المنظور النسويّ: مقاربة ثقافيّة


بين تحديات الطبيعة واستجابة الإنسان لهذه التحديات كانت الثقافة، فهي أسلوب حياة مطبوع في قلب التجربة الإنسانيّة بما تعنيه من أنماط عيش وأساليب تفكير وعمل، ارتبطت جميعها بحركة الإنسان وفعله عبر الزمان والمكان وفي مختلف الظروف. فالثقافة، خاصةٌ إنسانيّة، تخلق الإنسان في ذاته، وتعطيه القدرة على التفاعل مع محيطه والأشياء، لتصبح منطلق فاعليته نهجاً وفكراً وعملاً.
أولاً: الثقافة والهويّة الثقافيّة
لا شكّ في أن وعي الناس لما يكونون عليه إنما يأتي وفقاً لما يتصورونه عن أنفسهم وعن العالم، وهذه التصوّرات والاستعدادات تأتي من الثقافة التي تحدّد لكل جماعة سلوكها ومعتقداتها وتميّزها عن غيرها من الجماعات، وهي مصدر لتشكيل الهويات الفردية والجماعية، حيث يرى أنطوني غيدنر أن مفهوم الهوية بشكل عام “يتعلق بفهم الناس وتصوّرهم لأنفسهم ولما يعتقدون أنّه مهّم في حياتهم. ويتشكّل هذا الفهم انطلاقاً من خصائص محددة تتخذ مرتبة الأولوية على غيرها من مصادر المعنى والدلالة… ويتحدث علماء الاجتماع عن نوعين من الهوية وهما: الهويّة الاجتماعيّة والهويّة الذاتية (الشخصية)..

وبحسب رأيه “قد تكون التعددية في الهويات الاجتماعيّة مصدراً محتملاً للصراع بين الناس، غير أن الأفراد في العادة ينظّمون معاني حياتهم وتجاربهم حول هوية محورية أساسية تتميز بالاستمرارية النسبية عبر الزمان والمكان”.[1]

أمّا ماكس فيبر فيعرَف الثقافة بأنها “إسباغ المعنى والأهمِّية من وجهة نظر البشر على جزءٍ محدود من الأحداثِ اللامُتناهية” [2]، فهي “طريقة المجتمع في الحياة”، وبالتالي فإن ثقافة أي مجتمع هي أسلوب الحياة في هذا المجتمع التي تشمل نظرته إلى كل ما له صلة بالوقائع الاجتماعيّة والبنى الاقتصاديّة والإيديولوجيّات والحركات السّياسيّة والمعتقدات والتصورات الثّقافيّة.

ولما كان الوعي لا يُستنسخ، وأساليب وطرائق العيش لا تُستورد، ولما كانت المجتمعات متباينة ومتنوّعة فإنه من الطبيعي أن نقول إنه ليست هناك “ثقافة نموذجية واحدة وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام، وإنما وجدت وتوجد وستوجد ثقافات متعدّدة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائيّة أو بتدخل إراديّ من أهلها قصد الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة”[3].

 

ثانياً : المنظور النسويّ
بناءً على ما سبق، يصبح السؤال مشروعاً عن هوية المرأة وكيفيّة تشكّلها في ثقافتنا ومجتمعنا، سواء على مستوى الهويّة الذاتيّة أو الهويّة الاجتماعيّة، مَن شكّلها ووضع لها حدودها المميّزة ؟ ما هي العوامل والمحدّدات التي رسمت علاقة المرأة بمجتمعها؟ وأي دور للمرأة في تحديد وتشكيل واقعها؟
انطلاقاً من هذه الأسئلة، وعلى ضوء ما تعيشه المرأة في مجتمعنا نستدعي المنظور النسويّ ليعيننا على الفهم والتفسير لجملة من القضايا، فهو برأينا مدخل تحليليّ يساعد في توضيح العديد من الأمور ذات الصلة بواقع المرأة وأوضاعها، ذلك أنه:

