حقيقة النبوة


(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) المؤمنون 69.

رغم أن الانقسام المذهبي بين المسلمين يبدو قاصرا على مسألة الإمامة أو (ما بعد النبوة) إلا أن التأمل في الطريقة التي يتناول بها البعض تلك المفاهيم المتعلقة بالنبوة يكشف أن هذا الانقسام والتفاوت قد طال أيضا هذه المفاهيم وهو ما يبدو أمرا بالغ الأهمية والخطورة!!.

أسئلة كثيرة تطرحها تلك الأحاديث والروايات التي يلوكها البعض حول مقام النبوة وبشرية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وهل كان بشرا عاديا يصيب ويخطئ ومن ثم هل هناك صفات قياسية موحدة وثابتة لكل البشر؟!!.

أم أن البشرية من حيث هي بشرية درجات وصفات تزيد وتنقص يجمعها جامع مشترك ومع ذلك فليس كل البشر سواء كما أنه من الثابت أن ليس كل الأنبياء سواء!!.

البشر في الغالب الأعم متشابهون ولكنهم أبدا ليسوا متطابقين فكلهم يولدون من أب وأم وهم بعد قليل أو كثير يموتون وفي التراب يدفنون وكلهم يأكلون ويشربون ويتنفسون كما أنهم يفرحون ويحزنون ويحبون ويكرهون… وتلك هي بعض الصفات البشرية المشتركة ورغم ذلك التشابه فهم حتى في هذه الصفات لا يتطابقون كما أنهم في بعض هذه الصفات مع غيرهم من المخلوقات يتشابهون!!.

البشر عندما يموتون, في التراب يدفنون إلا أن الله تبارك وتعالى اختص الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون فما بالك بخاتم الأنبياء والمرسلين وذريته من الأئمة الطاهرين (إنه يموت من مات منا وليس بميت ويبلى من بلي منا وليس ببال)!!.

لم يُخلق الإنسان من طينة واحدة (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) الإنسان 2.

كما أن هذه الطينة تبقى حاكمة ومؤثرة في صياغة السلوك الإنساني (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان (3).

هذه الطينة يمكن أن تهبط بصاحبها إما إلى أسفل سافلين أو ترفعه إلى أعلى عليين (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) الإنسان (4- 14).

لو كان للبشرية معنى واحدا لما صار بعض (الناس) هم والكلاب سواء (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الأعراف (174- 176)

فهناك من تماثل في إنسانيته أو بهيميته الضالة المتخبطة مع الأنعام أو هم أضل (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). الأعراف (179)

وهناك من استوت إنسانيته مع القردة والخنازير (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) المائدة(60).

أما الأبرار فهم في عليين رغم أنهم بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ولكنهم عليون في الدنيا قبل الآخرة (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (18- 28) المطففين.

الكافي ج2: عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله عزوجل خلقنا من أعلى عليين وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم من دون ذلك وقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه ثم تلا هذه الآية “كلا إن كتاب الابرار لفي عليين وماأدراك ما عليون * كتاب مرقوم يشهده المقربون” وخلق عدونا من سجين وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه ثم تلا هذه الآية: “كلا إن كتاب الفجار لفى سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين”.

فهل بقي من يزعم أن للإنسانية معنى واحدا يشترك فيه الأدنى والأعلى ويستوي فيه أبرارُ عليين مع فجار سجين ممن يعيشون وهم يستمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم أي أنهم بشر ولكنهم أسفل سافلين ثم يموتون ليتلقفهم قعر جهنم إلى أن يأتي يومهم الذي كانوا يوعدون؟!.

وهل بقي من يدعي أن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان بشرا كأشباه البشر وهل يعرف هؤلاء معنى البشرية الحقيقية وقد ارتكس بعضهم في درجات الحيوانية وظلمات البهيمية رغم أن الصورة صورة إنسان أما الحقيقة فلا تعدو كونها حقيقة من أشرنا إليه من صنوف الحيوان!!.

أن يكون رسول الله صلى الله بشرا مثلنا يوحى إليه فهذا ليس موضع خلاف (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف 110.

