الطريق إلى أوروبا.. رحلة حياة أو موت


(اللهم آمنا فى أوطاننا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، اللهم ارحمنا واغفر لنا)، يحرقون البلاد، ويرفضون استقبال عباد الله من المستضعفين، لا يريدون استقبال الضعفاء منا وهم سبب بلاء الأمم ودمار الأوطان وتشتت الناس بحثاً عن العيش الكريم، ففقير الوطن في غربة، والغربة كربة كما يُقال.

 

منذ سنوات وأنا أكتب عن هذه الأزمة (أزمة المهجرين) تناولتها في عشرات المقالات، لا أعرف اليوم من أين أبدأ، أأبدأ من الأيزيديات أم من مسيحيي المشرق، أم من المسلمين أم وأم وأم، لن ننتهي من التعداد، قبل الخوض في موضوعي هذا، سأقول بأمانة، إن المسؤول الأول عما يحدث هي الحكومات العربية، التي ساعدت بتدمير أشقائها من جهة، والحكومات الأخرى التي لعبت بورقة اللاجئين والمهجرين لأغراض سياسية، كلاهما مسؤول عما يحدث اليوم، إذ لا يهم اليوم أن تكون قوياً عسكرياً، في حين أن غالبية شعبك يقبع تحت خط الفقر، كل صفقات السلاح لا تنفع عندما يؤخذ قرار تدمير بلدك، فوفّر أموال خزينة الدولة واستحدث المشاريع لإنقاذ شعبك، فكل شعب لا يأكل مما يزرع ولا يلبس مما يصنع هو شعب منهار، فالقوة الاقتصادية هي السلاح الأقوى في وجه قوى الاستكبار، رغم أن المنطقة في حالة حروب منذ عشر سنوات، إنهار بعضها، والبعض الآخر يقاوم، عقوبات وحصار ومد وجزر، لكن هذا لا يعفي أحداً من المسؤولية، وأعيدها وسأكررها في كل مناسبة، إن لم تتوفر إرادة إحياء الاقتصاد الذاتي لن تتحرر بلادنا من تدخلات الغرب في استمرارية لتدمير أوطاننا.

 

في الحالة السورية التي كانت مكتفية ذاتياً، دولة منتجة في كل الميادين، (خضار وفاكهة، قطن، زيت زيتون، مكسرات، ألبسة، وغير ذلك الكثير)، اليوم نجد الكثير من الشعب السوري لا يجد قوت يومه، أو من يجده بشق الأنفس، هذا تدمير ممنهج، تدمير البنى التحتية ممنهج، لقد كانت سوريا من أرخص الدول عالمياً، وكان شعبها يعيش بكرامة، لكن دخلت الحرب في عامها الحادي عشر، وانحسرت المعارك في السنوات الأخيرة، لماذا لم نجد حلولاً تخفف من معاناة هذا الشعب، سيقولون الحصار والعقوبات السبب، نعم هي سبب، لكن يجب التفكير بالبدائل، لأن الأزمة قد تطول، وأن ننتظر لتنتهي العقوبات، لن يتبقى من هذا الشعب أحد، كذلك الأمر في العراق، رغم غناه بكافة الموارد النفطية والمائية، أين هو الآن؟ لا صناعة ولا زراعة، ولا ماء، والأنهار في طريقها إلى الجفاف، لماذا رغم كل الحكومات المتعاقبة لم يتغير حال هذا البلد؟ هي السياسة وهو الاستكبار العالمي، لن أطيل في الشرح لأن الأمور واضحة وضوح الشمس، كذلك لبنان الذي إنهار في ليلةٍ وضحاها، لكن نعود للحالة السورية التي استطاعت الصمود أفضل من غيرها ولو بنسبة قليلة، لأن البلد محكوم من قبل مؤسسات تحاول النهوض رغم السقطات الكثيرة والمتتالية.

