من واشنطن إلى "تل أبيب" الرقص على نفس النغمة


يجزم المعجبون بالديمقراطية الأميركية بأن الإنتخابات التي تجري هناك هي لعبة ديمقراطية بحتة، ونحن نكاد نجزم أنها ليست إلا لعبة كراسٍ موسيقية، مع فارق جوهري هو أن المايسترو الأميركي يعرف قبل أن تبدأ اللعبة، من هو اللاعب الذي لن يجد كرسي، وعليه أن يغادر الدائرة ولو مؤقتاً، وينطبق هذا الشيء على الولاية الأميركية في شرق المتوسط، التي يسموها "إسرائيل"، والتي تبني سياستها على نفس النغمة التي يعزفها من واشنطن مايسترو الدولة العميقة.
لذلك، ولكي نعرف كيف ستسير السياسات الأميركية علينا أن نربطها بمسار السياسة الإسرائيلية، وبالتغيرات التي تطرأ على هذا المسار أو ذاك، فأن يخسر بنيامين نتنياهو في "إسرائيل" عندما يخسر دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وأن يعود ليفوز مع اليمين الإسرائيلي المتطرف عندما تبدأ خشبة المسرح بالإهتزاز تحت قدمي جو بايدن، بالتأكيد هذا لا يعني أن المزاج الشعبي عند المستوطنين الصهاينة قد تغيّر، لأن مزاجهم ثابت منذ قدومهم إلى فلسطين، بل يعني أن يد الصهيونية العالمية ما تزال ممسكة بأعمدة الدولة العميقة في واشنطن، وما تزال هي اليد العليا في صناعة القرارين الأميركي والإسرائيلي.
ولو حاولنا أن نبحث عن الأسباب التي دفعت الصهيونية لأن تدعم عودة نتنياهو لرئاسة الوزراء، سنجد أن هذه العودة المُطعّمة بيمين متطرف أتت لتكون قنبلة إعلامية أكثر منها حالة سياسية، أو حالة حربية، ويُلاحظ ذلك من طريقة تسويق الإعلام الغربي لنتنياهو، على أنه أحد أهمّ الرؤوس الإسرائيلية الحامية، أو أنه رجل لا يقف عند الخطوط الحمراء، وهذا مجرد تسويق إعلامي مخادع ومكشوف، فكلّ الحكومات الإسرائيلية تختلف بالتكتيك وتتلاقى بالإستراتيجيا، بدليل أن كلّ الحكومات الصهيونية مارست الإرهاب الدولي الموصوف بحقّ العرب، وخاصّة الحكومة الأخيرة التي يتزعمها نفتالي بينيت، والتي تجاوزت سابقاتها بأعمالها الإرهابية، بدليل قصف المطارات المدنية السورية، وبناء على هذا التسويق تم اختيار نتنياهو، لعلّه يكون الفزّاعة التي تستخدمها واشنطن في محاولة لضبط المنطقة، كي يتثنى لها التفرّغ للعمل في مناطق أخرى، ولذلك فمن المُرجّح أن يكون المطلوب منه أن يعمل على أربعة مسائل أساسية:
1 - أن يلعب دور البهلوان الحربي مع إيران، وذلك بعد فشل ضغوط الإدارة الأميركية الحالية على طهران، لإجبارها على العودة إلى اتفاق نووي حسب الشروط الأميركية، وهذا أمر لا قيمة له بالنسبة لإيران، لأن هذه البهلوانيات أثبتت فشلها سابقاً، والإيرانيون يدركون جيداً أن الأميركي فقد الأمل بتراجع إيران عن موقفها، ولذلك حاول إشعال الداخل الإيراني عن طريق الإضطرابات الأمنية.
2 - أن يمارس أسلوبه الزئبقي مع روسيا، عبر صداقته مع الرئيس الروسي، بحيث يدعم أوكرانيا عسكريا،ً ويتزلّف طالباً الصفح من بوتين، بهدف المحافظة على حرية تحرك الطيران الإسرائيلي لإستهدافات داخل الجغرافيا السورية، وربّما يجد أن مصلحة كيانه هي بوقف دعم أوكرانيا، أو بخفض هذا الدعم، ولاسيّما إذا كان صُنّاع القرار في واشنطن، قد أصبحوا على قناعة بضرورة التفاوض مع روسيا فيما يخص القضية الأوكرانية.
3 - أن يوحي لحزب الله أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية لا يُلزم حكومته، وأنه يستطيع إسقاط الضمانة الأميركية لهذا الإتفاق، وأن التصعيد العسكري سيكون حاضرا،ً وهذا الموضوع أيضاً محكوم بالفشل، لأن حزب الله لا يعوّل على الضامن الأميركي، بل يعتبر أن صواريخه هي الضمانة الحقيقية، وهذا الأمر يُدركه جيداً القادة العسكريين في "إسرائيل".
4 - أن يحاول إعادة الهيبة الإسرائيلية على فصائل المقاومة الفلسطينية، وخاصّة بعد العمليات المقاومة الأخيرة، وهذا أيضاً موضوع أصبح من منسيات المقاومة التي ازدادت توحداً وتمدداً وقوّة.
