مجموعة "بريكس" دول نامية تصنع نظاما اقتصاديا جديداً


تعد مجموعة دول "البريكس BRICS " " أحد التشكيلات الاقتصادية الأسرع نموا في العالم ، 
كما تعد روسيا والصين الشعبية أبرز دولتين في المجموعة ، إذ لا يخفى على أحد التاريخ الذي تمتلكه الدولتان في صراع الزعامة العالمية مع الولايات المتحدة الأمريكية ، بينما تسعى البرازيل والهند وجنوب أفريقيا للتموّقع في هرم القوى الدولية في القرن الحادي والعشرين .
الدول الخمس مجتمعة هي النواة الأساسية للتشكيلة الاقتصادية الجديدة ، التي يطلق عليها اسم دول " بريكس"، وهي تعمل على إعادة هيكلة نظام دولي جديد يؤمن بالتعددية وينبذ التفرد في صنع القرار على الصعيد الدولي ، وإن كانت التشكيلة ومؤسساتها تؤكد بأنها ذات طبيعة اقتصادية ، إلا أن الغاية السياسية لها تظهر جليا من خلال استقطاب القوى الدولية الرافضة للهيمنة الأمريكية والنظام الدولي أحادي القطب .
وقد تمتلك دول مجموعة "البريكس" مقومات قوة تؤهلها لتشكيل قطب دولي فاعل وقادر على وضع قواعد لهذا النظام ، وبالمقابل لديها ما يكفي من عوامل الضعف التي قد تؤثر في عملها ، لاسيما علاقة بعض دولها الوطيدة مع الولايات المتحدة، ورغم هذا يرى مختصون أن عناصر القوة هذه ؛ بإمكانها التغلب على نقاط الاختلاف وعوامل الضعف للحد من هيمنة النظام الدولي الأحادي القطب.

تكونت التشكيلة الاقتصادية الجديدة من أربع دول هي روسيا الاتحادية والصين والبرازيل والهند سنة 2001، وسميت "بريك"، وبعد انضمام جنوب أفريقيا إليها في العام 2010، تغيرت التسمية إلى دول "البريكس" ، وإن القراءة الدقيقة للدول المشكلة لها تؤكد أنها قوى صاعدة لم تعد قانعة بما لديها من مكانة في النظام الدولي ، وتحاول أن تكون أحد مرتكزات الاقتصاد العالمي المستقبلي إما منفردة أو مجتمعة. 
وتشكل هذا التكتل نتيجة حاجة الساحة الدولية لنظام جديد ، فجاء مصطلح "BRIC " ( اختصارا للبرازيل وروسيا والهند والصين ) في تحليل أجراه "جيم أونيل" خبير الاقتصاد البريطاني في بنك "جولدمان ساكس" عام 2001 بعنوان "بناء عالم اقتصادي أفضل بريك"، وكان الهدف من دراسته هو تحديد القادة المستقبليين المحتملين للاقتصاد العالمي ، مستهدفا المستثمرين في المقام الأول ، بحيث أشار تحليله إلى أن أنماط النمو العالمي تستلزم بالضرورة تعديل مجموعة السبع التي تضم "كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة"، 
إلا أنه لم يتوقع أن يكون لبحثه عواقب جيوسياسية بعد أن أصبح يمثل وصفا للمشهد الاقتصادي العالمي ومنظورا لإعادة التوازن الجيوسياسي المفترض الذي سيتبع ذلك ؛ كما أصبح مرجعا للتجمع والتنسيق بين الدول المشكلة للتكتل الجديد ، وجاء في تقريره أن العالم يحتاج في بنائه الى مجموعة "البريكس" لتحقيق النمو الاقتصادي .

نهضة الأقطاب الجديدة

منظمة دول البريكس( BRICS ) تسعى لخلق نظام عالمي جديد ثنائيّ القطبيّة تقوده لاحقاً ، كما يسعى لتعزيز التّعاون الاقتصاديّ والسّياسيّ والثّقافيّ لتحقيق مصالح الدّول المشتركة ، من خلال تشكيل نظام اقتصاديّ متعدّد الأقطاب ، يكون مؤثّراً في رسم السّياسة العالميّة الجديدة ، وله القدرة على الصّمود في وجه ما يعتري العالم من أحداث اقتصاديّة .
ولأن الترابط الاقتصادي بين الدول هو مدخل من مداخل تحقيق التعاون السياسي ، فمن هنا بدأت دول "بريكس" بتشكيل مجموعة من المؤسسات والأنظمة ، فأنشأت بنكاً جديداً موقعه شنغهاي الصّينيّة سمّي " بنك التّنمية الجديد " وصندوقاً أُطلِق عليه " صندوق بريكس"، ليكونا بديلين للبنك الدّوليّ وصندوق النقد الدّولي ، وتم إنشاؤهما لدعم النّموّ والتّنمية على المستوى الدولي ، ما يمثّل الخطوة الأولى في مخطّطها لخلق نّظام عالمي جديد، ولعل الهدف غير المعلَن يتمثّل في إنشاء مؤسّسات دوليّة رديفة للمؤسّسات الاقتصاديّة الدّوليّة الحالية ، أي : البنك الدّولي وصندوق النّقد الدّولي ، لتحرير العالم من قيودهما وتأثيراتهما ، ومن المعلوم أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة تتحكم في رسم سياستهما العامة بما يخدم مصالحها .
إن ّدول "البريكس" تعمل ليكون لها تأثير في مختلف الجوانب الاقتصاديّة والسّياسيّة العالمية ، وسيكون وجودها مؤشّراً حقيقيّاً لبداية حقبة جديدة ، ينتهي فيها النّظام العالميّ الحالي ذو القطب الأحادي ، الموحَّد الرُّؤى بزعامة الولايات المتّحدة الأمريكيّة وحلفائها ؛ في الوقت الذي تعمل فيه الصّين وروسيا على مواجهة الولايات المتّحدة الأمريكيّة وحلفائها اقتصاديّاً وسياسيّاً وعسكريّاً ، ويكون دورهما استراتيجيّاً ومؤثّراً  في مرحلة قريبة ، وسيظهر بوضوح وجلاء خصوصاً بعد حالات الفشل الأمريكيّ والانقسام والرّكود الاقتصادي ّ. ومن المؤكّد أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإدارتها السّياسيّة لن تسلّم بالتّغيير بسهولة ، ولكنّ المؤسّسات الأمريكيّة الاقتصاديّة لن تكون أكثر وطنيّة من المؤسّسات الاقتصاديّة الأوروبيّة التي هجرت أوروبا إلى أمريكا عندما اقتضت مصالحها ذلك .
ويتوقع محدثنا بأننا قد نشهد فترة انتقال رأس المال الأمريكيّ إلى تلك الدّول لإحداث تغييرات عالميّة متسارعة تصبّ في مصلحة دول "البريكس" ونموّ اقتصادها المتسارع ، بما يلبّي تغييرات منظومة الاقتصاد العالميّ الحالي لبناء اقتصاد عالميّ متعدّد الأقطاب ، خصوصا بعد حالات التذبذب التي يشهدها الدّولار الأمريكيّ عقب رّكود الاقتصاد العالمي ، وسيكون إنشاء البنك والصّندوق الدّوليين الجديدين أكثر جذباً لرأس المال الدّوليّ ، وهذا ما يسهم في القدرة التّنافسيّة المتصاعدة ، وستكون أسواق دول "البريكس" بالتّالي أكثر حرصاً على اجتذاب رؤوس الأموال العالميّة .

