حين تتغلب ثقافة العشيرة على ثقافة الدولة
كم يكون الأمر مؤسفاً حين تبتعد بعض الدول عن الواقعية في بناء سياساتها، كأن يُغلِّب صُنّاع القرار السياسي فيها ثقافة العشيرة التي لم يستطيعوا الخروج منها رغم مسؤولياتها، على ثقافة الدولة بكل ما تقتضيه من مواصفات وممارسات، وبذلك تُبنى سياسات هذه الدول على المناكفة والضغينة، مبتعدة عن المرونة والتسامح ومراعاة مصالح الدول الأخرى، بل حتى عن مراعاة مصالحها الذاتية التي ستتأثر بهذه السياسات، ولو بعد حين، ولا يطول الأمر بأيّ مُتابع حتى يكتشف أن تلك الدول التي تنتصر فيها ثقافة العشيرة على ثقافة الدولة، هي دول تبنى سياساتها على أفق ضيق، وعلى خطط قصيرة النظر، إن لم تكن خطط بلا نظر.
فلو حاولنا قراءة تصرفات بعض الدول التي يعتقد مسؤولوها أنها سياسات، سنجد أن المملكة السعودية، وخاصة بعد تولي محمد بن سلمان عليها، هي النموذج المُعبّر تماماً عن تلك الحالة، ومع أن الأدلة على ذلك كثيرة، لكننا سنورد دليلين اثنين كونهما ما زالا على مسرح الإهتمام:
الدليل الأول، هو ممارسات القيادة السعودية مع دولة يُفترض أنها شقيقة مثل لبنان، فكيف تحتجز رئيس وزراء هذه الدولة، وتجبره على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة؟ بصرف النظر عن المبررات، سواء كانت ميل سعد الحريري إلى جناح سعودي ينافس على ولاية العهد، أو كانت لمصادرة أملاكه، أو للقضاء على حالته السياسية وتجييرها لشخصية صهيونية الهوى مثل سمير جعجع، وهل يحق للسعودية أن تحتجز أولاد سعد الحريري بلا أي مبررات قانونية، بعد أن أطلقت سراحه بوساطة فرنسية، وكيف للسعودية أن تعيد نبش حديث قديم لوزير لبناني انتقد فيه الحرب السعودية على اليمن، ومن المعروف أن هذا الحديث قيل قبل أن يتسلم جورج قرداحي وزارة الإعلام، لتجعل منه مُبرِّراً لعدوان سياسي ومعيشي واقتصادي على لبنان، وليتم بذريعة هذا الحديث طرد السفير اللبناني من الرياض، وسحب السفير السعودي من لبنان، والذي لم تتم إعادته رغم استقالة الوزير قرداحي، ولتقوم بتأليب معظم دول الخليج ليحذوا حذوها، وليتضح لاحقاً أن هذه الخطوة ما هي إلا لمعاقبة الشعب اللبناني إقتصادياً ومعيشياً، الشيء الذي يجعله طَيّعاً أمام جبروت المال السعودي، الذي كان يُشحذ ليكون السلاح الأمضى في الإنتخابات النيابية اللبنانية عام 2022م، ولم نتفاجأ بعودة السفير إلى لبنان قبل أيام قليلة من الإنتخابات، وبلا أيّة مُبررات أو توضيحات، ولكن الواضح هو أنه أعيد لكي يقود الإنتخابات بقوة سلاح المال السعودي، على أمل أن تحصل المملكة وفريقها الأميركي والإسرائيلي على الأغلبية النيابية، التي سيكون مطلبها الأول هو نزع سلاح حزب الله اللبناني، ولكنهم فشلوا في الإنتخابات، كذلك في إيصال رئيساً أو نائباً لرئيس مجلس النواب، ما دعا سلطات المملكة السعودية لاستدعاء سفيرها من لبنان لمعرفة أسباب هذا الفشل، ومعرفة مصير مئات ملايين الريالات التي ذهبت بدون أن تحقق النتيجة التي رُصدت لأجلها.
المثال الثاني، هو طريقة تعامل السعودية مع تركيا، التي من المُفترض أن ما يجمع البلدين أكثر بكثير مما يفرقهما، من دين واحد، ومصالح مشتركة، ومُشغّل واحد، وأصدقاء مشتركين مثل "إسرائيل"، وأعداء مشتركين مثل إيران، حتى وإن أخفت تركيا هذا العداء، ومؤامرات مشتركة، مثل مؤامرتهم على سوريا لتدميرها، بدليل كلام حمد بن جاسم رئيس الوزراء السابق لدويلة قطر حين فضح تلك المؤامرة على وسائل الإعلام، حيث بلغت به الصفاقة حَدّ القول "تهاوشنا على الصيدة وفلتت الصيدة".
ولو عدنا إلى الموضوع التركي، سنجد أن الطموحات التركية في المنطقة تدرجت نزولاً، من إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، إلى إيصال الإخوان المسلمين إلى حكم معظم دول المنطقة، حتى بات الآن أقصى طموح للرئيس التركي هو منطقة عازلة على الحدود التركية مع سوريا، ولاحقاً مع العراق، وبطبيعة الحال هذا حلم لن يتحقق، والطموح الثاني، هو إيقاف النزيف الشعبي للرئيس التركي، هذا النزيف إن استمر سيكون سبباً لسقوط أردوغان في الإنتخابات الرئاسية العام القادم، ولذلك يسعى لعله يوقفه من خلال وقف تدهور الإقتصاد التركي، ولتحقيق هذا المسعى تنازل عن كل خلافاته مع معظم دول المنطقة، بما فيها السعودية، وبما في ذلك حادثة قتل الصحافي جمال خاشقجي عام 2018م، التي شنّ أردوغان بعدها حرباً لا هوادة فيها على ولي العهد السعودي، مُتهماً إياه بالإشراف الكامل والمباشر على عملية القتل هذه، لنجده بعد كل ذلك يستجدي زيارة المملكة ويُسلّم ملف الخاشقجي للقضاء السعودي ليصار إلى إغلاقه، كل ذلك يأتي مقابل مساعدة مادية مأمولة، ولكن الرجل عاد مخزولاً، ومكتشفاً أن قبول الرياض لزيارته لم تكن إلا لإذلاله، بدليلين، أولهما، هو أن نائب أمير منطقة مكة المكرمة هو الشخصية السعودية الرسمية الوحيدة، التي كانت خلال وداعه في مطار الملك عبد العزيز في جدة، وهذا يُعتبر حضوراً دبلوماسياً أقل من متواضع، وثانيهما، أن معظم وسائل الإعلام السعودية خرجت غداة الزيارة لتقول أن: "أردوغان أتى إلى السعودية صاغراً"
بهذه الثقافة أدارت السعودية الملف اللبناني، والملف التركي، وغيرهما الكثير من الملفات، مثل الملف السوري، واليمني، والبحريني، وغيرها، وبهذه الثقافة انحدر موقعها العربي والإقليمي والإسلامي، وعلى ما يبدو أنها مُستمرة بهذه السياسة، لاسيّما أن أحكم ولي العهد محمد بن سلمان سيطرته على أمور المملكة بشكل مطلق، وذلك بعد أن زجّ في السجون كل الأمراء، وكل الشخصيات المناوئة له، والتي ربما كان للسعودية سياسة أكثر نجاعة لها وللمنطقة، لو تثنى لهذه الشخصيات الوصول إلى مراكز القيادة العليا في المملكة.
التعليقات