مدخل لقراءة تلك الإكراهات الماديّة والنفسيّة، المعلنة والمضمَرة، غير المقوننة التي تؤدي إلى اضطهاد المرأة والسيطرة عليها في المجتمع.
وهو محاولة لقراءة وفهم المعارف والقيم والتمثّلات التي تطبع وضعية المرأة وتستحضر أشكال العنف والتمييز التي تتعرّض لها استجابة لمنطق الضبط الاجتماعيّ المُكرَس وفق منطق الايديولوجيا الذكورية.
كما أنه محاولة لكشف المسكوت عنه في نظام الهيمنة، من علاقات تواطؤ بين المسيطر عليهم وبين المسيطرين، المندمجين فيه تبعاً لنظام الاستعدادات والشروط الاجتماعيّة الذي يفرضها.
 

ثالثاً: تحوّلات الخطاب الثقافيّ بين الحداثة والتقليد
إن عالمنا المعاصر ومنذ منتصف القرن السابع عشر شهد العديد من التحولات والتغييرات الناجمة عن الثورات المعرفيّة والتحوّلات السياسيّة، حيث برز إشكال ثقافي حضاري تمّثل بتلك المفارقة بين قيم الموروث الثقافي السائدة والقيم العقلانيّة التي أرستها الحداثة. فانطلق مشروع الحداثة في الغرب، في الوقت الذي بقيت فيه المجتمعات غير الغربية، إلى حدّ كبير، على ما ورثته من تقاليد ومعتقدات الماضي.

وفي توضيحه لمعنى الحداثة، يقول تيري ايجلتون: إن الحداثة واقع لفعل اجتماعيّ نشط ومطرد يحمل سمة الإبداع الدائم وقد تداولت المجتمعات مراكزه على مدى التاريخ الإنسانيّ وهو ما نسمّيه modernism ؛ أمّا عبارة post modernism فإنها كمصطلح تأتي للدلالة على رد فعل إنسانيّ إزاء الحداثة للدلالة على موقف حركة، خطاب أو موقف متعدد ومتنوع في الزمان والمكان؛ فلكل حداثة مودرنيزمات عديدة بعدد ردود الأفعال الإنسانيّة والاجتماعيّة في التاريخ عليها[4].

وبرأينا فإن ما ميّز الحداثة الغربيّة ليس ما أنتجته من ابتكارات واختراعات، فحسب بل بما قامت عليه من منظومة قيميّة – ثقافيّة أعادتْ تشكيل العالم على رؤى ومعايير قيميّة جديدة، وقد نصل إلى حد الافتراض أن “ماهية الثقافة” هي ماهية “قيميّة” تنطلق منها أفعال الإنسان ويُبنى عليها سلوكه وتصوّراته ومعتقداته؛

وأن تنّوع الخطاب الثقافي وتبايناته في المجتمع وما بين المجتمعات إنما هو تنّوع وتباين حول معنى القيمة، وما تستدعيه من تأثيرات على بنية المجتمع وسلوك أفراده.

إن القيم عادةً ما تكون ثابتة في زمانها متحرّكة في مسارها عبر قانون التغير، خاضعة لمتغيرات الواقع وقوانين الحياة وطبيعة التفاعل الإنسانيّ. وبالتالي فإن أي مجتمع عندما يمتنع على أن يُخضِع قيمه للتطور الطبيعيّ، فإن القيم تتحوّل إلى “مشكلة قيميّة”؛ كما في فكرة التابو (المقدس، المحرم)؛ فبينما يعتبر المجتمع التقليديّ بأن القيم الفاضلة موجودة في الماضي نرى بأن قيم الحداثة المعاصرة تقوم على إقصاء الماضي المتعالي عن الوجود وإحلال العقلنة كمعيار للوجود والحياة. وباستنتاج أوليّ، نجد أن واقعنا الثقافيّ في العالم العربيّ خاصةً، عالق بين خطابين:

