1919 و1929، لأسباب تتعلق بإشكالية الأفكار التي طرحها الملك أمان الله، وقيل إنها في غاية التغريب، ومع أن ثمة من يجادل في الأمر، على قاعدة تقول إن الملك نادى بسفور المرأة وحضها على نزع الزي الإسلامي، إلا أن هناك من يرى أن أمان الله أمر بالكشف عن وجه المرأة وليس بنزع حجابها، وحثها على ترك الملاءة وليس التخلي عن ثوبها الشرعي، ومع ذلك تم قتله، بعدما أشاع الإنكليز، وكان حاربهم، صورة لزوجته سافرة الرأس. في عام 1929، تولى نادر شاه مقاليد المُلك خلفا لأمان الله، وأعلن “أن جميع أفراد الشعب متساوون أمام القانون” وأشرف على إصدار دستور العام 1930، فاتحاً المجال أمام انتخاب مجلس نيابي يقوم على الإختيار الحر، وحين اغتيل نادر شاه عام 1933، خلفه إبنه ظاهر شاه، فأكد على استمرار النهج الإصلاحي الذي شرّع والده أبوابه، وفي عام 1963، تم اعتماد نظام فصل السلطات من خلال تعديلات دستورية واسعة، وعلى هذا الأساس، جرت انتخابات نيابية أوصلت محمد يوسف إلى رئاسة الوزراء عن طريق الإقتراع الشعبي. وفي عام 1965، دُعي الأفغان إلى انتخابات نيابية جديدة إثر تعديل الدستور مجددا، ومن مفارقات تلك المرحلة، أن الشيوعي بابراك كارمل، فاز بعضوية المجلس النيابي المنتخب سنتذاك، إلا أن حزبه المعروف بـ”بارشام” ـ الراية ـ أسهم في الإنقلاب العسكري على النظام الملكي في 17 تموز/يوليو عام 1973 بقيادة  إبن عم الملك محمد داوود، وبعد خمس سنوات، وعقب اتحاد الحزبين الشيوعيين “بارشام” و”خلق”، انقلب بابراك كارمل مع رفاقه الشيوعيين على محمد داوود وقتلوه في نيسان/ابريل عام 1978.

عن المرحلة الدستورية في افغانستان، يتحدث الكاتب الأفغاني المعروف محمد هارون المجددي في مقالة له تعود إلى ستينيات القرن الماضي فيقول “تُحكم أفغانستان اليوم بنظام نيابي، وفيها مجلس أعيان يقابل مجلس الشيوخ”، ويكتب المصري محمود صابر في كتاب “أفغانستان في مقالات” صادر عن المفوضية الملكية الأفغانية في القاهرة في عقد الستينيات الفائت، قائلاً “مجلس الوزراء في افغانستان مسؤول أمام البرلمان، وهو ينتخب على الأسلوب الإنكليزي، ويعقد جلساته على مدى ستة أشهر”، وفي كتاب “افغانستان” لمحمود شاكر (1974)، جاء “قبل انقلاب 1973، كانت أفغانستان دولة ملكية دستورية، يحكمها ملك بدستور وافق عليه الشعب عام 1964، والسلطة التشريعية بيد مجلسين، مجلس شيوخ يعين الملك ثلثه والباقي ينتخبه الشعب، ومجلس نواب ينتخبه الشعب، والسلطة القضائية مستقلة”. ـ ثانيا؛ في السياسة الخارجية: صاغت الملكية الأفغانية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، سياسة خارجية غير منحازة نحو الشرق أو الغرب، يمكن إيجازها على الوجه التالي: كانت أفغانستان تتلقى مساعدات على أنواعها من الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، وفي الحرب العالمية الثانية وقفت على الحياد، وفي عام 1953 اعتمدت سياسة خارجية قامت على أربعة مبادىء من ضمنها الإبتعاد عن سياسة المحاور الشرقية والغربية، وهذا السلوك غير المنحاز مرده إلى تطبيق مبادىء جمال الدين الأفغاني الداعية إلى الخروج من أطواق النفوذ الأجنبي، كما يقول الدبلوماسي الأفغاني صلاح الدين السلجوقي. وعلى هذا الأساس، شهد عقد الخمسينيات الماضية زيارات متبادلة بين القادة الأفغان وقادة الدول الكبرى، فقد زار افغانستان الرئيسان الأميركي والسوفياتي دوايت ايزنهاور ونيكيتا خروتشوف، ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو، وغيرهم، وفي المقابل زار ظاهر الشاه