 

الهجرة

 

باتت الهجرة اليوم، مطلب الشعوب التي تريد ضمان حياتها، وهذا حقها، عشر سنوات والنكبات لم تنتهي، حروب ودمار وتهجير قسري، وموت ودماء ومعارك وتدخل خارجي، لقد تم إنهاك الشعوب، من حقهم العيش بكرامة، فرغم أن الغرب له اليد الطولى في نكبات هذه الشعوب، إلا أن مجرد الوصول إلى بلادهم تأمين لمستقبل الذين يريدون الهروب من هذا الواقع الأسود، بعضهم دفع حياته ثمناً لأن يوصل عائلته إلى بر الأمان، وآخر دفع كل ما يملك في رحلة محفوفة بالمخاطر، مسلماً أمره إلى الله عز وجل، هذه الظروف كلها، دفعت بتجار البشر من المهربين إلى استغلال حاجة الناس وظروفها، ونقلهم في رحلات سمعنا عنها الكثير، خاصة أولئك الذين غرقوا في البحار، أو ماتوا برداً أو جوعاً، في وقت تمنعهم الأسلاك الشائكة والأسلحة المصوبة إلى رؤوسهم من الدخول لإنقاذ ما تبقى منهم، هذا هو الواقع بكل تجرد.

 

الأزمة البيلاروسية – البولندية

 

مما سبق، يتبين أن الأزمة الجديدة التي نقرأ عنها بشكل مستمر، هي نتيجة مقدمات تحدثنا عنها آنفاً، خاصة وأن المهاجرين والقابعين على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا من دول الشرق الأوسط وآسيا، وتحديداً من (سوريا والعراق، وتركيا وإيران وأفغانستان) لكن كيف بدأ هذا الأمر؟

 

انتشرت الأخبار لشهور في تلك الدول أن أسهل وأسرع وسيلة للوصول إلى أوروبا هي رحلة مباشرة إلى بيلاروسيا، بالفعل الأمر بدأ من هنا، وبحسب الغارديان أن العشرات من طالبي اللجوء السوريين والعراقيين والأفغان في مدينة بياليستوك البولندية الذين تمكنوا مؤخراً من عبور الحدود من بيلاروسيا، فيما "أكد جميعهم أنهم وصلوا عن طريق شراء حزم سفر عرضت عليهم من قبل وكالات السفر وقد يكون ذلك لأهداف سياسية، حيث تسعى حكومة كردستان العراق الآن إلى البحث عن وكلاء سفر متورطين في ما يبدو أنه لعبة سياسية خطيرة، شكلها الظاهر  إصدار روتيني لتأشيرات سياحية، لكنه حقيقةً إتجار بالبشر ودفعهم إلى رحلة محفوفة بالمخاطر، وذلك باستخدام الأسر الضعيفة كوقود للمدافع، فلدى الوصول إلى الأسلاك الحدودية الشائكة بين بيلاروسيا وبولندا، "تتحول الرحلة عادة إلى كابوس"، ومسألة العبور هي مسألة حظ، فالناس في هذه الحالة تتدى المخاطر في سبيل إنقاذ مستقبلها المفقود في بلدانها، فهذا هو هدفهم كمهاجرين، لا يهتمون ما إذا كان هذا الأمر سيخلق أزمة سياسية أم لا، بل يطمحون لتحسين ظروف حياتهم حتى لو كلف الأمر حياتهم.

 

شركات الطيران

 

تطرق الاتحاد الأوروبي إلى وضع شركات الطيران التي تشارك في جلب المهاجرين في القائمة السوداء، كجزء من إجراءات وقف تكدس المهاجرين على طول الحدود مع بولندا وليتوانيا، لكن حتى الآن لا توجد تفاصيل  بشأن الإجراء الذي يمكن اتخاذه، ففي أغسطس/ آب الماضي طلب الاتحاد الأوروبي من السلطات العراقية تعليق جميع الرحلات الجوية من بغداد إلى بيلاروسيا، وهو ما وافق عليه العراق لفترة محدودة، وآخر رحلة بين بغداد ومينسك تم رصدها كانت في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني، وهناك مؤشرات على أنه حتى لو تراجع عدد الرحلات الجوية المباشرة من العراق إلى بيلاروسيا، فإن المهاجرين يجدون طرقاً عبر البلدان المجاورة مثل تركيا أو لبنان للوصول إلى بيلاروسيا.