سباق من أجل الهيمنة 

 أن تكتل دول "البريكس" لم يصل بعد إلى تحقيق أهدافه المنشودة حتّى الآن ، فقد استحدث منذ عقدين تقريباً ، وهدفه الحقيقيّ هو إعلان ولادة جسد جديد يتمثل في نظام عالميّ جديد ، تكون "البريكس" قلبه النابض .
والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن عديد المتتبعين للشأن الاقتصادي هو : 
هل سنشهد مستقبلا ، هجرة لرأس المال الأمريكيّ والعالميّ نحو هذه الدول ومؤسساتها النقدية؟ ومَن يستطيع الصّمود أكثرفي المرحلة القادمة ، هل الولايات المتّحدة الأمريكيّة وحلفاؤها ، أم روسيا والصّين وحلفاؤهما ؟
ويذكّر محدثنا بمقال له بعنوان : "هل الكورونا مؤشّر لانهيار النّظام الاقتصاديّ الأمريكيّ ؟" والذي كتبه نهاية مارس من السنة الماضية، لتأتي تلك الرّؤيا التي قدّمها في المقال متطابقةً مع ما صرّح به هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكيّ الأسبق في آبريل من ذات السنة عبر مقال له في صحيفة "وول ستريت جورنال" بحيث قال : " إنّ جائحة كورونا ستغيّر النّظام العالميّ للأبد ، وبالتّالي : فإنّ ذلك الوباء سيكون مؤشّراً لبداية حقبة عالميّة جديدة تنهي النّظام العالميّ الحاليّ وتؤسّس لمرحلة أخرى ، وربّما قد حان الوقت لتتزعّم الصّين العالم بعد أن بدأت تباشير السّقوط الأمريكيّ تلوح في الأفق". 

مقومات القوة والضعف

 أن " مقوّمات القوّة لدى مجموعة " البريكس" تتمثّل فيما تمتلكه من قدرات وإمكانيّات اقتصاديّة وبشريّة ومساحات جغرافيّة وثروات ، فهي تحوز خُمسَ النّاتج القوميّ العالميّ ، إضافة إلى ما تحمله من رؤى استراتيجيّة عالميّة تستطيع ترجمتها تَبَعاً لمقتضيات الواقع بما يلبّي طموحها لبناء نظام عالميّ جديد . أمّا عوامل الضّعف فهي متفاوتة بين دولة وأخرى ، ولعلّ ما يجمع بينها هومستويات الفقر الاجتماعيّ وعدم المساواة ، زيادة على البعد الجغرافيّ بين هذه دّول، إضافة إلى وجود تيّارات تنافسيّة مختلفة ، خصوصاً بين روسيا والصّين " . 

ماذا قد ينتزع من الولايات المتّحدة الأمريكيّة؟

تعمل دول منظومة "البريكس" على جلب رأس المال الأمريكيّ والعالميّ عموماً إليها وإلى مؤسساتها النقدية ، وفي هذا الصدد يشير الأستاذ صافية إلى أنّ " أصحاب رؤوس الأموال العالميّة وخصوصاً العائلات الأمريكيّة المتحكّمة في الاقتصاد العالمي ّ، أدركوا أنّ مركز الثّقل الاقتصاديّ القادم يتّجه شرقاً وإلى دول "البريكس" بدرجة أكبر ، والجميع لاحظ أثر حرب الأسعار في الاقتصاد الأمريكي ّ، ومن هنا يتساءل محدثنا : هل ستسلّم الولايات المتّحدة بهزيمتها أمام تعاظم الدّور القادم لدول هذه المنظمة؟! وهل يستطيع هذا التكتل كسر هيمنة مجموعة الثّماني الكبار العالميّة لاحقاً وبالتّالي انتزاع الموافقة العالمية على تأسيس نظام عالميّ جديد؟.

المصدر: مجلة الشعب الاقتصادي