خطاب قيميّ يرتد فكرياً إلى الماضي، مشدود إلى الموروث.
خطاب قيميّ يأخذ من العقلنة والحداثة مرتكزاً له.
وهذا إشكال ثقافيّ تنعكس تداعياته على الواقع الاجتماعيّ عامةً وعلى مجمل ممارساتنا في حقول الفعل الاجتماعيّ، ومنها على وجه الخصوص ما يتعلق بهوية المرأة وواقعها وأوضاعها أي من منظور الخطاب النسويّ. فأيّ إسهام يمكن للخطاب النسويّ أن يقدّمه في هذا المجال؟

 

 

رابعاً: المرأة بين الفكر الإنسانيّ والواقع العربيّ
الصور النمطيّة
الصورة النمطيّة عن المرأة اليوم أنما يعكسها تاريخ الفلسفة إن من حيث هيمنة الفكر الفلسفي الذكوري وإقصاء الفيلسوفات منهن على الرغم من تميّز بعضهن (هيبارشيا، كاترين…)، أم من حيث إقصاء المرأة وعدم الاعتراف بها ككائن له وجوده وكينوته. فالفكر الفلسفيّ لم ينصف المرأة لا بل أشار إلى دونيّتها باعتبارها لا تمتلك القدرات العقلية والذهنية والفضيلة (افلاطون) وأن عقلها لا يرقى إلى عقل الرجل (كانط) وهي ترتبط بالطبيعة والجسد في حين أن الرجل يرتبط بالفكر والثقافة (ديكارت) وأنها جنس ناقص (فرويد).. وهذا ما تجسد في النظرة إلى وظيفة المرأة الأساسية على أنها لا تصلح الا للإنجاب (ارسطو) ولإرضاء غرائز الرجل (جون جاك روسو) لكونها في أفضل الأحوال حيواناً (نيتشه) وتترتّب على ذلك ضرورة إقصائها عن الحياة الاقتصادية (جون لوك)[5].

لقد سادت تلك الأفكار الفلسفية في مختلف الثقافات وأسسّت لرؤى اجتماعيّة راسخة حول مكانة المرأة في المجتمع فكانت جزءًا من تكريس منظومة الهيمنة الذكورية عليها لوقت طويل.

وضعيّة المرأة في واقعنا العربيّ
إن وضعيّة المرأة في مجتمعنا العربيّ المعاصر هي وضعيّة مركبة ناجمة عن تفاعل العديد من المتغيّرات الاقتصادية والاجتماعيّة والثقافيّة والتاريخيّة فهو عالم ما زال يخضع لمنطق البداوة وترحال البداوة في الوقت الذي نرى هذه البداوة ممتدة في كل أشكال سلوكنا وعلاقاتنا وتفاعلنا، ولن نستطيع أن نغير هذا الواقع إلا بالخروج من هذا النمط الذهنيّ في التفكير. وهو ما فعله الغرب حينما قطع مع الارستقراطيّة والبرجوازيّة وأسس لعقد اجتماعيّ جديد صاغ منطلقاته جون جاك روسو في كتابه الموسوم بالعقد الاجتماعيّ واشتغل عليه الكثير من المفكرين من بعده، فأي عقد اجتماعيّ نطمح إليه لنخرج من عقل البداوة إلى عقل يواكب عصرنا ويتماشى مع واقعنا وراهننا؟ أليست هذه مهمة المثقف ومسؤوليّته؟