إنها مثلية قاصرة على تلك المشتركات التي تجمع بني الإنسان ولكنها وبكل تأكيد ليست مثلية مطلقة بل مثلية الصورة الخارجية وشتان ما بين من اختاره ربه واصطفاه على الأنبياء والمرسلين وجعله حجة على العالمين وهو من باب أولى على رأس عالم الأبرار المقربين بينما يقطن على السفحِ المقابلِ, من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت رغم أنهم يشتركون مع الجميع في مثلية الصورة التي لا يمكن لها أن تنفي التناقض المطلق بين العالمين عالم الحقيقة الممتدة من الأرض صعودا إلى أعلى عليين وعالم الانحطاط الممتد سقوطا إلى أسفل سافلين!!.

ألم يصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع بعض هؤلاء الأشباه بقوله (فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان لا يعرف باب الهدى فيتبعه ولا باب العمى فيصد عنه فذلك ميت الأحياء). خطبة 86 نهج البلاغة.

أما السبب وراء هذا التفاوت الشاسع ما بين السماء والأرض وبين عليين وسجين فيشرحه لنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع بقوله:

ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الاَْرْضِ وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا، تُرْبَةً سَنَّهَا بالمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ، وَلاَطَهَا بِالبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ، فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاء وَوُصُول وَأَعْضَاء وَفُصُول أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ وَأَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْت مَعْدُود وَأجَل مَعْلُوم ثُمَّ نَفَخَ فِيها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إِنْساناً ذَا أَذْهَان يُجيلُهَا، وَفِكَر يَتَصَرَّفُ بِهَا وَجَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا وَأَدَوَات يُقَلِّبُهَا وَمَعْرِفَة يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ والأذْوَاقِ والَمشَامِّ وَالاَْلوَانِ وَالاَْجْنَاس مَعْجُوناً بطِينَةِ الاَْلوَانِ الُمخْتَلِفَةِ وَالاَشْبَاهِ المُؤْتَلِفَةِ، وَالاَْضْدَادِ المُتَعَادِيَةِ والاَْخْلاطِ المُتَبَايِنَةِ مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ وَالبَلَّةِ وَالْجُمُودِ وَالْمَساءَةِ وَالسُّرُورِ وَاسْتَأْدَى اللهُ سُبْحَانَهُ المَلائكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ وَعَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهمْ، في الاِْذْعَانِ بالسُّجُودِ لَهُ، وَالخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ، فَقَالَ عزَّمِن قائِل: (اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ )وَقَبِيلَهُ اعْتَرَتْهُمُ الحَمِيَّةُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقْوَةُ، وَتَعَزَّزُوا بِخِلْقَةِ النَّارِ، وَاسْتَوْهَنُوا خَلْقَ الصَّلْصَالِ، فَأَعْطَاهُ اللهُ تَعالَى النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ، وَاسْتِتْماماً لِلْبَلِيَّةِ، وَإِنْجَازاً لِلْعِدَةِ، فَقَالَ: (إنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).
خطبة 1 نهج البلاغةٍ.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله (بشرا مثلنا) في الصورة الخارجية ولكننا أبدا لسنا بشرا مثله في حقيقته العَلية وإلا فما هو معنى طلبه سبحانه وتعالى منا أن نتخذه أسوة ونموذجا ومثلا أعلى يحتذى به (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب 21.

تلك هي القضية التي غفل عنها الغافلون إما سهوا أو عمدا سواء أولئك الذين حرصوا على تقديم رسول الله في صورة (مبلغٍ أمينٍ) أدى ما عليه وأبلغ نصوص الدين وتركها بين يدي صحابته والتابعين وتابعي التابعين وأنه صلى الله عليه وآله لم يكن له عصمة في غير مجال التبليغ حيث كان في بقية حالاته بشرا مثلهم يصيب ويخطئ ويرضى ويغضب ورغم أن البعض الآخر قد أسبغ عليه صفة العصمة في كل حالاته إلا أنه يرى أن مهمته الرئيسية وربما الوحيدة كانت هي التبليغ ولا شيء سوى التبليغ رغم أننا في هذا البحث سنثبت أن رسول الله كان واسطة العقد بين الأرض والسماء في كل المجالات رحمة وعلما ورفعة ومقاما وآخر هذه المقامات هو مقام التبليغ!!.

