زيارة بايدن إلى المنطقة بين المُعلن والمخفي


على وقع العملية الروسية في أوكرانيا وتبعاتها، سيقوم الرئيس الأميركي جو بايدن بزيارة إلى بعض دول منطقة شرق البحر المتوسط، وعلى وقع غموض أهداف هذه الزيارة تتحرك الأدوات الأميركية للتحضير سياسياً من خلال مصالحات بين دول كانت علاقاتها تلامس حدّ العداء، كالمصالحة السعودية التركية، والقطرية المصرية، وغيرهما، ومن خلال حركة دبلوماسية تُسابق الزمن لمسؤولي الدول المعنية بهذه الزيارة.

وهنا يحسب للإدارة الأميركية، وبعد أن فقد بالون التطبيع قدرته على الإبهار، أنها استطاعت إشغال معظم قادة دول المنطقة ببالون إعلامي آخر يدغدغ أحلامهم، وقد أطلقت عليه مُصطلح "نظام دفاع إقليمي"، أمّا من يُحبون المُبالغة ويعشقون المُصطلحات الرنّانة فقد أطلقوا عليه مُصطلح "حلف ناتو شرق أوسطي"، وفي الحالتين يبدو أن الغاية من هذا البالون هي تضليل هؤلاء القادة، وحصر تفكيرهم بهدف واحد لهذه الزيارة، وذلك بعد أن تراجع هدف التطبيع إلى الدرجة الثانية، وقد سوّقت الإدارة للبالون الجديد إعلامياً ودبلوماسياً بشكل جيد.

وللزيادة في الإقناع، لجأت إلى تحريك أداة إعلامية برتبة ملك، ليُطل الأردني عبد الله الثاني على شبكة "سي إن بي سي" الأميركية، ويقول إنه سيكون من أوائل المؤيدين لإنشاء نسخة شرق أوسطية من حلف الناتو، ويبدو أن جلالته دخل في الحالة، لدرجة أن يقول أن الأردن لديه قوّة عسكرية كبيرة للتدخل السريع، وله تجارب كثيرة ناجحة مع حلف الناتو، وبطبيعة الحال مثل هذه الطرائف ليست غريبة على هذا الملك، الذي أعلن ذات مرّة أن جيشه يستطيع احتلال دمشق خلال عدّة ساعات، مع أن حلف الناتو ومن معه بمن فيهم مملكته العظمى قد عجزوا عن تحقيق ذلك.

 

وبينما كان الإعلام الأميركي يعمل في التسويق، كانت العيون الأميركية تتجه إلى هدفين آخرين مختلفين تماماً، أولهما، هو مُحاولة إقناع دول الخليج على زيادة ضخ النفط والغاز، لتدارك الكوارث التي سيسببها التناقص المستمر لهاتين المادتين، وذلك بعد الإجراءات الروسية المعروفة، أما الهدف الثاني والأهم، فهو مُحاولة إنجاز الملف النووي الإيراني، ليكون ورقة بيد الحزب الديمقراطي الأميركي، قبل أن يلاقي ما لاقاه نظيراه الحاكمان في كلّ من فرنسا وبريطانيا، لاسيما أن الإنتخابات النصفية الأميركية باتت على الأبواب، ولذلك رأينا، ورغم التكتّم ومحاولات التعتيم، كيف تعمل الأيادي الأميركية بسريّة وبدأب على إنجاح هذا الهدف، وهذا ما أوحت به الحركة القطرية النشطة على محور طهران الدوحة، لاستضافة مفاوضات الملف النووي الإيراني، ولكن هناك أكثر من نقطة تجعل طهران تشعر بالريبة، وبالتالي فإنها لن تُقدم على أيّة خطوة دون وجود الضامن الروسي.  

 

