السلفية: النظرية الثالثة ج2


تحدثنا سابقا عن أهم مرتكزات الأطروحة السلفية واعتمادها حجية فهم وعمل الصحابة (السلف الصالح) وتقديمه على فهم (الخلف المبتدع) وكيف أنهم لم يلتزموا بهذا عند التطبيق حيث أن بعض هذه التصورات هي من مبتدعات هذا الخلف المذموم من وجهة نظرهم.

من بين مبتدعات الخلف التي أصبحت دينا وركنا ركينا من أركان الدين في التصور السلفي هو اعتبارهم أن أضرحة الأنبياء وأئمة أهل البيت هي أوثان ينبغي هدمها وتسويتها بالأرض.

إنها فتوى (الخلفي) ابن تيميه (التي لم يقل بها أحد من السلف!) الذي قال في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) ما نصه: المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم أو بغيره هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه ولا تصح عندنا في ظاهر المذهب لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك ولأحاديث أخر وليس في هذه المسألة خلاف!!.

يزعم ابن تيميه أنه لا يعرف خلافا بين (العلماء المعروفين) حول هذا الشأن من دون أن يحدد لنا من هم العلماء المعروفين, إلا أن إقامة هذه الأضرحة وبقائها ثلاثة عشر قرن من دون أن يتعرض لها أحد بهدم حتى جاءت الحركة الوهابية ومعها معاولها لتنفذ هذه الفتوى في القرن العشرين هو دليل قاطع على عكس هذا, وهي نفس الحجة التي احتج بها الشيخ القرضاوي على أصدقائه الطالبان من أجل إقناعهم بعدم هدم تماثيل بوذا لأن أحدا من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ممن ساهموا في فتح هذه البلدان لم يقم بهدمها ولا دعا إلى ذلك!!.

ورغم الفارق الجوهري بين النموذجين إلا أن المنطق الاستدلالي واحد في الحالتين خاصة وأن الحديث يدور عن سلف صالح وخلف مبتدع!!.

ورغم أن دفن رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجده جرى بأمر منه وشهد على ذلك جمهور الصحابة المتبعين الذين لم يكن لهم حق الرفض والاعتراض إلا أن السلفيين يصرون على أن بقاء قبر النبي الأكرم محمدا صلى الله عليه وآله في هذه البقعة الطاهرة هو بدعة ينبغي إزالتها كما أفتى ابن تيميه من قبل وكما أفتى شيوخ الوهابية أتباعهم من تنظيم القاعدة في العراق بنسف ضريحي الإمامين الهادي والعسكري وهاهي فتوى الشيخ ابن جبرين الصادرة بتاريخ 7 فبراير 2007 حيث يقول: (فقد جاء الإسلام بتحريم البناء على القبور، وتحريم تجصيصها، والأمر بهدم البناء عليها والنهي عن البناء على القبور يقتضي تحريمها، وذلك لأنه ذريعة إلى عبادة الأموات، كما هو الواقع في كثير من البلاد الإسلامية التي وقع فيها الغلو في أصحاب القبور بسبب رفع تلك القبور والبناء عليها، وكثرة الكتابة عليها وزخرفتها فيعتقد الجاهل أن أولئك الأموات لهم فضل وشرف، مما يحمل الجهال على الطواف بتلك القبور والتمسح بتلك الأبنية واعتقاد أن أصحاب هذه الأضرحة من الأولياء والشهداء الذين لهم جاه عند الله والذين ينفعون من تعلق بهم، ويشفعون لمن دعاهم ، ويجيبونه ويعطونه سُؤلَه، وذلك بلا شك شرك في العبادة، وتعظيم لهؤلاء الأموات، فالواجب هدم تلك الأبنية حيث يقر أهلها بأن البناء محرم ولا يسوغ بقاءها الناحية الفنية والجمالية في البناء، ولا أنها تراث إسلامي، وأما وصفها بأنها عمارة إسلامية فليس بصحيح، ولا تسمى تراثاً إسلامياً فإن الشرع لا يقرها، والإسلام يأمر بإزالتها[1]. والله أعلم.   

والطريف أن مسئولا أمنيا سابقا صرح أخيرا بأن هذا الفكر لا يمثل خطرا (ربما لأنه لم يسمع بما حدث مؤخرا في سامراء) بما يقطع بأن عبقريته الدينية لا تقل عن تلك الأمنية التي جعلت منه ضيفا ثابتا في الفضائيات العربية!!.

استند القوم في دعواهم لإزالة أضرحة الأنبياء والأئمة إلى تلك الرواية المنسوبة لرسول الله صلى الله عليه وآله والتي تقول (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وهي الرواية التي لم يفهمها بعض علماء السلف كما فهمها ابن تيميه وتلميذه محمد بن عبد الوهاب حيث يقول صاحب (تحفة الأحوذي في شرح صحيح الترمذي) “وحديث لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد: كانوا يجعلونها قبلة يسجدون إليها في الصلاة كالوثن, وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح أو صلى في مقبرة قاصدا به الاستظهار بروحه أو وصول أثر من آثار عبادته إليه لا التوجه نحوه والتعظيم له فلا حرج فيه ألا يرى أن مرقد إسماعيل في الحجر في المسجد الحرام والصلاة فيه أفضل” أي أن المرقد الطاهر لإسماعيل عليه السلام موجود في المسجد الحرام الذي يفد إليه المسلمون من كل فج عميق من أجل الحج.

