اللغة القرآنية صميم اللغة العربية (1/2)


اللغة العربية من أثرى لغات العالم جمالاً وتعبيراً، عدا عن أنها من أصعب لغات العالم وأقدمها، وما زادها قيمة وأهمية، أن الله تبارك وتعالى، كرّمها عن سائر اللغات الأخرى واصطفاها لتكون لغة القرآن الكريم.

 

من هذه المقدمة سندخل في صُلب موضوعنا مباشرةً، لنوضح جمال لغة القرآن الكريم، قوةً وبلاغةً وفصاحةً، بياناً وسحراً، هذا الموضوع بعرفه الجميع، وكتب عنه كثيرون، لكن يتجدد في كل مرة، لأن في كل مرة نشعر بأن له مذاقه الخاص، نجده لدى ذواقة اللغة وعلمائها العرب، خاصة اللغة القرآنية وإعجازها الذي هو عبارة عن آيات الله تعالى إلى نبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كذلك المعجزات التي أيّد بها النبيّون من قبله، هي آياتٌ بيّنات، وما كان لبشرٍ أن يستطيع أن يأتي بمثلها، وهذا بحد ذاته إعجازاً، رغم عدم ورود كلمة إعجاز أو معجزة في القرآن الكريم، وهذا نوع من تخصص الدلالة في الألفاظ الإسلامية على مر العصور.

 

وتم تناول الإعجاز القرآني من جوانب عدّة، أشهرها الإعجاز البلاغي، وأحدثها الإعجاز العلمي، ومن المعلوم أن القرآن الكريم في إعجازه قدّم حلولاً لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها، فكان القرآن في كل جوانبه، وبما يؤمن المؤمنون به، إعجازاً دائماً ومستمراً وشاملاً، لكن ما يعنينا هنا، الإعجاز البياني، الذي شكل ولا يزال يشكل تحدياً خاصة لمعارضيه، كما في قوله تبارك وتعالى: (فأتوا بسورةٍ من مثله)، وكما في قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله)، وفي مقصد الإعجاز البياني، كتب الأستاذ والمحقق الكبير محمود شاكر(1)، في مقدمة كتابه الرائع لـ "مالك بن نبي"(2)، بعنوان "الظاهرة القرآنية"، حيث لم يكتب في كتابٍ آخر عن ذلك، عندما لمس بأن بن نبي يتجه نحو تأكيد إعجاز القرآن العلمي، فرأى أن هذه الوجهة لا تسمى إعجازاً ولا يُطلق عليها اسم إعجاز، وأصر على أن وجهة الإعجاز التي يؤكدها دائماً القرآن، هي البيان، ومن ثم يرى بأن الإعجاز البياني في القرآن، هو مناط التحدي الذي يوجه إلى كل من يعترض على القرآن الكريم.

 

بالتالي، إن جانب البيان، ليس جانباً سهلاً، فكل من كتب حول ذلك قاربَ، لكن لم يستطع أن يمس الجانب البياني بشيء، أو حاولوا ولم يتحققوا من شيء، كذهابهم إلى دراسة التشبيه والاستعارة والكناية وغير ذلك، لكن ما من أحدٍ استطاع كشف سر البيان القرآني، وهذا هو الإعجاز، ولم يتوقف الأمر عند محمود شاكر، بل حاول أيضاً الشهيد سيد قطب(3) الكتابة عن ذلك عندما بدأ محاولته في دراسة الصورة البيانية بشكلٍ عام وشامل، يحاول أن يستوحي تجسيداً للصورة البيانية من كلمات القرآن ومن وسائله التعبيرية، فجاءت في كتاب "التصوير الفني في القرآن" بما يتضمنه من مشاهد القيامة، ودراساتٍ في ظلال القرآن، بما يتعلق بكل ما قُدّم في القرآن من صورٍ شاملةٍ، بالتالي من الممكن اعتبار ما سبق محاولات في إدراك مفهوم البيان الذي هو نعمة من نعم الله تبارك وتعالى، كلاماً أو تعبيراً، كما في قوله تعالى: (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان)، والخلق والبيان نعمتان من أجلّ النعم التي يمتنّ بها الله تبارك وتعالى على عباده.