إن العقل العربيّ استلبته فكرة أن الدين يضمر سلطة تسمح له بتأسيس دولة. وأخذ يفتش عن الدولة في العقد الدينيّ، بينما الدولة شأن مجتمعيّ وليست شأناً دينيّاً، وذلك بيّن في التجربة الغربيّة، فحين أزيح التسلط الدينيّ عن المجتمعيّ في الغرب ظهر المجتمعيّ بصيغته التي تسمح بقيام السلطة على أساس إرادة الناس ووفق قوانين وضعيّة تصوغ علاقاتهم في ما بينهم وكانت الدولة. خلاصة القول إن واقعنا العربيّ يحيا في ظل اشتباك ملتبس بين سلطة الدينيّ من جهة ومستلزمات قيام سلطة السياسيّ من جهة أخرى. وطالما أن العقل السياسيّ العربيّ هو عقل يحكمه المنظور الدينيّ _ السياسيّ؛ فإن المنظورات التقليدية ستبقى متحكمة في إنتاج المجتمعي وإعادة تكريسه، وستبقى قضايا كثيرة مثل قضية المرأة غائبة تحت ركام الانقسامات المذهبيّة والطائفيّة ومانعة لتشكيل فضاء عام تظهر فيه شخصيّة الجماعة المدنية وتسمح للمرأة بالتحّرك والتعبير بعيداً عن معوقات وقيود التقليد والتقاليد. وهذا إشكال معرفيّ برسم المثقفين ليتولوا الإجابة عليه.

 

خامساً: تعريف النسويّة
لقد ظهر مصطلح النسويّة في القرن التاسع عشر، وهو “مصطلح فرنسي يطلق على خصائص الجسم الذكوريّ، أو المرأة ذك الصفات الرجوليّة، وعندما استعملت في أوائل القرن العشرين فإنها استعملت للدلالة على مجموعة من النساء اللواتي أكّدن على خصوصية المرأة، والأمومة، وعذرية المرأة، ثم أصبحت تفهَم النسويّة فيما بعد بأنها موقف بالالتزام بتغيير المكانة الاجتماعيّة للمرأة، والاعتقاد بأن تبعيّة النساء والظلم الواقع عليهن هي نابعة من حقيقة جنسهن كنساء فقط. وظهرت حركات نسويّة عديدة لها أصول سياسيّة، فلسفيّة مختلفة إلا أنها جميعاً تشترك في تحقيق المطالب النسويّة المتمثلة في إنهاء اضطهاد النساء، وتحقيق المساواة، والمطالبة بضمان حقوق المرأة، وإنهاء العنف ضدها”.[6]

وتعرّف كوماري جاوردينا (1986) النسويّة بأنها: “الوعي باضطهاد، واستغلال النساء في العائلة، والمجتمع، والعمل الواعي من الرجال والنساء لتغيير هذا الوضع، والنسويّة ضمن هذا التعريف تضمّ الحركات المطالبة بالمساواة، وتحرير النساء للحصول على الحقوق المتساوية، وتحرير النساء، والإصلاح القانوني لمعالجة أشكال التمييز القائمة ضد المرأة”.

وتجادل جاوردينا بأنه على الرغم من أن هذه الحركات تقدم النضال من أجل المساواة، إلا أن هذه الحركات لا تعالج تلك المطالب الأساسيّة كتبعيّة النساء في العائلة أو تتحدّى إطار علاقات الرجال والنساء القائم في السياق الذي يحدث فيه الاضطهاد[7].

فالمطالب النسويّة بناء على التعريفات السابقة تشتمل على مطالب المساواة مع الرجل في العمل والحقوق من منطلق الإصلاح القانونيّ، وإنهاء أشكال التمييز القائمة ضد المرأة. فالمسألة الحقوقيّة / القانونيّة مع الوعي هما قطبا المطالب النسويّة في مواجهة هيمنة ذكوريّة تفرض القوانين وتتحكّم بالسلطتين المعنويّة والماديّة.

كما أنه من خلال مصطلح النسويّة نقرأ الدعوة لتصور جديد لواقع الحياة واعتماد نموذج مغاير للتفكير يهدف لمواجهة السلطة الذكوريّة على كل المستويات. فهل يمكن أن تتحقق تلك الدعوة من دون مساهمة الرجال الفعليّة في إيجاد توازن عادل بينهما؟

طبعاً التحول المطلوب يحتاج إلى إعادة نظر في الموقف من الرجال، فهم ليسوا جزءًا من المشكلة فحسب، بل جزء من الحل أيضاً. والخطاب النسويّ يحاول أن يصل برسالته ليفهم الرجال هذا الطرح، فيساعدوا في بناء مقاربة مختلفة بدلاً من المقاربة القائمة على التفارقات والتمايزات ويكونوا بمواقفهم أقرب إلى الدعم بدلاً من أخذ المواقف السلبيّة أو غير المهتمة في أحسن الحالات.

