من شهاب وتقلا إلى رشيد و”تقي بيك”.. حُكّامٌ خافوا الله؟


من دلالات انحدار العقل السياسي في لبنان، ذهاب بعض “المنظرين السياسيين الجدد” إلى دعوة اللبنانيين إلى تغيير أنماط عيشهم، وهؤلاء الذين ينقصهم التفكير الخلاق الذي يجترح حلولاً إنقاذية، يدعون الناس إلى الإستسلام للذل المديد، قائلين ومرددين إن البلاد والعباد يدفعون أثمان فساد حكامهم منذ سبعين سنة وأكثر، ولكن، هل كان مجمل حكام لبنان فاسدين كما يتقول المتقولون؟ في المبدأ لا تخلو دولة من فساد، والأخير أصناف وأنواع، ذروته الإثراء عبر الإستقواء واستغلال النفوذ، وأعلاه تبريره بهدف التطبيع معه، ولعل الفيلسوف أفلاطون كان أول من تنبه إلى مخاطر ثراء السياسيين وفسادهم، ففي كتابه “الجمهورية” يقول “الحكام وحدهم من بين السكان، يحظر عليهم إدخال الذهب والفضة إلى بيوتهم، وبذلك يصونون أنفسهم ودولتهم، وإذا امتلكوا أراضي وبيوتاً ومالاً، صاروا مالكين وليسوا حكاماً، ويصبحون سادة مكروهين وغير محبوبين، يكيدون لغيرهم ويكيد غيرهم لهم، فيقضون الجانب الأكبر من حياتهم في العراك، وخوفهم من العدو الداخلي يكون أكبر من خوفهم من العدو الخارجي، وفي هذه الحال، يسرعون بالدولة إلى الدمار”. كأن أفلاطون يتكلم عن غالبية حكام لبنان الآن، لكن ماذا عن حكام لبنان قبل الآن؟ فؤاد شهاب.. الزاهد يروي رئيس الجمهورية الأسبق الياس الهراوي، أنه بعد استلامه مقاليد الرئاسة، زار أرملة الرئيس فؤاد شهاب، وحين وقف استعداداً لمغادرة منزلها سألها عما إذا كانت بحاجة إلى خدمة رئاسية، فطلبت منه أن يسدد ديناً عليها لحانوت مجاور، قيمته 300 دولار! ويقول خصم الشهابية العنيد، العميد ريمون إده، وصاحب المقولة الشهيرة والذائعة الصيت “إن أعداء  لبنان ثلاثة: الشيوعية والصهيونية والشهابية” في سلسلة “دفاتر الرؤساء” لغسان شربل رئيس تحرير صحيفة “الشرق الأوسط” إن شهاب “كان نزيهاً، ونقطة ضعفه كانت في الإستماع إلى المكتب الثاني، ولولا ذلك، كان عهده أفضل العهود، لم يدخل في صفقات مالية، ولم يتهم بسرقة أموال الدولة، أقول ذلك للإنصاف”. وفي السلسلة نفسها، يتحدث رئيس مجلس النواب الأسبق كامل الأسعد، وهو ممن لم يكنوا وداً للعهد الشهابي ولا إعجاباً به، وعمل على تأسيس “كتلة الوسط“ مع الرئيسين سليمان فرنجية وصائب سلام قائلاً إن “فؤاد شهاب كان ممتازاً أخلاقياً وكان رجل دولة وكان زاهداً بالفعل”. رئيس جمهورية كان زاهداً وعفيف اليد، هذا ما يقوله خصومه، وما يستحضر في الوقت نفسه بيتاً مشهوراً من الشعرالعربي، قاله الشاعر العباسي الرفاء الموصللي: وشمائل شهِد العدو بفضلها / والفضل ما شهدت به الأعداء.