 

أيضاً، وللراحل مصطفى صادق الرافعي(4)، الكاتب الإسلامي الكبير، كتاب كبير عن إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مما ورد فيه عندما تكلم عن آياتٍ منزلةٍ من حول العرش: (فالأرض بها سماءٌ هي منها كواكب، بل الجند الإلهي قد نُشِر له من الفضيلة علمٌ وانضوت إليه من الأرواح مواكب، أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها، وامتنعت عليه أعراف الضمائر، فابتز أنفالها، وكم صدوا عن سبيله صداً، ومن ذا يدافع السيل إذا هدر؛ واعترضوه بالألسنة رداً، ولعمري من يرد على الله القدر؟)، إلى أن وصف القرآن بهذا النص الجميل: (ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها وتذكر الآخرة فمنها جنتها وضرامها، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعَد من حمى القلوب)، ولا شك أن للكاتب في هذه العبارات هدفاً يعبّر عنه بطريقته المميزة والفريدة حيث لم يستطع إلى الآن أحد أن يقرأه بشكلٍ تام، كما وصف أسلوب إعجاز القرآن، الذي هو مادة الإعجاز العربي في كلام العرب كله.

 

والقدماء ركزوا فيما يتعلق بالإعجاز اللغوي على الكلمة وتكوينها وتأليفها في الجملة، وعلى تأليف النظم وتعلق بعضه ببعض، وعلى الروح التي تشيع في أجزائه فتحيلها معجزة واحدة على تفاوت ما بينها زماناً ومكاناً، وهذا دلالة على أن القرآن الكريم الذي نُجّم في تنزيله مدة 23 عاماً، فتجد أوله كآخره لا يتفاوت ولا يمكن أن يوصف بعض الكلام بأنه متقدم على بعض أو أن بعضه أنقص من بعض، بل تجد في كتاب الله أنه يتنافس في الكمال، فقد بدأ كاملاً، وانتهى كاملاً فيما يتعلق بوصف الإعجاز، وهذا في حد ذاته معجزة إلهية، فمثلاً من يجلس في تأليف كتابٍ لعدة أعوام أو عامٍ أقل أو أكثر، ويعيد قراءاته، تجد أنه قد يحذف بعضاً منه ويجدد بعض فقراته ويضيف ويُلغي، ليصل إلى مبتغاه، لكن مع القرآن الكريم، تحقق الكمال ولم يُنظر في آية من آياته، التي نزلت كاملة من البداية إلى النهاية، في سنوات حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا التوجه إلى اللفظ، هو توجه إلى وجه فني، أي مواءمة الألفاظ بعضها بعضاً، كلمات وجملاً، وأن الإيقاع متوفر سواء كان موسيقياً أم داخلياً، وهذا موجود في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال ربّ إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن ربّ بدعائك شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا)، فالشعور هنا في القراءة إنما هو شعور إيقاعي يهتز له الوجدان، وارتقاء في الأفكار من خلال الصياغة والترتيب، التي تبنى عليها الآيات الكريمة.

 

كذلك تابع القدماء دراسة الفواصل، التي لها جرس موسيقي رائع، تميز به القرآن، كبعض الآيات التي تسير بفاصلةٍ يائيةٍ مشددة، كما في سورة مريم، التي وفرت للسورة جواً موسيقياً لا يستطيع أحد إنكاره، أيضاً سورة الرحمن التي تسير على فاصلة النون بشكلٍ يهتز له الوجدان من خلال التزاوج بين النون وبين الميم، بالتالي إن دراسة القدماء فيما يتعلق بالإعجاز اللغوي توفرت كما أشرنا على اختيار اللفظ، وعلى وضع اللفظ في الجملة، وعلى أنساق الجملة، وعلى فواصل الآيات ونسقها، وهذا كله يُعتبر جانباً لغوياً، لكنه يغفل جانباً آخر لم يأتِ أحد عليه، لكن على سبيل الاستقصاء، فاللغة لفظ ومعنى، يقول القدماء: (إن المعاني مُلقاةٌ في الطريق، وإنما يتفاضل البلغاء باختيار الألفاظ)، فهذه المسألة لا تتفق وأصلاً لا تصدق فيما يتعلق بالقرآن الكريم، الألفاظ في القرآن الكريم هي ألفاظ مأنوسة يستعملها كل الناس في معانٍ لا يعرفها الناس، ولا يتطرقون إليها، ولا تقع في تصوراتهم، وهذا هو الجانب المحيّر للذين يعارضون القرآن، ففي محاولاتهم الكثير إلى سبر أغور ذلك، لا يصلون إلى شيءٍ، فلا هو بشعر وليس بسجع، إذاً فهو سحر، من خلال العملية الهائلة التي أحدثها القرآن في صميم اللغة العربية، فقلب اللغة العربية رأساً على عقب.