رسولنا رحمة للعالمين:

يقول سبحانه:

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء 107

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) التوبة 61

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)  آل عمران 159

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) يونس 57

(أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) هود 17

(وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) النحل 64

الشاهد من هذه الآيات أن الله تبارك وتعالى قد أرسل نبينا الأكرم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين وأن هذه الرحمة الإلهية ليست قاصرة على حفظ وتبليغ نصوص الكتاب المنزل من عند الله بلسان عربي مبين.

إنه رحمة للعالمين للإنس والجن والطير والجبال والشجر والدواب, رحمة سمع بها الجن فآمنوا (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) الجن (1-2).

الرسول الأكرم كان في ذاته وصفاته ووجوده رحمة للناس عامة ولأمة لا إله إلا الله خاصة (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) التوبة 128

لقد كان وجوده صلى الله عليه وآله أمانا لهذه الأمة من الضلال وأمانا من العذاب وهو المعنى الذي رواه أبو جعفر الباقر عن علي بن ابي طالب عليهما السلام: كَانَ فِي الاَْرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَقَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَكُمُ الآخَرَ فَتَمَسَّكُوا بِهِ أَمَّا الاَْمَانُ الَّذِي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ اللهُ (صلى الله عليه وآله) وَأَمَّا الاَْمَانُ الْبَاقِي فَالاْسْتِغْفَارْ قَالَ تعالى (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الأنفال 33.

بين محمد وموسى

الذين ما فتئوا يلتون ويعجنون وينقصون ولا يزيدون من مقام نبيهم سيد الكائنات ويقدمونه للناس بشرا مثلهم من أصحاب البشرية الهابطة لا يقرءون القرآن ولا يتدبرون معانيه لأن على قلوب أقفالها كما أنه قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وفات هؤلاء أن الرسل والأنبياء مقامات وأن تفاضل الرسل ليس تفاضلا لفظيا بل هو تفاضل واقعي قائم على أساس الدليل والبرهان.

التفاضل بين الأنبياء والرسل هو تفاضل في المهمات والتكاليف الملقاة على عاتق كل نبي من هؤلاء الأنبياء ولا شك أن خاتم النبيين المبعوث رحمة للعالمين قد حمل على كاهله مجموع ما حمله كل هؤلاء الأنبياء فضلا عن عبء هادية البشرية بأسرها منذ مبعثه إلى يوم الفصل بين الخلائق أجمعين.

يقول تعالى:

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) البقرة 253.

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) النساء 164.

وإذا كان القرآن الكريم قد حكى لنا عن الطريقة التي كلم الله بها موسى تكليما في أكثر من موضع بالواد المقدس طوى أو عندما ذهب موسى لميقات ربه (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) الأعراف 142-145

الشيء الثابت من هذه الآيات أن موسى عليه السلام وهو من أولي العزم من الرسل لم يقدر على احتمال موقف المشافهة الإلهية وليس موقف الرؤية الإلهية المباشرة المحكوم باستحالتها شرعا وعقلا.

لم يتمكن موسى عليه السلام من احتمال عظمة الموقف فكان أن خر  صعقا بينما يحكي لنا كتاب الله في سورة النجم (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (1- 18)

يقول القمي في تفسير هذه الآية: هو قسم برسول الله صلى الله عليه وآله وهو فضل له على الانبياء وجواب القسم (ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى) أي لا يتكلم بالهوى (إن هو) يعني القرآن (إلا وحي يوحى علمه شديد القوى) يعني الله عزوجل (ذو مرة فاستوى) يعني رسول الله صلى الله عليه وآله.

قال: وحدثني ياسر عن ابي الحسن الرضا عليه السلام قال: ما بعث الله نبيا إلا صاحب مِرة سوداء صافية وقوله (وهو بالأفق الأعلى) يعني رسول الله صلى الله عليه وآله  (ثم دنا) يعني رسول الله صلى الله عليه وآله من ربه عزوجل (فتدلى) قال إنما نزلت هذه ثم دنا فتدانى (فكان قاب قوسين او أدنى) قال كان من الله كما بين مقبض القوس إلى رأس السية (أو أدنى) أي من نعمته ورحمته قال بل أدنى من ذلك (فأوحى إلى عبده ما أوحى) قال وحي مشافهة.