موسكو وواشنطن وبكين وبون، وفي عام 1955، زار الرئيس جمال عبد الناصر كابول، وبعد خمس سنوات زار ظاهر الشاه القاهرة، واستمرت سياسة افغانستان غير المنحازة حتى لحظة الإنقلاب العسكري على النظام الملكي عام 1973 و”إعلان الجمهورية”، وبعد الإنقلاب سعى الشيوعيون إلى قلب ظهر المجن نحو الإتحاد السوفياتي، وحين تيقنوا أن محمد داوود سيزور مصر والمملكة العربية السعودية لإستعادة بعض التوازن المفقود، أطاحوا به وأنزلوه عن مقعد الحُكم مقتولاً ومسحولاً. ـ ثالثا؛ في النهضة والتنمية: لم تخطُ أفغانستان خطوة نهضوية أو تنموية واحدة منذ ساعة تحولها ميدانا صراعيا بين محمد داوود وبين الشيوعيين، وساءت أوضاعها أكثر بعد إسقاط محمد داوود عام 1978 ودخول الأجنحة الشيوعية في صراعات مريرة، ومن ثم تعاقبت النكبات الدموية على أفغانستان إثر وقوعها بين فكي “النضال السوفياتي” و”الجهاد الأميركي” بعد عام 1980، وحين سقط نظام طالبان عام 2001، كان كل ما في أفغانستان قد تراجع إلى ما قبل القرن التاسع عشر، وطوال عشرين سنة من سلطة “الكاوبوي الأميركي”، لم تعرف أفغانستان نهضة ولا تنمية، وكل ما بات يعرفه العالم عن تلك البلاد، أنها غدت رمزا للإحتلال وعصبيات القبائل وزراعة المخدرات، وعلى ما يبدو، لن تتغير أحوال الأفغان بعد عودة طالبان إلى الحُكم، إذ كيف يمكن أن تنهض الأوطان والشعوب بعقول قادة و”أمراء” يحملون أفكارا سياسية عن السلطة وإدارة الدولة تعود إلى مئات من السنوات الماضيات؟

فشل الشيوعيون في أفغانستان، وفشل الجهاديون أيضا، وفشل الأميركيون أيضا وأيضا، والسؤال المطروح حيال ذلك، هل الداء في الجينات الأفغانية غير القابلة للدواء؟

إن من يذهب إلى إجابة استعصاء الدواء الأفغاني، غالبا ما يكون مشدودا إلى عقيدة حادة ومتطرفة، يسارية او يمينية أو دينية، فالأفغان حين يستحضرون تاريخهم المجيد، يتحدثون عن أبي حنيفة والترمزي والبخاري والرازي وإبن سينا والفارابي وجابر بن حيان والبيروني وغيرهم، وحين تستدعي ذاكرتهم القريبة النظام الملكي في القرن العشرين، يتحدثون عن الآتي: ـ التعليم: في عام 1922 وقعت أفغانستان مع فرنسا اتفاقية قضت بإستقدام بعثة تعليمية فرنسية لمدة 30 سنة، وفي عام 1952 تم تجديد الإتفاقية لثلاثين سنة أخرى، وظهرت في كابول ابتداء من عام 1924 المدرسة الفرنسية ثم الألمانية، فالإنكليزية، ورصدت الحكومة الأفغانية مبالغ طائلة لإنشاء مدارس وجامعات بفروعها المختلفة، فضلا عن مدارس مكافحة الأمية، وعمدت إلى إنشاء مدرسة في كل قرية يزيد عدد طلابها عن ثمانين طالبا. وورد في يوميات “مركز الدراسات الإستراتيجية والإقليمية” في كابول (12 ـ 9 ـ 2019) أنه في الوقت “الذي تحتفل فيه دول العالم باليوم العالمي لمحو الأمية، ما زالت أفغانستان إحدى ثلاث دول فيها أكبر نسبة من الأمية في العالم، حيث ذكرت إدارة إحصاء السكان العالمية أن نسبة القادرين على القراءة والكتابة في أفغانستان في حدود 38.2 في المائة”. ـ الصحة: يقول محمد إسحق الفقيهي في مقالة يعود تاريخها إلى أواخر خمسينيات القرن الفائت “في كابول مستشفيات عظيمة مزودة بأحدث الأدوات الطبية، وفي المدينة ايضا معامل للتحاليل المختلفة وتنتشر فيها زراعة النباتات لإستخراج العقاقير، وفيها مؤسسات للبحث والتحقيق العلمي الطبي، وتصنع كميات وافية من الأمصال الخاصة بالكوليرا والتيفوئيد، وتوجد مستشفى في كل مركز مديرية، يضاف إليها المستشفيات المتنقلة من بلدة إلى أخرى، والطبابة مجانية، واتخذت الحكومة إجراءات حاسمة لمقاومة الأوبئة