واشنطن وموسكو حرب في الكواليس


من غير الواضح ماذا كانت تقصد القيادة الروسية حين أطلقت على عمليتها في أوكرانيا مصطلح "عملية عسكرية خاصّة"، ربّما تكون موسكو قد وقعت ضحية فشل أجهزتها الإستخباراتية، التي عجزت عن معرفة حجم ما حضرت لها الولايات المتحدة الأميركية في أوكرانيا، بالتالي كانت تتوقع أن مدّة هذه العملية لن تتجاوز الأيام، أو الأسابيع على أبعد تقدير، أو قد تكون تقصّدت هذا المصطلح لتترك باب التفاوض المُبكر مفتوحا،ً وهذا أيضاً فشل في القراءة السياسية.
بالتأكيد وحسب التطورات المتواصلة خلال ثمانية أشهر من انطلاق هذه العملية، لا يستطيع أحد إلا أن يسمي الأمور بمسمياتها الحقيقية، فما يحصل، وخاصّة في الأيام الأخيرة، هي ليست عملية عسكرية فقط، بل هي حرب كاملة المواصفات، وليست بين روسيا وأوكرانيا فحسب، بل بين روسيا والغرب مجتمعاً، ولكلٍّ مُبرراته وأهدافه، ومخطئ من يعتقد أن عمر هذه الحرب ثمانية أشهر فقط، بل هي حرب مستمرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكنها تُغيّر قناعها حسب الظروف والمقتضيات، ولعلّ أهم مرحلة مرّت بها هي تفكّك الاتحاد السوفييتي، حيث تابعت الولايات المتحدة عملها الحثيث بغية تفكيك الكتلة الأكبر المتبقية منه، وهي الإتحاد الروسي، وكان ذلك واضحاً من خلال إيصال رؤساء موالين لها، في معظم الجمهوريات المستقلة عن الإتحاد السوفييتي، مثل ليتوانيا، وإستونيا، ولاتفيا، وجورجيا، وغيرهم، وصولاً إلى أوكرانيا، وذلك من خلال إيصال الرئيس الحالي فولوديمير زيلينسكي إلى سدّة الحكم، مُحاولة بذلك ضمّ أوكرانيا لحلف الناتو، الشيء الذي يعني أن الحلف أصبح على الحدود الروسية.
يُحسب للروس أنهم استطاعوا تدارك الكثير من أخطائهم، مع أنها أخطاء مكلفة جداً، واستطاعوا أن يتعاملوا مع الوقائع المفروضة بكثير من الحزم المضبوط، وذلك بعد أن توضّحت لهم الأمور بشكل كامل، وانتقل التخطيط والتنفيذ من فرضية عملية سريعة، إلى واقع مفاده أن هذه الحرب ستكون طويلة وصعبة، وتحتاج إلى دعائم للثبات، وبالتالي للنصر، كما يحسب لهم أنهم أجادوا استثمار التكتيك الناجح الذي عملوا به منذ سنوات، والذي أفضى إلى إقامة جسور مصالح مبنية على الثقة، مع الكثير من دول العالم، وخاصّة تلك التي كانت حتى وقت قصير تخضع بالكامل للإرادة الأميركية، مثل تركيا والسعودية ومصر والإمارات العربية، بالإضافة لدول من العيار الثقيل مثل الصين والهند وإيران، وبالتأكيد فإن هذه العلاقات أعطت لروسيا دعماً كبيراً، الشيء الذي شكّل تأثيراً بالغ الأهمية على المحور الغربي، وخاصّة في مجال النفط والغاز، ويكفي هنا أن نستحضر رفض منظمة "أوبك بلس" طلباً أميركياً، بعدم خفض إنتاج النفط ليأتي الرد بأنّ المنظمة قرّرت خفض الإنتاج بمعدل مليوني برميل يومياً، في سابقة أثارت هلع وغضب الولايات المتحدة، ليأتي موقف الصين مكملاً لموقف المنظمة، حين قرّرت منع شركاتها الوطنية من تزويد أوروبا بالغاز المُسال.
الآن، وبعد التطورات المتسارعة في الحرب غير المباشرة بين كلّ من روسيا والغرب، أصبح التنبؤ بمسار الأحداث يحمل الكثير من الصعوبة، ولكن المُرجّح هو أن الأميركي وبعد خسارته لأصدقاء وحلفاء تاريخيين، وخسارته ثقة الغالبية العظمى من الشعب الأوروبي، الذي أدرك أن الأميركي، وبتسهيل من القادة الأوروبيين، يقود هذا الشعب إلى الجوع والبرد والخراب، بل خسارته حتى لأغلبية الجمهور الأميركي، الذي أدرك أن المتحكمين الحقيقيين بمصيره هم من يملكون شركات النفط وشركات السلاح. 
من هنا، وبعد أن فقد الأميركي رصيداً كبيراً من المصداقية والسطوة، وبالتالي من الحلفاء، وبعد أن فقد، ولو جزئياً، السيطرة والقدرة على التحكم بما يجري حول العالم، فقد أصبح أمام خيارين لا ثالث لهما. 
أولهما، هو الدخول المباشر في الحرب، لمحاولة استرجاع ما فقده من سطوة ونفوذ وحلفاء، ولكن كما هي العادة في كلّ الحروب الأميركية، سيأخذ معه الكثير من دول الأوروبيتين الغربية والشرقية، تحت اسم تحالف دولي، وسيُحضّر لذلك من خلال دفع بعض هذه الدول لدخول الحرب، وقد تكون بولونيا هي المُرشحة الأولى لذلك، بذريعة منع بيلاروسيا من الدخول إلى الأراضي الأوكرانية، وبالتأكيد فإن هذا الخيار، إن حصل، سيكون خياراً مُدمّراً للجميع، وفي ذات السياق، لا يغيب عن البال أن الأميركي حاول جاهداً حشر روسيا، ودفعها لكي تستخدم سلاحها النووي، حتى وإن كان ذلك بواسطة قنبلة تكتيكية صغيرة، ليكون ذلك مُبرّراً لاعتماد هذا الخيار، ولكن الروسي حتى الآن، أفشل هذا المخطّط، ولاسيّما أنّه يمتلك الكثير من الطرق المؤثرة والموجعة، والتي يكاد تأثريها يوازي تأثير السلاح النووي التكتيكي. 
وثاني الخيارات الأميركية، هو أن يقتنع الأميركي بأنّه لم يعد القطب الوحيد لقيادة العالم، وأن هناك قطباً صاعدا،ً وربّما أكثر من قطب، وبالتالي عليه أن يتوقف عند هذا المستوى من الخسائر، وأن يتعامل مع الواقع كما هو، وإن جنح لهذا الخيار فعليه تبريد جبهات المواجهة مع الروسي، وخاصّة المواجهة في أوكرانيا، لأن التجارب المتعدّدة مع الروس تكاد تُجمع، على أن المزاج الشعبي الروسي مسكون بتراث عمره مئات السنين، وهو القتال حتى الرمق الأخير، والرفض المُطلق لأيّ تفاوض يُفرض عليهم بالنار، ومعركة مدينة لينينغراد السوفييتية خلال الحرب العالمية الثانية شاهدة على ذلك.
بكلّ الأحوال، تبقى الأنظار شاخصة إلى الإنتخابات الأميركية النصفية التي ستجري في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، والتي ستكون المؤشر الأكبر عن المسار الذي ستسلكه الأحداث في قادم الأيام، فلننتظر.