حين توفي فؤاد شهاب، كتب عنه الزعيم الوطني كمال جنبلاط (“الأنوار” ـ  26 ـ 4 ـ 1973) فقال “كان فؤاد شهاب يحتقر أرباب التسلط على المال من السياسيين، وكان من الصرامة في حياته الخاصة والعامة، انه لا يقبل بالإلتواء والتزوير عند غيره، فؤاد شهاب مدرسة أخلاق ونزاهة عميقة وشرف أصيل”. الياس سركيس.. أمانة المال العام الياس سركيس الذي ينتمي إلى المدرسة الشهابية، كان يُفترض أن يدخل إلى القصر الجمهوري عام 1970، لكن الإستخبارات السوفياتية حالت دون ذلك، بعد إفشال أجهزة الأمن اللبنانية عملية خطف طائرة “ميراج” من سلاح الجو اللبناني، وينقل باسم الجسر في كتابه “فؤاد شهاب ذلك المجهول” عن رئيس مجلس النواب آنذاك صبري حمادة حين جاء يقنع كمال جنبلاط بإنتخاب سركيس قوله: “أنا مقتنع مثلك ولكن السفير السوفياتي غير مقتنع”، وأما رشيد كرامي فقال: “يبدو أن أخواننا الروس أضرب منا في القضايا الشخصية”. عن نزاهة الياس سركيس، يقول الرئيس صائب سلام “كان آدمي وصاحب خلق”، ويروي الزميل الياس عطاالله (“النهار” ـ 19 ـ 6 ـ2019) عن الياس الهراوي أنه قال “عندما تولى سركيس الرئاسة، كان في صندوق النفقات السرية ثلاثة ملايين دولار، وعندما ترك سركيس القصر الجمهوري، كان في الصندوق ثلاثة ملايين دولار”. ثلاثة ملايين دولار مصاريف سرية ونثرية كانت  تحت تصرف الياس سركيس طوال ست سنوات من ولايته الرئاسية (1976 ـ1982)، لم يصرف دولاراً واحداً منها، ألا يقال: رحم الله الياس سركيس؟. حلو وخالد شهاب نموذجا المناقبية وقبل سركيس، شغل منصب الرئاسة الأولى شارل حلو (1964ـ1970)، لم يتهمه احد من السياسيين اللبنانيين بثروة جناها وبعقارات امتلكها،  وفي ندوة (2002) أقامتها جامعة “سيدة  اللويزة” في الذكرى السنوية لرحيله، وتحدث فيها الرئيس حسين الحسيني والمفكر منح الصلح والسيدة رباب الصدر وغيرهم، وأفاضوا في مدح مناقبيته، قال قريب العائلة المحامي جوزيف الخوري الحلو “إن فخامة رئيس الجمهورية أخبرني أن شارل حلو مات من دون أن يكون له بيت”. خالد شهاب (1892ـ 1978) ترأس الحكومة اللبنانية مرات عدة، “عاش أيامه بعد خروجه من البرلمان في فاقة وحاجة، حيث كان يتنقل في ذهابه وإيابه من منزله قي الترامواي مثل سائر المواطنين”، مثلما جا في ملف “معلومات” الذي كانت تصدره صحيفة “السفير” اللبنانية (كانون الأول/ ديسمبر 2008)، وحين علم الرئيس سليمان فرنجية بمرضه وعجزه عن العلاج، قرر التوقيع على مشروع قانون يقضي بدفع رواتب شهرية للنواب السابقين، بعدما كان أهمله لأشهر عدة في أدراج مكتبه. سامي الصلح باع كل ما يملك سامي الصلح الذي تولى رئاسة الحكومة 8 مرات (1998ـ 1968)، كان “يأتي إلى السرايا من منزله في حوض الولاية، سيراً على قدميه، وقد كمنا (نصبنا له كميناً) له غير مرة ورافقناه في مشواره الصباحي، محاولين الفوز بخبر يرضي حشريتتا الصحافية”، بحسب ما يقول حكمة أبو زيد في كتابه “رؤساء حكومات لبنان كما عرفتهم”، وسامي الصلح الذي كان والده عبد الرحيم متصرفاً على مدينة عكا وكانت تابعة إدارياً لولاية بيروت، “باع كل ما يملك ولم يجمع ثروة”، وفقاً لما ورد في  معلومات  “السفير” عن سيرته الذاتية والسياسية.

وفي قائمة النزاهة نفسها، يدخل حسين العويني (1900 ـ  1971)، الذي لم يذهب إلى السياسة بل جاءته النيابة ثم الوزارة ثم رئاسة الحكومة من دون أن يسعى إليها، كما يقول أترابه وأهل السياسة من جيله، ومن مآثره “خلال وجوده في وزارة المالية وفي رئاسة الوزراء، سعيه بإصرار إلى شراء الذهب والإحتفاظ به كذخيرة اقتصادية ومالية للمستقبل، وقد ادى وجود هذا التراكم الكمي من المعدن الأصفر في خزائن الدولة، إلى منح البلاد قوة اقتصادية كامنة تساهم في تعزيز منعتها في الأزمات إثر نشوب الحرب الأهلية”، استناداً إلى ما أوردته نشرة “معلومات” الشهرية الصادرة عن صحيفة “السفير” في ملفها المسبوق ذكره قبل حين. ماذا يمكن أن يقول حسين العويني عن غالبية أهل السياسة اللبنانيين الحاليين حين تصله أصداء رغباتهم  ببيع الذهب الوطني، لعله “يلبنن” من قبره ما قاله مرة محمد حسنين هيكل عن نهب العراق “لبنان بنك استولى عليه لصوص، ليس لديهم معرفة في السياسة والحكم والإدارة”.