يقول الراغب الأصفهاني في (مفردات القرآن): أصل الوحي الإشارة السريعة ولِتضمن السرعة قيل أمرٌ وحيٌ وذلك بالكلام على سبيل الرمز والتعريض, وقد يكون بصوت مجرد من التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وأوليائه وحيٌ وذلك على أنواع حسبما دل عليه قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) الشورى 51, وذلك إما برسول مشاهد ترى ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل عليه السلام للنبي في صورة معينة وإما بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى عليه السلام كلام الله وإما بإلقاء في الروع كما ذكر صلى الله عليه وآله وسلم (إن روح القدس نفث في روعي) وإما بإلهام نحو (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) وإما بتسخير نحو قوله (وأوحى ربك إلى النحل) أو بمنام كما قال صلى الله عليه وآله (انقطع الوحي وبقيت المبشرات رؤيا المؤمن) فالإلهام والتسخير والمنام دل عليه قوله (إلا وحيا) وسماع الكلام معاينة دل عليه قوله (أو يرسل رسولا فيوحي).

كما يقول الشيخ الطوسي في كتاب التبيان: يقول الله تعالى إنه ليس لبشر من الخلق أن يكلمه الله إلا أن يوحي اليه وحيا (أو من وراء حجاب) معناه او بكلام بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب لأنه تعالى لا يجوز عليه مالا يجوز إلا على الاجسام من ظهور الصورة للابصار (أو يرسل رسولا) فيكون كلام الله لعباده على ثلاثة أقسام:

أولها: أن يسمع منه كما يسمع من وراء حجاب, كما خاطب الله به موسى عليه السلام .

الثاني: بوحى يأتي به الملك إلى النبي من البشر كسائر الأنبياء.

الثالث: بتأدية الرسول إلى المكلفين من الناس، وقيل في الحجاب ثلاثة أقوال:

أحدها – حجاب عن إدراك الكلام لا المكلم وحده.

الثاني – حجاب لموضع الكلام.

الثالث – إنه بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب (فيوحي باذنه ما يشاء) ومعناه إن ذلك الرسول الذي هو الملك يوحي إلى النبي من البشر بأمر الله ما شاءه الله (إنه علي حكيم) معناه إن كلامه المسموع منه لا يكون مخاطبة يظهر فيها المتكلم بالرؤية، لأنه العلي عن الادراك بالابصار وهو الحكيم في جميع أفعاله وفي كيفية خطابه لخلقه.

والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد تلقى الوحي من رب العزة ليلة عروجه إلى السماوات العلا وكلمه الباري عز وجل من وراء حجاب تعالى سبحانه عن أن يرى كما ترى الأجسام والأشياء وهنا يبدو الفارق جليا بينه وبين موسى كليم الله الذي خر يومها صعقا حيث لم يقدر سلام الله عليه على احتمال موقف القرب من الله تبارك وتعالى فلم يستقر قائما على أقدامه أما الجبل فقد لم يصمد عندما باغته هذا التجلي الإلهي فكان أن هوى من على دعائمه وأركانه.

الجبال في صلابتها وشموخها ورسوخها عابدة لله عبادة تكوينية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) الحج 18

الجبال تسبح وترجع وتسجد وتركع (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) سبأ 10

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) ص18

ولكنها ورغم ذلك لا تقدر على احتمال موقف القرب كما أنها أشفقت من حمل أمانة الله وكلماته (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) الأحزاب 72.

فأي قوة وأي رفعة واي مكانة كانت لرسول الله الذي كان كما وصفه الله تبارك وتعالى (شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى).

