سوريا ولبنان... انتصار التاريخ والجغرافية
المتابع الحقّ لنمط وماهية العلاقة السورية اللبنانية، يُدرك بأن هذه العلاقة لا تُعد من القضايا المعقدة، ولا يُمكن لعلاقة تحكمها جُزئيتي التاريخ والجغرافية، أن تُقطع جراء تجاذبات سياسية، ظللت المشهدين السوري واللبناني، وبذات التوقيت، فإن السياق العام لعمق العلاقة السورية واللبنانية، يؤسس لمعادلة لا تؤطرها أي تحديات أو أزمات، ودليل ذلك، تداخل التاريخ مع الجغرافية، الأمر الذي يُعد تعميقاً لتلك العلاقة على المستويات كافة.
مع بداية ما يُسمى الربيع العربي، دأبت واشنطن ومحورها، علي تقطيع أوصال الجغرافية، ووضع التاريخ ضمن بوتقة الأجندة الأمريكية، بمعنى، أن الإدارة الأمريكية وضمن ما يتسق مع خططها في المنطقة، أوزعت لمحورها في لبنان، بالعمل على تعميق الخلاف مع سوريا، لسببين أحداهما استهداف العمق الإستراتيجي للمقاومة اللبنانية، والآخر، وضع الدولة السورية أمام اختبار مفصلي لجهة نسف علاقتها مع عموم لبنان، والبحث عن طريق يوصل دمشق إلى البيت الأبيض، لكن القيادة السورية، أدركت وبشكل مسبق، جوهر الخطة الامريكية، وأبقت أبواب دمشق مُشرعة لأشقائها في لبنان، دون المساس بعمق العلاقة السورية اللبنانية، والتي كانت في حالة استرخاء سياسي إن صح التعبير، على الرغم من عديد المحاولات، والتي ارتكزت على ضرب واستهداف الدولة السورية من الداخل.
كما ذكرنا، فإن العلاقة السورية اللبنانية، يتداخل فيها التاريخ مع الجغرافيا، والمصالح مع العواطف، والمعطيات السياسية المحلية مع البيئة الاقتصادية العالمية والإقليمية، لكن، يُمكن تلخيص كل هذه العوامل في مستويين إثنين:
الأول- سياسي - اقتصادي آني، يرتبط بتلمس آفاق العلاقات بين البلدين.
الثاني- تاريخي - إستراتيجي بعيد المدى، له علاقة بالديناميات التي تتحكّـم بطبيعة العلاقات بين هذين البلدين التوأمين، اللذين وصفهما الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بأنهما "شعب واحد في دولتين".
الرئيس بشار الأسد، وإبان استقباله وفداً لبنانياً في وقت سابق، قال "ما معنى النأي بالنفس وكيف للواحد أن ينأى بنفسه عن نار تأكله، هذه النار تحرق كل الجسم كيف يمكن لك ان تنأى بنفسك عنها. فاذا لم نقل العامل التاريخي هناك العامل الجغرافي."
وعطفاً على رؤية وقراءة الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكذا الرئيس بشار الأسد، وبكلمات أوضح، فأنه لا يُمكن لأي محاولات أمريكية، وأيّ قوانين حصار جائرة، أن تقطع الطرق بين دمشق وبيروت وبالعكس، وإن شهدت هذه العلاقة فتوراً سياسياً جراء تحاذبات سياسية لبنانية، لكن الحقائق التاريخية والجغرافية لا تُمحى بمحاولات أمريكية بائسة ويائسة، وإن فسدت السياسية، فإن الاقتصاد يبقى حاضراً وبقوة بين البلدين، الأمر الذي من شأنه إعادة الحياة للسياسة بين البلدين.
بالتالي، ومن بوابة الاقتصاد والمستجدات التي فُرضت أمريكياً وسعودياً على لبنان واللبنانيين، كانت الرئة السورية بمثابة المتنفس الوحيد، ما يعني، أن زيارة الوفد اللبناني إلى دمشق، والأجواء الايجابية التي سادت المباحثات بين الجانبين السوري واللبناني، قد يضع البلدين مجدّداً على سكّـة التكامل والاندماج، وفي العمق، فإن قدر هذين البلدين أن يلتقيا أبداً، وهذا القدر لا مفر منه.
من المهم أن نذكر ما قالته إليزابيث بيكارد، مديرة مركز الدراسات العربية والإسلامية في باريس: "منذ أن برز لبنان وسوريا كدولتين مستقلّـتين، كان واضحاً أن الاقتصاد الذي وحّـد بينهما لقُـرون طويلة، ستكون له اليد العُـليا في كل التطورات بينهما وأن الاعتماد المتبادل بينهما، المستند إلى الاستمرارية الجغرافية والاقتصادات الحديثة، سيستمر بشكل حثيث".
حقيقة الأمر، إن الزيارة اللبنانية إلى دمشق، أكدت المؤكد، بأن دمشق وبيروت عنوانًا لا يُمكن كسره، وأن عمق الروابط بين البلدين، سيبقى حاضراً عند أي استحقاق بمعناه الجيو استراتيجي، وهنا نقول، بأن هذه الزيارة وبعناوينها، ما هي إلا تمريس حقيقي وواقعي، للعلاقات العميقة بين البلدين، كما أن سوريا ولبنان هما نواة لأمة واحدة، وتكتل سياسي واقتصادي واحد، ولا نبالغ إن قلنا، أنه من الضروري أن تُلغى الحدود تماماً بين سوريا ولبنان، وأن تُغلق السفارات، وأن تندمج الاقتصادات بين جغرافيتهما، بدل أن يذهب البعض في لبنان إلى الشحاذة من واشنطن ومحورها.
في ذات الإطار، وعطفاً على عمق العلاقة السورية اللبنانية، هُندست معادلة المقاومة، لتكون عاملاً إضافياً يُعزز تلك العلاقة، خاصة أن الضرورات التي فرضتها الوقائع المحيطة بالموقع الجغرافي لكل من سوريا ولبنان، أرخت بمعطيات جديدة، كان لابد من التعامل معها، وفق رؤية استراتيجية جديدة، وهي تدخل في صلب استراتيجية المقاومة، لا سيما أن الحصار الذي فُرض على سوريا، له منعكسات على لبنان، وبالتالي دأبت المقاومة اللبنانية، على استثمار أوراق قوتها، في فرض معادلة أجبرت الإدارة الأمريكية، على قلب الوقائع، وتقديم تنازلات كان عنوانها الأبرز، انكسار الحصار، الأمر الذي أعطى بُعداً ذات أبعاد استراتيجية لجهة زيارة الوفد اللبناني إلى دمشق، وبلا ريب، هي زيارة ستتبعها زيارات أُخرى، ستعمل في أطر تعزيز التعاون وتعميق التحالفات.
والحقيقة التي لا ليس فيها، أن مسألة العلاقات بين لبنان وسوريا، هي قضية ضاربة في التاريخ والجغرافية، والرسائل التي وصلت للجميع من خلال زيارة الوفد اللبناني إلى دمشق، رغم كل الفتور الذي شهدته تلك العلاقات، ورغم معارضة بعض الأفرقاء اللبنانيين، ورغم كل المحاولات لقطع العلاقة السورية اللبنانية، إلا أن معادلة التاريخ والجغرافية التي تربط دمشق وبيروت، لا يُمكن لأي أجندات أن تكسرها.
التعليقات