تقي بيك لم يمتلك منزلاً في العائلة الصلحية، يحتل تقي الدين الصلح (1908ـ 1988) موقعاً بارزاً في التداول على الحقائب الوزارية ورئاسة مجلس الوزراء، ومع أن أملاك آل الصلح كانت تمتد من مطعم “نصر” قبالة صخرة “الروشة” التي كانت معروفة بـ”صخرة آل الصلح”، حتى ملعب نادي”النجمة” الرياضي، فإن القسم الأغلب من هذه الأراضي جرى بيعه وصرفه على جريدة “النداء” ذات التوجه القومي والتي صدرت عام 1931، وتوقفت عام 1939 جراء التضييق الفرنسي عليها، وبحسب رواية شخصية للأمين العام السابق لإتحاد المحامين العرب، المحامي البيروتي عمر زين، “ان تقي الدين الصلح لم يمتلك منزلاً وكان يعيش في بيت زوجته وداد البرازي”، وحين شد الرجل الرحيل نحو عالم البقاء، لم تستطع العائلة إجراء معاملات حصر الإرث لعدم امتلاكها التكاليف المالية اللازمة. و”الفقير لله تعالى” عبد الله اليافي (1901 ـ 1986)، ترأس الحكومة 11 مرة، كان “نظيف الكف وعفيف اللسان”، وقد عارضه كثيرون، ومع ذلك “لم يستطع أحد أن يشكك في سلوكه وأمانته وحرصه على المال العام، وقد مات فقيراً”، برغم كونه أول شاب بيروتي سني ينال شهادة الدكتورة من جامعة “السوربون” الفرنسية، اعتماداً على سيرة ذاتية له، منشورة في ملف “معلومات” الصادر عن “السفير” ويتناول رؤساء الحكومات في لبنان. رشيد كرامي.. “يخاف الله” ومن طينة هذه الأسماء رشيد كرامي، ومن لا يعرفه؟ يقول ريمون في “دفاتر الرؤساء” إن رشيد كرامي “كان آدمي كتير” و”رجل دولة، كان يحتفظ بحقيبة المال ويحافظ على أموال الدولة كما يحافظ على ماله الخاص. رجل أمين”، وعنه يقول حكمة أبو زيد، وقد عرفه عن قرب وعمل معه “كان الرئيس رشيد كرامي يتوقف عند الضوء الأحمر، والويل لسائقه إذا خالف قانون السير، وطلب مرة إبعاد سائق من رجال الأمن الذين كانوا يرافقونه، لأنه استعمل الزمور الصارخ ليفسح المجال لسيارة رئيس الحكومة قبل غيرها من السيارات”. وعن رشيد كرامي يدلي الزميل زهير ماجد بشهادة شخصية، ويقول إن منزلاً بالإيجار كان يسكنه كرامي في منطقة زقاق البلاط، وتقدم ماجد في إحدى المرات نحوه وألقى التحية عليه قائلاً “صباح الخير يا رشيد بيك”، فما كان من كرامي إلا أن اقترب منه وقال له:“لا تقل مرة ثانية رشيد بيك. قل فقط رشيد”، يعني لا “بيك “ ولا “أفندي” ولا دولة الرئيس ! هذا “إنسان يخاف الله”، هكذا قال مدير عام وزارة المالية الأسبق خليل سالم، عن رشيد كرامي. هل يوجد أناس آخرون يخافون الله؟ سليم تقلا.. مات فقيراً سليم تقلا (1895 ـ1945) من أولئك الخائفين من ربهم. شغل وزارتي الخارجية والأشغال العامة، وحين توفي عن خمسين عاماً دأب الرئيس رياض الصلح يدافع عن نزاهته، فـ”سليم تقلا مات فقيراً” كما يقول الرئيس بشارة الخوري في كتاب مذكراته “حقائق لبنانية”، وكتب خصمه السياسي جورج نقاش في صحيفة “لوريان” (12 ـ 1 ـ1945) أن سليم تقلا “من بين جميع خصومنا، وواحد من القلائل، الذي يمكننا أن نكرّم ذكراه” إذ انه لم يجرِِ وراء الطموحات الشخصية ولا انساق في سوق السياسة الكبير ولا في معرض الجاه والألقاب، كما جاء في ترجمة ساسين عساف لمقالة جورج نقاش المدرجة في كتاب “سليم تقلا من بناء الدولة إلى معارك الإستقلال”. ومن هؤلاء الخائفين ايضاً، فؤاد نفاع (1925 ـ2017) وزير الخارجية اللبنانية اللامع، وقد هاجر إلى الأورغواي ليتقاعد في بلاد الغربة عند أهل زوجته زبيدة، على ما كتب الزميل سمير عطاالله ناعياً نفاع “صديق السراء والضراء” في صحيفة “النهار” في الرابع عشر من نيسان/ إبريل 2017. كثيرون من رجالات لبنان الذين مضوا، كانوا يخشون الله. لم يُفقروا العباد ولم يدمروا البلاد. كثيرون من رجالات السياسة الحاليين في لبنان، لم تصل إلى آذانهم ما قاله قبلان فرنجية في ذات حكمة:”بإمكان أي شخص أن يكون بطلاً، ولكن من دون أن يدمر الأرض”. هل يعرف أهل السياسة في لبنان أنهم دمروا لبنان؟

 180Post :المصدر