وهذه الخطوة قد تكون هي السابقة الأكثر حدّة ووضوحاً التي تُغلّب فيها واشنطن مصالحها على مصالح "إسرائيل"، وخاصّة بعد التمايز الحاد بين موقف الطرفين إزاء كلّ من الصين وروسيا، اللتين تعتبرهما واشنطن أنهما تمثلان الخطر الحقيقي على دورها، وعلى مكانتها العالمية، بينما تنظر لهما "إسرائيل" بعين الصداقة، برغم موقفها من العملية الروسية في أوكرانيا، هذا الموقف الذي استطاعت أن تناور به بنجاح، بحيث يظهر موقفاً يهودياً حيناً وإسرائيلياً حيناً آخر، وذلك بحسب المصلحة الإسرائيلية، وبما أن "إسرائيل" هي المُعارض والمُخرّب الأول لصفقة الملف النووي الإيراني، استغلت واشنطن ضعف القيادات الإسرائيلية، وعملت على محورين  أولهما أنها استطاعت تبريد الرؤوس الحامية في "إسرائيل" ، وأفهمت هذه الرؤوس أنهم سيكونوا وحيدين، وبلا أي دعم عسكري، إن أقدموا على مغامرة توجيه ضربة إلى إيران، وأنهم وحدهم من سيتحمّل العواقب الكارثية، وثانيهما، أنها عملت على شقّ صف القادة الإسرائيليين، بين مؤيد للقيام بهذه المغامرة، وبين معارض لها، وعزّزت هذه الخطوة، بأن دفعت إلى استقالات في صفوف أعضاء من الكنيست كانوا يؤيدون حكومة بينيت لابيد، لينتقلوا إلى الضفة الأخرى، تاركين هذه الحكومة بحالة شلل كامل يمنعها من اتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية.

 

هذا التمايز الأميركي الإسرائيلي المُستجد يضع واشنطن بين خيارين أحلاهما مُرّ، فإمّا تبريد المنطقة بتمرير الملف النووي الإيراني، والسماح للمصالحة الإيرانية السعودية، وهذا الخيار يُمثّل كارثة على "إسرائيل"، وإمّا الإنشغال بمنطقة الشرق الأوسط على حساب تفرغها الكامل لكل من روسيا والصين، وهذا الخيار كارثة على الولايات المتحدة، وهنا تفترض الواقعية أن يجنح الأميركي إلى الخيار الأول.

 

 ممّا لا شكّ فيه أن منطقة شرق المتوسط بثرواتها وبموقعها الجيوسياسي هي هدف مهمّ، سيكون لها تأثير فاعل لأحد طرفي الصراع العالمي، فإمّا أن يكون للدول الصديقة لروسيا والصين اليد العليا في تسيير سياسات هذه المنطقة، الشيء الذي سيُساهم في سرعة صعود النجم الروسي والصيني، أو أن تلعب الدول التي تدور في الفلك الأميركي دوراً في إيقاف أفول النجم الأميركي عند الحدّ الحالي، والعمل على عودة التأثير الأميركي القوي، هذا إن استطاعت واشنطن إعادة الثقة المفقودة بها، مع الملاحظة أن كلّ من روسيا والصين استطاعتا خرق جدار علاقات هذه الدول مع الأميركي في أكثر من مكان، وأكثر من مجال.

 

وبالعودة لموضوع تشكيل حلف عسكري في المنطقة يُحاكي حلف الناتو، فإن ذلك لا يتعدى كونه حلم صعب المنال، وذلك لأسباب يعرفها الجميع، ولن يتجاوز سقفه مجال التنسيق الأمني بين "إسرائيل" وبعض دول المنطقة، وهذا التنسيق موجود بالأساس وإن بشكل مخفي، ولذلك فإن هذا الحلف، إن ولد، فسيكون نظرياً فقط، أما عملياً فلن يكون إلا ذريعة لمتابعة الأميركي ابتزاز دول المنطقة، ونهب أموال دول الخليج، التي  بمعظمها لا تريد مثل هذا الإتفاق لأنها تعرف أنه سيكون وبالاً عليهم عند أي صِدام عسكري مُحتمل.

ويبقى جمع الأميركي لكبار الضباط من "إسرائيل" والسعودية وقطر ومصر والأردن، في مدينة شرم الشيخ خلال شهر آذار/ مارس الفائت، "لاستكشاف كيف يمكنهم التنسيق ضد قدرات إيران الصاروخية والطائرات المُسيّرة". وذلك بحسب صحيفة "وول ستريت جورنال"، كما تبقى الأوامر بتحريك بعض القواعد الأمريكية المُضادة للطائرات والصواريخ، لنشرها بهدف حماية الدول التي ستكون ضمن هذا الحلف المزعوم، يبقى كل ذلك إمعاناً في الكذب والنهب والتضليل، فمن لم يستطع حماية قواته في أربيل، وفي قاعدة عين الأسد، والذي لم يستطع منع صواريخ المقاومة الفلسطينية أثناء عملية "سيف القدس"، لن يستطيع إلا أن يكتفي بالمراقبة والتمني، عندما تُمطر السماء صواريخاً ومُسيّرات.