المعدية كالكوليرا والملاريا والجذام والجدري في كل أنحاء البلاد”، وفي كتاب صادر عن مكتب الصحافة في السفارة الملكية الأفغانية (القاهرة 1960) انه في كابول “كلية طب يشرف عليها أساتذة أفغانيون وتفخر الكلية بأن مستواها العلمي يضارع مستوى أعلى الجامعات في أوروبا وأميركا”. وفي تقرير(22 ـ 1 ـ 2009) لممثلة الأمم المتحدة في أفغانستان أن التحقيقات التي تقوم بها منظمة “اليونيسيف” تظهر أن نسبة وفيات الأطفال الأفغان هي الأعلى في العالم، وفي معلومات (13 ـ 8 ـ2021) منشورة على الموقع الألكتروني للأمم المتحددة “أن طفلا من كل طفلين افغانيين دون سن الخامسة، يعاني من سوء التغذية الحاد والشديد، إنهم جائعون للغاية لدرجة أنهم يمرضون”. ـ  الصناعة: لجأت أفغانستان منذ أوائل الخمسينيات إلى ما يُعرف بالخطط التنموية الخمسية، وسرعان ما ظهرت فيها مصانع للإسمنت في جبل السراج وغوري، ومصانع للنسيج والغزل في كابول وقندهار وكلبهار وجبل السراج، وللأقطان والصابون والزيوت النباتية في قندوز وغيرها، وللخزف والحرير والجلود في غير مدينة ومنطقة، وللسكر والفواكه المعبأة في عدة مدن، وفي عام 1960 افتتح الملك ظاهر شاه مصنعا لإنتاج قطع غيار السيارات والمصانع، وما يمكن ملاحظته في عمليات التصنيع، أنها شملت المناطق والمحافظات كافة، ورصدت الحكومة الأفغانية لهذه الغاية ما يقارب نصف مليار دولار أميركي.

ـ المواصلات: بهدف تعزيز الرابطة الوطنية، ربطت الحكومة الملكية المناطق الأفغانية بشبكة طرق لم تعهدها أفغانستان من قبل على الإطلاق، ورغم الطبيعة الجبلية ذات التضاريس والوعور المسننة، فقد نجحت مشاريع ربط المدن الكبرى والمحافظات والمديريات بصورة ملحوظة، وفي مقدمة الطرق تلك، واحدة دائرية طولها 3 آلاف كلم، تبدأ من العاصمة كابول وتمر في قندهار، هرات، ميمنة، مزار شريف، باغلان، بل خمري، لتنتهي بكابول من جديد. ـ مشروع نهضة القرية: أولى النظام الملكي الأفغاني عناية خاصة بالقرية، وأطلق “مؤسسة النهوض بالقرية الأفغانية”، ومن مهامها: إنشاء المدارس والمعاهد التقنية والمهنية والجمعيات التعاونية، كيفية الإستفادة من الثروة الحيوانية وتحسين إنتاجها وطرق مكافحة الآفات الزراعية، بيع المحاصيل، بالإضافة إلى نشر الوعي الصحي والبيئي بين المواطنين. ـ البيئة: ذكرت قناة “الجزيرة” بتاريخ 3 ـ 5 ـ 2019 “أن تلوث الهواء في كابول يحصد أرواحا أكثر من الحرب الدائرة فيها”. هل يمكن المقارنة بين مشهدين أفغانيين؟ مشهد ما قبل الإيديولوجيا ومشهد ما بعد إيديولوجيتين اثنتين؟ وأي مقارنة أيضا يمكن إجراؤها مع إطلالة “طالبان” بإيديولوجيا ثالثة إنما بنسخة جديدة ومنقحة كما تقول وتردد؟ ختامها قصص افغانية: القصة الأولى: يقال إن السلطان محمود الغزنوي، خرج ذات يوم للصيد، فأصاب غزالا بنباله وأثخنه جراحا، فهرب الغزال إلى خيمة يقيم فيها احد الرعاة الأفغان، ولما حاول الغزنوي الإستحواذ على الغزال، منعه الراعي من ذلك وقال له: خذ ما تشاء من غنمي، ولا تقترب من الغزال، فهو لجأ إلى خيمتي يطلب الحماية والأمان. القصة الثانية: هاجم لصوص قرية افغانية، فعاثوا فيها فسادا، ولما ضيق أهل القرية الخناق عليهم، فروا إلى بيت تسكنه عجوز، فقيل لها إن اللصوص قتلوا إبنك، فأجابتهم: قد يكون صحيح ذلك وقد يكون خطأ، ولكنهما الآن في حمايتي وفي داخل بيتي. تلك هي قصص شعبية كان يتداولها الأفغان بإعتزاز وفخر، قبل أن يتنكبوا مرة بـ”نضال” جاءهم على غفلة من الشرق، وبـ”جهاد” أتاهم على حين غرة من الغرب. على أفغانستان السلام.