هذا على الصعيد الإسرائيلي، أمّا على الصعيد الأميركي، فكلّ المؤشرات تقول، أن فوز حزب الليكود مع اليمين المتطرف، لم يكن إلا مقدمة لفوز أميركي سيحقّقه الحزب الجمهوري في انتخابات الكونغرس النصفية، وعلى الأغلب أنه ذاهب ليكرّر هذا الفوز في الإنتخابات الرئاسية القادمة، وبذلك يكون ترامب هو المرشح الأوفر حظاً في الوصول إلى البيت الأبيض، وهذا يعني أن أركان الدولة العميقة في الولايات المتحدة قد استعدوا للإنعطاف في الكثير من الملفات، مع ترك باب الرجوع مفتوحاً عن هذه الإنعطافات المُحتملة، وذلك من خلال بقاء سيطرة الديمقراطيين على مجلس الشيوخ.
وباستعراضٍ لأهمّ الملفات التي قد تخضع للتغيير، ولو تجاوزنا ملفات مهمّة ولكنها أقل ثقلاً، مع أنها ستتعرض للتغيير بشكل أو بآخر، مثل الملف الإيراني، وملف كوريا الشمالية، وملف دول شرق المتوسط، وسنكتفي باستعراض الملفين الأساسيين الذين يشغلان العالم كله:
● الحرب الروسية الأوكرانية.
بات واضحاً أن الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا هي حرب أميركية بالوكالة، كما بات واضحاً أن الجميع تورّط في هذه الحرب، فمنهم من تورّط مُرغماً مثل روسيا، ومنهم نتيجة ضعف قراءته مثل الولايات المتحدة، ومنهم من قاده مُتورّط جاهل مثل الدول الأوروبية، وبما أن هذا الملف هو الملف الأكثر حساسية وسخونة، يبدو أن صُنّاع القرار في واشنطن بدأوا يقتنعون بأن هذه الحرب أصبحت تشكّل مصدر استنزاف، سواء بخسارة بعض الحلفاء الذين بدأوا يبتعدون عن الموقف الأميركي، أو بتقلّص الإحتياطي المالي والنفطي، أو بخسارة الجهود التي انصبّت في مكان واحد، وتركت أمكنة مهمّة مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية. 
ولذلك، فمن المُتوقّع أن تكون أولى أولويات الإدارة القادمة، وحتى الإدارة الحالية، بما بقي لها من وقت، هي تبريد الساحة مع موسكو، والطلب من ممثلها الأوكراني في هذه الحرب أن يأتي إلى طاولة المفاوضات مع روسيا،
وهذا الرأي تدعمه تصريحات العديد من الساسة الأميركيين من بينهم ترامب نفسه، الذي أعلن صراحة بأنه لو كان في سدّة الحكم لما وقعت هذه الحرب، ولو وصل حالياً للحكم فسوف يوقفها فوراً.
●العلاقات مع الصين
يستطيع الأميركي وقف الحرب مع روسيا، أو مع أيّة دولة أخرى، ولكن كيف سيوقف الحرب التجارية والإقتصادية الصينية، هذه الحرب الناعمة، والصامتة، والمُرعبة بنفس الوقت، إذ يكفي أن نذكر سببين من جملة أسبابٍ لكي نصف هذه الحرب بأنها مُرعبة، السبب الأول، هو طريق الحرير الذي تفتحه الصين بكلّ ثقة وهدوء، وهذا يعني أن التمدّد الصيني سيصل إلى أوروبا،  أما السبب الثاني والأهم،ّ فهو الهيمنة الصينية على سندات الخزانة الأميركية، حيث تملك الصين 1.11 تريليون دولار من قيمة هذه السندات، ما يجعلها المالكة الثالثة بعد الولايات المتحدة، وبعد اليابان التي تقدمت منذ أسابيع لتحتل المركز الثاني، ولو أقدمت الصين على طرح هذه السندات للبيع على نطاق واسع، لأحدثت اضطرابات هائلة في الأسواق المالية العالمية، وخاصّة الأميركية منها، وهذا ما يُسميه خبراء المال "الخيار النووي"، والجميع يعرف أن معالجة هذه القضايا مع الصين تحتاج إلى سنوات طويلة، وإلى إدارات أميركية واقعية، وواعية، ومُثابرة.
وما يدعو للدهشة، هو أن الأميركيين يُكررون نفس الألعاب، وبنفس الطريقة، بل وبنفس الشخصيات، ومشكتلهم أن الطرف الآخر حفظ هذه الألعاب، ووضع الحلول المناسبة لها، والمشكلة الأكبر هي أن الولايات المتحدة والكيان الصهيو ني قد أصبحا مُجتمعين عاقرين، وغير قادرين على إنجاب زعماء جدد، لدرجة أن يؤتى برئيس يكاد ينسى اسمه أو زعيم كيان ملّه التاريخ.