كان رسولنا الأكرم محمدا صلى الله عليه وآله شديد القوى ذو مِرة صلبة قوية صافية (رجل مرير أي قوي ذو مرة) وهي قوة ضرورية ولازمة للقيام بأمر هذا الدين لا مجرد تبليغ كتاب الله وتلاوته وهو ما يقدر عليه الأطفال من تلاميذ الكتاب الذين يحفظ بعضهم كتاب الله ومع ذلك فلا أحد يزعم أن أحدا منهم قد أصبح شديد القوى أو أنه أصبح ذو مرة فاستوى ولم يتضعضع كما تضعضع الجبل عندما رأى سبحة من سبحات نور رب العلا أو أنه لم يخر صعقا كما خر موسى عندما أصبح الجبل دكا!!.

تلك القوة التي خص بها نبينا الأكرم محمدا صلى الله وعليه وآله (في بشريته) كانت لازمة لتحمل أعباء وأمانة إنقاذ البشرية المتمردة على أمر ربها وخالقها من الهلاك والبوار (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) الكهف 6.

كما أنها كانت لازمة لتحمل ما ألحقه بعض المنتسبين للإسلام من أذى برسولهم الكريم.

(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) التوبة (128- 129)

(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) القلم (1- 15)

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ). القلم (48-52).

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) المائدة (41-42).

(وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ * يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ). التوبة (58- 65)

لقد كانت النبوة المحمدية إذا رحمة للعالمين وقد حمل رسولنا في قلبه هم الأمة حزنا على هؤلاء المعرضين ورحمة لهؤلاء المتفلتين خوفا عليهم من سيئات أعمالهم وخوفا على الأمة من فتنهم وأحابيلهم التي أوردت عامة المسلمين دار البوار.

التغني بمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وذكر مقاماته هو في حقيقة الأمر تذكير وتنويه بصفات الكمال التي يتعين على كل مسلم يرغب في الوصول إلى رضوان الله أن يتحلى بها وفي مقابل ذلك فإن طمس هذه الكمالات وكتمانها هو تقزيم لقيم الدين السامية والرفيعة وهذه هي الحفرة التي يريد البعض لنا أن نبقى فيها ليبقى الدين لعقا يلوكه الناس بألسنتهم وقميصا يتقمصه أولئك الذين طلبوا الدنيا كل الدنيا مقابل القليل من عمل الآخرة بعيدا عن النموذج الحقيقي للعمل الطيب الذي لا يقبل غيره (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).

 
بين محمد وعيسى

إذا كان المنحرفون بالنصرانية قد اتجهوا نحو الغلو في عيسى عليه السلام واعتباره ابنا لله وثالث ثلاثة (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً) النساء 171 فإن المنحرفين بالإسلام قد اتجهوا اتجاها معاكسا نحو الحط من مكانة رسول الله صلى الله عليه وآله سواء كان هذا بصورة مباشرة أو من خلال التنكر لمكانة أهل بيته وعترته الطيبين الطاهرين.

لا شك في اختلاف بشرية عيسى عليه السلام المولود من غير أب عن المفهوم العام للبشرية ولكنه في النهاية كان بشرا تحمل التعذيب والألم كي يوصل كلمات الله لبني إسرائيل ومن ثم فهو في النهاية كان بشرا يألم ويتحمل ويصبر كما أنه كان عبدا لله أنعم الله عليه وجعله مثلا لبني إسرائيل ويبقى أن هذه طبيعة النبوة والرسالة التي حملها الإنسان الكامل ليكون قدوة للإنسان الناقص في سعيه نحو مرضاة الله عز وجل.

الانحراف برسالة عيسى عليه السلام كان ولا زال انحرافا تأويليا عندما توهم هؤلاء معنى تجسيديا (للكلمة) و(الروح) وكان أن نبههم كتاب الله لخطورة هذا الانحراف (وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ) ولم يقل لهم (ثلاثة آلهة) فهم لا يقولون بتعدد الآلهة بل بتعدد الصفات الإلهية وزيادتها على الذات بل وإمكان انفصالها عن الذات الهية وتجسدها في صورة ابن لله ينزل إلى الأرض ويذبح فداء لخطايا البشرية والدافع لهذا الخطأ الفادح كان فرط تقديسهم للمسيح عيسى ابن مريم وأمه الصديقة مريم التي حملت في ذاتها تلك الروح الإلهية!!.

لم يكن لعيسى عليه السلام زوجة ولا ولد بل كان له حواريون ينصرونه وينقلون رسالته وكلماته للناس (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) الصف 14 ولذا فقد أكرمهم الله بمخاطبته (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ). المائدة 111.

لقد أنعم الله على الحواريين بمائدته ولكنه كان إنعاما مشروطا بشرط دوام التصديق والإيمان (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (112- 115).

حدث الانحراف والغلو بعد ذلك وهو انحراف أخرج الكثير من هؤلاء عن حقيقة التوحيد الذي جاء به نبي الله عيسى عليه السلام كبقية أنبياء الله ورسله ومن ثم جاءت خاتمة سورة المائدة لتضع الأمور في نصابها وتعلن براءته عليه السلام من هؤلاء وممن ساروا على نهجهم المنحرف والمعوج.

(وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) المائدة (116- 118)

المنحرفون بالإسلام اختاروا السير كما أسلفنا في الطريق المضاد, طريق التعبد بالرأي والأهواء وكانت العقبة الكبرى في طريقهم هو خط الإمامة والاقتداء بالصالحين من ذرية محمد وهم آله وعترته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وهو الخط الذي اختاره الله لهم وبينه رسول الله في غير موضع لهذه الأمة التي استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير.

إنه الصراط المستقيم الذي حدده الله تبارك وتعالى ورسمه لهذه الأمة في سورة الأنعام طريق الاقتداء بالمصطفين الأخيار من الذرية والآل (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) الأنعام (87- 90).

المنحرفون بالإسلام سيرا في الطريق المضاد رغبة منهم في إزاحة تلك العقبة الكبرى التي تحول بينهم وبين صوغ الإسلام وفقا لآرائهم وأهوائهم لم يعبئوا بتلك النصائح الإلهية ولم يلتزموا بأمره تعالى (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) واتخذوا من دون أمر الله (آلهة) ووسائط مزعومة للهداية والرشاد ليضلوا عن سبيله فكانت الوقفة المحمدية الحازمة التي سجلتها سورة الأنعام تماما كتلك الوقفة العيسوية التي سجلتها سورة المائدة (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (159- 164)

إنها المقاربة التي تؤكدها الرواية الواردة عن رسول الله فيما يعرف بكتب الصحاح (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا.. كما بدأنا أول خلق نعيده ألا وإن أول الخلائق يكسى إبراهيم عليه السلام ألا إنه يجاء برجال من أصحابي حتى إذا رأيتهم ورأوني وعرفتهم وعرفوني حيل بيني وبينهم فأقول يا رب إنهم من اصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال عيسى بن مريم “وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد”) رواه البخاري.

كان رسولنا الأكرم محمدا صلى الله عليه شاهدا على البشرية بأسرها محتملا ما يقتضيه ذلك الموقف من أعباء لا تطيقها نفس بشرية عادية (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (8- 9) الفتح

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (45- 48) الأحزاب

بينما كان عيسى عليه السلام شهيدا على قومه وليس في الأمر أي نوع من التهوين أو الغض من شأن من وصفه الله تعالى بأنه (رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) فما أعظم تلك الصفات وما أعظم كلمة الله وروحه التي بعثها إلى الأرض ليطهر بها الدنيا من شياطين الجن والإنس وليفسح المجال لكي تكتمل كلمات الله وينفذ أمره في خلقه.

إنها إذا بشرية وبشرية!!.

بشرية أعلى عليين على قمتها محمد الصادق الأمين التي دنت فتدانت وعلت فتعالت فكانت قاب قوسين أو أدنى صعودا إلى الأفق الأعلى فرأت من آيات ربها الكبرى وبشرية تسافلت فسفلت وهبطت وانحطت فسقطت إلى سجين حيث يرقد الضالون المكذبون في القعر الأسفل من دركات البشرية حيث يلتقون هناك مع نظرائهم ممن غضب الله عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.

ولا سواء!!.

ورغم تشابه الشكل والصورة بين ما هو عذب فرات سائغ شرابه وما هو ملح أجاج لا يروي عطشا ولا يشفي غليلا إلا التباعد بينهما لا تجبره الكلمات والادعاءات والطنطات الفارغة (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فاطر (12)

(وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (19- 24) فاطر

ولا نعتقد أن ثمة حاجة إلى مزيد من البيان!!.