أما واقع الحال فيقول إنه أمام مطالب الخطاب النسويّ وفي مواجهة الذكورية السالبة، فإن الآفاق تبدو مغلقة وعالقة بين مقاربتين، في حين أن الخطاب النسويّ يمكنه أن يعمل على بلورة شبكة قرائيّة تحاور وتصارع في آن معاً خطاب الهيمنة البطريركيّ لإنتاج خطاب مجتمعيّ جديد قادر على تغيير الصورة النمطيّة للمرأة وتأكيد ذاتيّتها وحضورها المميّز وكسر هرميّة السلطة البطريركيّة عليها، وإعادة ترتيب علاقات القوة التي تفرضها ثنائيّة القوي / الضعيفة التي يتبناها الخطاب الذكوريّ.

 

سادسا: المرأة بين البيولوجيّ الطبيعيّ والاجتماعيّ الثقافيّ
تطرح العلاقة بين الطبيعة والثقافة جملة من المفارقات نظراً للتداخل والترابط القائم بينهما، فانتماء الإنسان إلى العالم الطبيعيّ يظهر أولاً في البيولوجيا التي يشترك فيها مع بقية الكائنات، ثم أنه بحكم الفطرة يمتلك غرائز تتشابه مع تلك التي توجد لدى الحيوانات مثل الغرائز الجنسيّة والعدوانيّة التي تعتبر موروثة من تكوينه البيولوجيّ.

فالطبيعة كامنة في الثقافة نظراً لمجموعة الخصائص الفطريّة والغريزيّة التي تولد مع الكائن البشريّ والفصل بينهما يبدأ عند تلك اللحظة التي يصعب فيها التمييز بين الفطريّ والمكتسب في السلوك الإنسانيّ.

أما عن الطبيعة الإنسانيّة فهي كما يعرّفها عالم الإناسة الفرنسيّ موريس غودلييه فهي “مركّب بيولوجيّ اجتماعيّ ثقافيّ لا ينفصم أبداً، يتحدّد كل عنصر من عناصره بالعنصرين الآخرين”. [8]

ومن البديهي أن السلوك الإنسانيّ ما كان ليتطور لولا القدرة على الاكتساب فيما بقي المركّب البيولوجيّ الغرائزيّ متحكماً بسلوك الحيوان. وهذا التمايز ساعد الإنسان على تنويع وتعديل ردود أفعاله السلوكيّة في وضعيّات مختلفة وهو أول مظهر من مظاهر الثقافة.

فمن خلال السلوك المتفاعل مع البيئة الطبيعيّة استطاع الإنسان أن يطّور منظومة من الأفكار والأفعال والخبرات المكتسبة وبدأ بنقلها عبر التواصل والتعلم من جيل لآخر لتتراكم في جملة من القواعد الناظمة لحياته ضمن الجماعة ولتساعده على السيطرة على الطبيعة وتمكّنه من المحافظة على بقائه ووجوده؛ ومع زيادة خبراته الحياتيّة وصل إلى اعتماد أنماط من العيش والتقاليد والمعتقدات التي كوّنت ثقافته.

إن التنظيم الاجتماعيّ للإنسان طغت فيه الفطنة على الفطرة من دون أن تلغيها، وأصبح الموروث البيولوجيّ أمام قواعد ناظمة للسلوك، ومن هذه القواعد تلك التي صاغت علاقة الذكر بالأنثى.