 

بالتالي إن الواصلين من المهجرين يعيشون في خيام صغيرة مخبأة بين الأشجار بين البلدين، حيث تنخفض درجات الحرارة ليلاً إلى ما دون الصفر، ومصيرهم معلق في رأب الصدع بين وارسو ومينسك، ويوجد آلاف الأشخاص على حدود بيلاروسيا مع بولندا، ويعانون من طقس شديد البرودة على أمل العبور إلى الاتحاد الأوروبي، حيث ضاقت بهم السبل وألقوا الحجارة وحاولوا كسر سياج من الأسلاك الشائكة، المهاجرون ومعظمهم من الشرق الأوسط كما ذكرت آنفاً، هم في الغالب من الشباب ولكن هناك أيضاً نساء وأطفال، ويقيمون في خيام داخل حدود بيلاروسيا. وهم محاصرون بين الحراس البولنديين من جهة والحراس البيلاروسيين من جهة أخرى، وهناك تقارير غير مؤكدة عن وفاة شخصين على الجانب البيلاروسي في الأيام الأخيرة. ولقي سبعة أشخاص على الأقل مصرعهم على الجانب البولندي من الحدود في الأشهر الأخيرة، والعديد منهم بسبب انخفاض حرارة الجسم.

 

من الناحية السياسية، يجب ألا تغامر أوروبا كثيراً وتذهب بعيداً، لأن الشتاء قارس في دولها، وإن غضب الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، وقرر وقف مدها بالغاز القادم من روسيا عبر بيلاروسيا إلى بلادهم، هذا أمر قد يتم تنفيذه في حال فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على مينسك، وهذه أزمة حقيقية بالفعل أثارت مخاوف وقلق الأوروبيين وسط تفاقم نقص الغاز الطبيعي وارتفاع الأسعار في أوروبا، لكن على المقلب الآخر يبدو أن ثمة اجتماع مرتقب يجمع لوكاشينكو وأنجيلا ميركل قد يصل الطرفان إلى حل يخفف من هذه الأزمة.

 

هذه الأزمة لا تقارن بالأزمة التي حدثت أواخر العام 2019، عندما فتحت تركيا حدودها أمام مئات اللاجئين الذين دخلوا اليونان ومنها إلى أوروبا، دون تصعيد من جانبها، ببساطة لأن أنقرة تملك من أوراق القوة ما جعل بروكسل في حالة صمت وطي الملف لا بل أكثر من ذلك، قامت بدفع ما ترتب عليها بعضاً منه أو كله، إلا أن حقيقة الغرب أنهم لا يمدون يد العون لأحد رغم أن شعارات حقوق الإنسان تصدح في كل أروقتهم وقممهم ومؤتمراتهم.

 

أخيراً ومن تجارب الأصدقاء، واهم كل من يعتقد أن الحياة في أوروبا تجلب السعادة، فالغلاء والضرائب الباهظة، والتشدد في القوانين خاصة للوافدين والعرب على وجه الخصوص، لن تحقق الحلم الذي يحلمون به، لكن كفترة مؤقتة لا سبيل لهم إلى إنقاذ أنفسهم، والتفكير بمستقبلهم، لأن المستقبل في المنطقة العربية غير متوفر، ولا يبدو أنه سيتوفر في المدى المنظور، فإن كانت بلادنا تهتم لأمرنا، يجب أن تحمي مواطنيها، وأن تبدأ بإعداد الخطط الاقتصادية، ولطالما كانت بلادنا بلاد الخيرات، فلتعود كما كانت، ولتُبنى بسواعد أبنائها، لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح.