اللغة القرآنية صميم اللغة العربية (2/2)


اللغة القرآنية التي أعرف، كالمفتاح يستطيع أن يمتلكه أي إنسان يريد أن يفهم المقاصد القرآنية، والنص القرآني هو الضابط الحقيقي للغة العربية الجميلة، ومن يريد أن يفهم الشريعة، ما عليه إلا أن يتفقه اللغة العربية عن طريق القرآن الكريم.

 

بالتالي، إن مهمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت مهمةً صعبةً جداً، لأنها كانت معنية  بالدرجة الأولى بتغيير العقول، فإذا استطاع أن يغيّر العقول لتفهم التعاطي باللغة الجديدة أي (لغة القرآن الكريم)، فإنه بذلك قد يكون خلق الجيل المسلم الذي يقوم عليه بناء الأمة والدولة والحضارة على مر التاريخ.

 

من هذه المهمة، ندرك الحكمة الإلهية، في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عندما بدأ الدعوة فتح مدرسة الأرقم بن الأرقم(1) وجميعنا نعلم أن الرسول الكريم لم يقترب من الأوثان أو يحطمها لأنها بكل تأكيد لا تهمه، بل كانت الغاية الأساسية هي تحطيم الأوثان في عقول المؤمنين، فإشهار الإسلام ونطق الشهادتين لا يكفي لأن يتم المسلم كل تعاليمه الإسلامية، فلابد أن يستمر الأمر بالتزكية والتربية والتعليم، حتى يتحقق للمسلم جوهر جديد، لتكون أكبر معجزةٍ حققها رسول الله هي في تخريج هذه المدرسة التي هاجرت معه إلى المدينة المنورة، أيام البعثة.

 

إن لغة القرآن عندما جاءت منذ أول لحظة، جاءت مباينةً تماماً في الدلالات اللفظية بما يستعمله أهل الجاهلية، والآيات الخمس الأولى التي نزلت، شيءٌ آخر يختلف معنىً عما يعرفه أهل الجاهلية، كما في قوله تعالى: (إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم)، لنتأمل جيداً معاني الألفاظ، الله سبحانه وتعالى طلب مطلباً وهو يعرف أنهم لا يقرأون بالمفهوم الجاهلي، وكان رد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، (ما أنا بقارئ)، فالإلحاح هنا على القراءة جاء لتغيير المفهوم السابق بآخر جديد كلياً، ثم قرأ رسالةً على الناس كانت من أثقل أنواع القراءات، قال تعالى: (يا أيها المزمّل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلا)، قول ثقيل وموزون في تاريخ الإنسان الذي تتحدث عنه الآيات، هو وزنٌ هائل، ما يعني أنه تمّ تغيير مسيرة البشرية إلى يوم القيامة.

 

لا شك أن الله تبارك وتعالى منذ أن خلق الإنسان الأول كان قد قدّر فيه أنه سوف يوجد كل الموجودات من نسله وذريته، قال تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً)، ففي كل جيلٍ تظهر صورة للعلم وللإدراك العلمي لهذا الوجود الإنساني في أصله وفي منشأه، ليتغير هذا المفهوم من جيل إلى جيل وهكذا، بالتالي هذا دليل على أن أسرار الله تبارك وتعالى ستظل محيرةً لأعداء القرآن، والله سبحانه وتعالى سيبقى لديه العلم الكامل والمطلق يفيض به بقدر على الإنسان، قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).

 

(وربك الأكرم)، ما مقياس الكرم والأكرم في لغة العرب قبل نزول القرآن الكريم؟ لقد كان أقصى حالات الكرم تجدها في الأمثال التي ضُربت على كرم حاتم الطائي (2)، فلو قيل إن حاتم الطائي أكرم العرب، جميعنا يعلم أن لهذا الكرم حدوداً هي أقصى ما يتصوره العربي في ذلك الزمان، فالآية (إقرأ وربك الأكرم) فإن حدود الأكرمية هنا لا حدود لها، لأن العقيدة الإيمانية لا تقتصر على اعتبارات الدنيا وإنما تمتد إلى الآخرة، وجميعنا يعلم ما ينتظر المؤمن من نعيمٍ في الجنة، وعندما يرى المسلم هذا النعيم، سيقولون حتماً (ما رأينا نعيماً قط كهذا)، قال تعالى: (ورضوانٌ من الله أكبر من مساكن طيبة في جنات عدن)، فمع كل آيةٍ مباركة في تفسيرها يتسع اللفظ إلى ما شاء الله لكن في عقائد وصدور المؤمنين، وغير المؤمنين لا يفهمون هذه الدلالات العميقة والواسعة، أما المؤمن فلا نهاية لمدلول اللفظ القرآني في إيمانه وفي إدراكه العقلي على حدٍّ سواء.

 

لنتحدث هنا قليلاً عن الموجودات التي تحدث عنها القرآن، ففي لفظة جنة، كانت الجنة في عُرف أهل الجاهلية، روضة من الرياض المنتشرة كالواحات وما شابه ذلك، القرآن تحدث عن الجنة بمفهوم الجاهلية، وتحدث عنها بمفهوم الإسلام، وبين الجنتين كحبة رملٍ وكل الكون، قال تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون)، بالتالي، الجنة في الجاهلية محدودة المساحة كحائطٍ أو حديقةٍ او بستان، ولم تُستعمل في ذلك الزمان إلا بهذا الحجم المحدود، أما الجنة في القرآن الكريم، فحجمها هائل، عرضها السماوات والأرض، وليست هي السماوات والأرض، وكبر الجنة واتساعها غير معلوم، لا يتحدد إلا من خلال إيمان المؤمن، لأن لغة الأرض أوجدت معاني كثيرة والله تبارك وتعالى شرّف هذه اللغة بأن حدد المعاني المقصودة، اللانهائية الغيبية.

 

 بالتالي إن الحرب على القرآن الكريم بدأت منذ البواكير الأولى لنزول كتاب الله واندلعت نارها مع أول مجابهة مع الوثنية، واستمرت المعركة تشتد حينا وتهدأ حينا آخر، ومن الهجمات الشرسة التي تعرّض لها القرآن الكريم زمن الحروب الصليبية تأليف بعض المستشرقين كتاباً بعنوان: (دحض القرآن الكريم) كما قاموا بترجمة ألفاظ القرآن الكريم (وليس معانيه) إلى اللغة اللاتينية كمدخل إلى التحريف والتشويه وماتت كل هذه الجهود وبقي القرآن الكريم مصوناً محفوظاً من كل سوء، أما الهجمة المعاصرة على القرآن أشد ضراوة من كل ما سبق وذلك من خلال تجنيد أسلحة جديدة مثل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث، وسيظل الصراع دائراً بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وتلك سنة الله في خلقه. وكان للعلماء في كل عصر جهد مشكور في دفع هذه الشبهات ودحض هذه الافتراءات.

 

يقول العلامة الكبير محمود شاكر (3) لم يكن غرض العدو أن يقارع ثقافة بثقافة أو أن ينازل ضلالاً بهدى أو أن يصارع باطلاً بحق أو أن يمحو أسباب ضعف بأسباب قوة، بل كان غرضه الأول والأخير أن يترك في ميدان الثقافة في العالم الإسلامي جرحى وصرعى لا تقوم لهم قائمة، وينصب في أرجائه عقولاً لا تدرك إلا ما يريد لها هو أن تعرف، فكانت جرائمه في تحطيم أعظم ثقافة إنسانية عرفت إلى هذا اليوم، كجرائمه في تحطيم الدول وإعجازها مثلاً بمثل، وقد كان ما أراد الله أن يكون وظفر العدو منا بما كان يبغي ويريد.

 

بالتالي، من يستعرض تاريخ القرآن الكريم عبر الزمان والمكان يجد أن من بين خصائص هذا الكتاب التي تصل إلى حد الإعجاز أنه كلما اشتد الهجوم عليه من معارضيه ومنكريه ازداد القرآن تألقاً وقوة، فحقائق القرآن الخالدة تدحض الزيف والافتراء وكل ما يثيره أعداء القرآن من شبهات، الآن يتعرّض كتاب الله لهجمات شرسة على مستوى الأفراد والمؤسسات العلمية والاجتماعية بل وعلى مستوى الأمة والدولة بإثارة الشبهات، لكن الحقيقة التي نؤمن بها هي أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد من بين الكتب السماوية الذي يحفظه أهله في صدورهم عن ظهر قلب، وهذه النسخة الفريدة المحفوظة في الصدور، والتي يتم تناقلها بين المسلمين تلاوة عن طريق التلقي شفاهة، هذه النسخة لا يمكن أن تمسها يد التحريف والتزييف من الأعداء وهذه النسخة المتفرّدة في صدور الحفظة تبطل كل الجهود التي تبذل لتحريف نسخة المصحف المكتوبة.

 

قال تبارك وتعالى: (إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون).

 

لم يتوقف الأمر هنا، في الآونة الأخيرة هناك من يعبث أيضاً بتفاسير القرآن، وحتى تلاوته، بعيداً عن مُراد الله تعالى، وهذا منزلق خطير علينا التنبيه بشأنه، فإن لم نفهم لغة القرآن كما فهمها سلف الأمة الصالح، جيل آل البيت والصحابة والتابعين، وتابعي التابعين تلك مشكلة، فعلى سبيل المثال، فهم جيل الصحابة القرآن وفقهوه، لذلك لم يتجاوزوا حفظ العشر آيات، رغم أن الحفظ كان مألوفاً في زمانهم، لكن لم يفعلوا ذلك حتى يتدبروا الآيات ويفهموها ومن ثمّ يحفظونها، قال تعالى: (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها)، بالتالي، إن التدبر مهم لفهم الشريعة الإسلامية، لأن الكثير ممن يثيرون الشبهات أو يسيرون على خطى المستشرقين ويشككون في القرآن والسنة النبوية الشريفة سيوقعون الكثير في الخطأ، وبالتالي سيكونون بلا هداية أو لا انصياع أو لا تدبّر رغم إسلام هؤلاء يجب أن يفهموا لغة القرآن الكريم لتتوضح الصور وتنجلي.

 

وكما بدأت أختم، من غير فهم اللغة العربية لن نفهم الشريعة الإسلامية ولن نفهم مقاصد القرآن الكريم ولا مراد الله تبارك وتعالى، فالقرآن لغة حياة بالنسبة للمؤمنين، وهو سلوك حياة ومعين وترياق الحياة، وهو منهجنا في الحياة، لنتدبر القرآن وألا نحوله كما لوكان فلكلوراً، فلو كنا نفهم لغتنا بصدق وبعلم حقيقي لطان سلوكنا جميعاً قرآني، كما في قول السيدة عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: كان خلقه القرآن، وكما قال تعالى: (وإنك لعلى خلقٍ عظيم)، وكذلك الأنبياء والصالحين لأنهم عاشوا مع القرآن، بالتالي علينا العودة إلى الثقافة القرآنية وأصر على ذلك، إلى جانب التعمق باللغة العربية وحبها لأنها لغة قرآننا الكريم، لكي نعيش السلام الداخلي والخارجي وبمحبة كما أراد الله تبارك وتعالى، وهذا مهم لنا جميعاً وخصوصاً لطلاب العلوم الشرعية والقانونية، وأتمنى عليهم وبخاصة طلاب القانون حتى من غير المسلمين، ليتمسكوا بالنص القرآني الأساسي.

 

*كاتب ومفكر – الكويت.

 

  1. الأرقم بن الأرقم: أبو عبد الله الأرقم بن أبي الأرقم عبد مناف بن أسد المخزومي صحابي من السابقين الأولين في الدخول إلى الإسلام. اتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من دار الأرقم مقراً للدعوة بداية الإسلام. وقد هاجر الأرقم إلى يثرب، وشارك مع النبي محمد في غزواته كلها، (590م – 673م).

 

  1. حاتم الطائي: حاتم الطائي شاعر عربي جاهلي وأمير قبيلة طيء اشتهر بكرمه واشعاره وجوده ويقال: إنه أكرم العرب، (578م).

 

  1. محمود شاكر: أبو فهر محمود محمد شاكر أديب مصري، دافع عن العربية في مواجهة التغريب. اطلع على كتب التراث وحقق العديد منها. أقام منهجه الخاص في الشعر وسماه منهج التذوق. خاض الكثير من المعارك الأدبية حول أصالة الثقافة العربية، ومصادر الشعر الجاهلي، (1909 – 1997).