فعندما نتحدث عن أنماط من السلوك اللامتساوي بين الجنسين، فإن مرجع ذلك يعود إلى البناء الاجتماعيّ وليس إلى الطبيعة، فعلى أيّة مرتكزات يبني الثقافيّ فكرة السلوك اللامتساوي؟

 

1-    البيولوجيّ الطبيعيّ
إن وضعيّة الرجل بالنسبة للمرأة ووضعية المرأة بالنسبة للرجل تحتاج إلى إعادة نظر وقراءة، فالمعايير الاجتماعيّة إذا قامت على قواعد من التمييزات البيولوجيّة الطبيعيّة فذلك لا يعني صوابيّتها، ومثالنا على ذلك التفكير في موضوع الحَمْل والإنجاب عند المرأة.

يأخذ التفكير عند الرجل مسألة الحمْل والإنجاب والإرضاع للتدليل على نقاط الضعف لدى المرأة من الناحية البيولوجيّة، فهل حقاً هي نقاط ضعف أم نقاط قوة؟ ولماذا قدرة المرأة على الإنجاب لا تُعتبر نقطة قوة لها وهي بهذا التمايز تكون مصدر الحياة وديمومة الوجود؟
يجب الاعتراف بأن للرجولة إيجابيّاتها كما للأنوثة إيجابيّتها وكلا المفهومين يحملان من التنوّع والاختلاف الشيء الكثير ويخضعان للتغيرات والتحولات المجتمعيّة، وإن كان لكل من المفهومين تمايزات بيولوجيّة، فهذا لا يستوجب أن تقوم علاقتهما على قاعدة الذكورة السالبة والأنوثة المسلوبة.
ويكفينا من التحليل ما أشارت اليه الفلسفة الهرمسيّة بقولها في المبدأ السابع من مبادئها وتحت عنوان: مبدأ النوع أو الجنس Gender: الجنس موجود في كل شيء. كل شيء له ذكريّته وأنثويّته، وهذا المبدأ يعبِّر في كل المستويات، ليس فقط على المستوى الفيزيائيّ، بل أيضاً على المستوى العقليّ العاطفيّ.

والأمثلة حول الثنائيّات المتجانسة والمتكاملة أكثر من أن تُعّدُ وتُحصى، فكيف يمكن للخطاب الذكوريّ أن يزيح معياراً كونيّاً عابراً لكل الوجود ويصبح كل شيء إنسانيّ عنده منظوراً له من زاوية ذكوريّته، متناسياً بأن نظيره من الأنس الآخر هو انثى؟[9]

 

2- الاجتماعيّ الثقافيّ
إن البناء على تمايز الهويّات البيولوجيّة بين الذكر والأنثى وتحويله إلى امتياز لأحدهما على الآخر هو شأن ثقافيّ – اجتماعيّ بالتأكيد، فالثقافة كما يقول ديفيد تشاني: “هي دوماً الجسر الذي يربط بين الأفراد وهويّاتهم الجمعيّة”. [10] ثم يضيف “ولكن بفضل قدّرتنا بوصفنا بشراً واعين لأنفسنا ومدركين قدراتنا فإننا نخلق هويّاتنا، ونعيد خلقها على الدوام”. [11]

إن الهويّة الاجتماعيّة للمرأة كما الهويّة الاجتماعيّة للرجل، كلاهما محاصَر وسط تنميط مجتمعي قائم على متخيّلات من التصنيفات الثقافية للصفات الذكوريّة والأنثويّة، فليس من مجتمع معروف في التاريخ يقوم على وحدانية المجانسة بين صفات أفراده ذكوراً وإناثاً، فالتصنيف والتنميط فعلٌ مجتمعيّ اصطلاحيّ، وفكرة التمايز تعود في جذورها إلى استغلال مقصود للناموس الكونيّ في الطبيعة البيولوجية لإحداث التمايزات بين البشر.