هذه واحدة, والثانية أن النصارى ليس لهم (أنبياء) بل نبي واحد هو عيسى بن مريم عليه السلام وهو سلام الله عليه ليس له قبر ولا ضريح يزار فهو من وجهة النظر المسيحية قد قام بعد صلبه ورفع إلى السماء, أما من وجهة النظر الإسلامية فقد رفع منذ البدء (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) النساء 157-158 فأي قبر إذا اتخذه النصارى مسجدا؟!.

الثابت أيضا أن بيت رسول الله صلى الله عليه وآله ومن ثم قبره كان في مسجده حتى أنه أمر بسد كل أبواب بيوت الصحابة المفتوحة فيه ولم يبق إلا بابه وباب علي بن أبي طالب وهذا ما ذكره القرطبي في تفسير قوله تعالى من سورة النساء آية 43 (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا): عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ وَلَا يَصْلُح أَنْ يُجْنِب فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَنَا وَعَلِيّ). قَالَ عُلَمَاؤُنَا, هَذَا لِأَنَّ بَيْت عَلِيّ كَانَ فِي الْمَسْجِد كَمَا كَانَ بَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد وَاَلَّذِي يَدُلّ عَلَى أَنَّ بَيْته كَانَ فِي الْمَسْجِد مَا رَوَاهُ اِبْن شِهَاب عَنْ سَالِم بْن عَبْد اللَّه قَالَ سَأَلَ رَجُل أَبِي عَنْ عَلِيّ وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَيّهمَا كَانَ خَيْرًا؟ فَقَالَ لَهُ ابْن عُمَر: هَذَا بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَأَشَارَ إِلَى بَيْت عَلِيّ إِلَى جَنْبه, لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِد غَيْرهمَا; وَذَكَرَ الْحَدِيث.

ليس هناك إذن مجال للمحاورة والمداورة حول دفن رسول الله صلى الله عليه وآله (بأمر منه) في مسجده بعد وفاته ولو كان هناك أدنى احتمال أن يؤدي الدفن في هذا المكان لأدنى شبهة تتعلق بعقيدة التوحيد لأمر رسولنا صلى الله عليه وآله بدفنه في مكان آخر إذ لا مجال للادعاء بأن ابن تيميه الحراني وتلميذه ابن عبد الوهاب يمكن أن يكونا احرص على عقيدة التوحيد ممن جاء من عند الله بعقيدة التوحيد وذاق الأمرين من أجل نشرها وعادى الأقربين في ذات الله ومن أجل مرضاته.

القرآن والأضرحة

يقول سبحانه في سورة الكهف (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) والمعنى أن لو كان اتخاذ المساجد بجوار الأضرحة ممنوعا لما وردت تلك الآية بصيغة الإقرار ولجاءت بصيغة الاستنكار والنهي قال الطبري في تفسيره  َقَوْله (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرهمْ) يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَالَ الْقَوْم الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْر أَصْحَاب الْكَهْف (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) قَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلْ نَحْنُ أَحَقّ بِهِمْ هُمْ مِنَّا نَبْنِي عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا نُصَلِّي فِيهِ وَنَعْبُد اللَّه فِيهِ.

ولا شك أن النص القرآني يبيح إقامة المساجد على قبور الصالحين ويجعل منه أمرا مشروعا وليس هناك دليل أقوى من الدليل القرآني.

لا يقل أهمية عن كل ما سبق أن الأمر يتعلق بقبر محفور في التراب وضع فيه جسد نبي أو إمام من أئمة أهل البيت بعد موته وهو إقرار عملي ببشريته وموته (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) طه 55 ولا يتعلق من قريب ولا من بعيد بصنم يعبد من دون الله, تتجسد فيه (بعض ملامح الإله المعبود؟!) فالدفن في التراب إقرار بالبشرية والطبيعة الطينية الأصلية للنبي أو للوصي, فكيف يقال أن تعظيم هذه القبور وبناء القباب عليها يمثل مدخلا للشرك أو للوثنية؟!.

ولأن هذه المسألة هي من أساسيات الفكر الوهابي أو السلفي سمه ما شئت لذا يبدو واضحا أن استدلالهم على وجوب إزالة المساجد التي تحتوي على قبور الأنبياء لا تعدو كونها فتوى للخلفي ابن تيميه خالف فيها صريح القرآن والسنة النبوية العملية وليست القولية ناهيك عن مخالفته لما استقر عليه جمهور الصحابة والتابعين وتابعي التابعين فضلا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وأصحاب المذاهب الأخرى فكيف يقال إذا أن السلفية تعني العودة إلى الجذور أو إلى النص الأصلي؟!.