 

اللفظ القرآني لا يُستعمل في لفظٍ جاهلي، وإنما يأتي بمساحةٍ في الدلالة، أوسع وأرحب من أي استعمالٍ جاهلي سبق، وهذا هو الجانب الدلالي الذي يُعتبر من أصعب بحوث الدراسات اللغوية، فلا تجد أحد يقتحم باب الدلالة لأنه صعب جداً بما يتعلق بالقرآن، فالقرآن نزل في الجزيرة العربية التي كان أهلها مقتدرين في استعمال اللغة العربية فكان منهم الشعراء والأدباء والخطباء والبلغاء، فكان القرآن الكريم مبايناً لهم خاصة في العقيدة التي تباين الكلام الجاهلي، فقد كان العرب في وضعٍ دينيّ ماديّ، يعبدون أوثاناً يعتقدونها آلهة، أو كالأديان الأخرى وكما تذكر الكتب اللاهوتية أن الله سبحانه وتعالى شخص، وكانت تلك حدود التفكير اللاهوتي أو العقائدي، فكان مجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحول أولئك من حالة فكرية كانت تهيمن على العقول وعلى لغة العقول، وتهيمن على الألفاظ وعلى معانيها، كان يجب أن يجاهد في سبيل تغيير هذا الوضع الذي يمس الحقيقة الإنسانية لدى الإنسان الجاهلي، لتصبح لغة التفكير، لغةً أخرى من معدن القرآن الكريم، فهذه هي المهمة التي انتُدب لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

بالتالي، هذا جانب من جوانب الإعجاز اللغوي، وإعجاز القرآن الكريم، قديماً وحديثاً بعض الشيء، فرغم توفر الأدوات، ونماء العقول، التي يجب أن تسير على هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من خلال كتاب الله العزيز الذي أوجد حلولاً حتى نهاية الحياة، لكن ابتعد العالم اليوم عن اللغة القرآنية، واستبدلوها بلغاتٍ أخرى لن أقول مبتذلة، لكنها من رحم أم اللغات، ومن الأرض العربية، وجميلٌ أن نتعلم لغات الآخرين، لكن ألا نفضلها على اللغة الأم التي هي فخرنا ولغة نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، هي تراثنا، ماضينا وحاضرنا، هي لغة قرآننا، فالهجمة كبيرة علينا اليوم من خلال حرف عقول العرب والمسلمين عن ثوابتهم ومبادئهم، لإضعاف الأمة التي بدأت بالتمزق، فإن لم نتعظ ونصحو، سنخسر ولن تنفع ساعة الندم حينها، لنرجع إلى القرآن الكريم، ولنهتدي بهدي النبي، ونحن الظافرون.

 

*كاتب ومفكر – الكويت.

 

  1. محمود شاكر: أبو فهر محمود محمد شاكر أديب مصري، دافع عن العربية في مواجهة التغريب. اطلع على كتب التراث وحقق العديد منها، (1909 – 1997).
  2. مالك بن نبي: من أعلام الفكر الإسلامي في القرن العشرين. يُعدّ المفكر الجزائري مالك بن نبي أحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين، (1905 – 1973).
  3. سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي كاتب وشاعر وأديب ومنظر إسلامي مصري، (1906 – 1966).
  4. مصطفى صادق الرافعي: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي العمري، معجزة الأدب العربي، (1880 – 1937).