(التمييز العرقيّ بين أصحاب البشرة البيضاء والسوداء، وبين السلالات المتفوّقة والمتدنّية، وبين الذكورة والأنوثة)، فالمشكلة برأينا هي مشكلة معايير وتصنيفات أولاً وأخيراً، وهذا ما على المنظور النسويّ أن يحاذر الوقوع في شباكه. إذ لا يمكن مواجهة الإجحاف الاجتماعيّ على المرأة بتعصّب نسويّ ضد الرجل، فلا يُحارب الجهل بالجهل. ولا تواجه الرؤية الناقصة برؤية ناقصة. ولكي تستقيم الرؤية على توازن صحيح في علاقة الطرفين فإنه من الضروري أن نبتعد لزاماً عن النظر إلى البيولوجيا بمنظار ثقافي ولا إلى الثقافة بمنظار بيولوجيّ وأن ننتبه لضرورة الفصل بينهما في مستويات التحليل والتفسير والتعليل وبناء الترابطات والإسقاطات والاستنتاجات.

 

 سابعاً: تفكيك نظام “الهيمنة” من المنظور النسويّ
إن الصور الذهنيّة لكل جنس عن الجنس الآخر تجعل من كل مفاصل الأنساق الاجتماعيّة- الثقافية قائمة على بناءات من الهيمنة والسيطرة تُعيق سيرورة المجتمع عن النهوض الحضاريّ وتُبقيه أسير التخلّف، وهو ما يشير إليه بالتحليل الدكتور هشام شرابي في مؤلفه الفكري “النظام الأبويّ وإشكاليّة تخلف المجتمع العربي” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربيّة (1992).

أما عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو فقد رأى في كتابه “الهيمنة الذكورية” (1998)، أن قوة النظام الذكوريّ تكمن في قدرته على تقديم نفسه كمحايد، ويشترك الذكور والإناث بشكلٍ لا واعٍ في تبنّي التصورات والمقولات التصنيفيّة ذاتها، وتُستثمر كلّ أدوات التخفي والاحتجاب (مثل اللاشعور) لممارسة المخاتلة والمراوغة والخداع، كما يتم توريث التفاضل الجنسيّ المسكون بالبطريركيّة عبر «العنف الرمزيّ» الذي يحوّل النساء إلى مجرد أشياء للتبادل تحقيقًا لمصالح الرجال، ودور مؤسسة الأسرة كـ «حارسة للرأسمال الرمزيّ»، لذلك تتطلب مقاومة هذه الهيمنة ثورة معرفيّة تقوم على مبدأ التدرّج والتراكم.

 

بناءً على ما تقّدم، وفي محاولتنا التّعرّف على كيفية اشتغال هذا النظام الذكوريّ والأبويّ بمنهج استقرائيّ – استنباطيّ وبأدوات التقّصي السوسيولوجيّة وفي مقدّمتها “الملاحظة” نستخلص ما يلي:

1 – إن جملة السلوكيات التي نراها بين الناس تظهر على شكل عادات متكررة تتناسب كل عادة مع ظرف اجتماعيّ أو موقف محدد، والعادة تتكّون بالممارسة المتكررة للسلوك الذي يصبح بسبب التكرار ثابتاً لا يتغير.

وهكذا هي حال العادات الاجتماعيّة التي تتحوّل مع الزمن إلى قوالب للسلوك الجامد، وتظهر وكأنها متأصلة في بنية العلاقات الاجتماعيّة وكأساس معياريّ لتمييز الصواب من الخطأ. علماً أن السلوك وبحكم التكرار اللامفكّر فيه يتحول إلى عادة، وفي هذه الحال يكون السلوك محدّداً للعادة. بينما إذا أستيقظ الانتباه ووعينا ما نفعل من سلوكنا فإنه بإمكاننا أن نعدّل عاداتنا وهنا يصبح وعينا لسلوكنا ضابطاً لعاداتنا. وكذلك الأمر في ما تعودنا عليه في تفكيرنا وما نعتقد. فالانتباه الواعي شرط التغيير ولا تحصل إرادة للتغيير بلا معرفة ووعي وانتباه.

2 – إن المجتمع يمارس آليات الضبط على الذكور والإناث معاً من خلال مورثاته وتقاليده والعادات السائدة فيه. ونظام السلطة الأبويّة يعتمد على تسلسل هرمي يضع الرجل / الأب / السيد على رأس السلطة الهرميّة المسيطرة ويعطي لمفهوم الذكورة جملة من الحقوق والامتيازات بسبب امتلاك الرجل / الذكر تاريخياً للقدرات الجسديّة التي تمنحه القوة، ومَن يمتلك القوة يحكم ويسود بالغلبة كما في شريعة الغاب، وقد أخذ الرجل/ الأب / السيد من الفروقات في القوة بينه وبين المرأة وحوّلها إلى تفوّقات قامت على أثرها جملة من التفريقات في المراتب والأدوار بين الجنسين.

إن سطوة النظام البطريركيّ تستبطن العنف بكافة أشكاله ومنها العنف الرمزيّ الذي يجعل من العبد يقبل أن يكون عبداً لأن السيد هو السيد.

والسؤال الذي نطرحه اليوم: هل مفهوم الرجولة مفهوم ثابت وباقٍ على حاله من الثبات أم أنّه مفهوم متغيّر ويحتاج إلى إعادة نظر في قواعد انبنائه؟ وهل معيارية القوة الجسديّة لدى الرجل تبّرر له التعنيف والقمع واستضعاف الآخرين وعلى رأسهم المرأة؟

إن معيار القوة التي تسمح بالسيطرة على الأجساد الضعيفة قد أزاحته عن مركزيّته التطوّرات المتسارعة التي يشهدها عالمنا المعاصر وأضحت قوة العقول والأدمغة القادرة على إنتاج المعرفة هي إحدى أهم أدوات الصراع من أجل امتلاك السيطرة والهيمنة، فالمعرفة اليوم هي القوة الحقيقية، ولذا فلا تمييز هاهنا على اساس النوع الاجتماعيّ بين أدوار الرجال والنساء أو هكذا يجب أن يكون.

أخيراً قد لا نبالغ بالقول إن ليس من عقل يقوى على حصار المرأة أقوى من عقلها، وليس من سجن يعتقلها إلا عقل رجل سجين ذكوريته. ولذا فإن تحرّر الذكور من سجون ذكوريتهم يزيدهم حرية وإنسانيّة، وتلك من المهمات التي على الخطاب النسويّ أن يعمل على زيادة الوعي بها.

 

المراجع :
[1] أنتوني غدنز – علم الاجتماع – ترجمة وتقديم د. فايز الصيّاغ – المنظمة العربية للترجمة – مؤسسة ترجمان – ط1 – بيروت -2005 – ص 90 – 91.

[2] Alph Schroeder, Max Weber and the sociology of Culture (London : sage, 1992), p6

[3] الجابري: العولمة والهوية الثقافية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2010، ط1، ص14

[4]ايجلتون، تيري،  فكرة الثقافة، ص.28، ترجمة شوقي جلال، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، 2005، طبعة أولى.ص.27

[5] كولمار، ويندي، بارتكوفيسكي (2010) النظريّة النسويّة، مقتطفات مختارة تر. عماد إبراهيم ط1، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان.

[6] Pilcher, Jane and Imelda Whelehan. (2004). Fifty Key Concept in Gender, Studies. London: Sage Publications,p84

[7] Jayawarden, Kumari.(1986) Feminism and Nationalism in the Third World. London : Zed.Books Ltd.p2

[8] Maurice Godelier. L’imaginaire, l’imaginé et le Symbolique, CNRS Editions – 2015,p.28

[9] النظريّات الكونيّة في منظور الهرمسيّة،

http://www.maaber.org/issue_april19/spiritual_traditions1.htm. الدخول إلى الموقع بتاريخ 12-2-2021

[10]آدم كوبر، الثقافة : التفسير الأنتربولوجيّ – ترجمة تراجي فتحي – سلسلة عالم المعرفة – العدد 349 آذار2008 – الكويت – ص 261

[11] توني غدنز – علم الأجتماع – ترجمة وتقديم د. فايز الصيّاغ – المنظمة العربية للترجمة – مؤسسة ترجمان – ط.1 – بيروت -2005 – ص 92.

المصدر: موقع حرمون