حرب غزة في الميزان الجيوسياسي وحسابات القوى الإقليمية والدولية


حرب غزة في الميزان الجيوسياسي وحسابات القوى الإقليمية والدولية

على أرض الثوابت، دائماً ما تتغير عناوين الحروب، وتفرض بتغيراتها، وقائع ومُعطيات جديدة، تتمحور حول حسابات القوى الإقليمية والدولية، والظروف والمعادلات التي عادة ما تُنتجها الحروب، وبطبيعة الحال، فإن حرب غزة بأيامها الإحدى عشر، فتحت باب التساؤلات والتأويلات على مصراعيه، ليس فقط لجهة الخسائر المادية أو البشرية فحسب، بل ثمة الكثير من المعاني الإستراتيجية التي فرضتها حرب غزة الأخيرة، والتي تأتي في إطارين، إحداهما القدرة الهجومية والتكتيك الدقيق الذي تمتعت به الفصائل الفلسطينية، في استخدام منظومات صاروخية متطورة، وكذا إدارة أيام الحرب، والأخر، يرتكز على جُملة المعادلات الجديدة، التي سترسمها بلا ريب، نتائج الحرب على غزة.

أثناء الحرب على غزة، بدا مستقبل المنطقة عموماً، وقضية فلسطين على وجه التحديد، وكأنه كتاباً مفتوحاً، يحتوي على صفحات بيضاء، تُملئ من كل طرف، وفق ما يتصوره أو يوافق رغباته، لكن حقيقة الأمر، فإن حرب غزة، وما شهدته من تكتيكات مختلفة في الشكل والمضمون، ومعادلة البرج بالبرج، فضلاً عن الحسابات السياسية لكل طرف، كل ذلك بالقطع لن يقود إلى النصر الكامل لطرف على حساب الأخر، لتبدو مصطلحات النصر بالضربة القاضية، أو تسجيل نقاط مُتقدمة على الأخر، بعيدة عن مضمون الحرب على غزة، خاصة أن عناوين هذه الحرب، تُحقق لكل طرف انتصار محدود، وخسارة محدودة بالمعنى السياسي، لكن في عمق ذلك، وبمعادلة تطال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يحضر قوياً ما قاله، أوتو فون بسمارك، رئيس وزراء مملكة بروسيا بين عامي 1862 و1890 "ويل لرجل الدولة الذي لا تكون حججه في نهاية الحرب مقنعة كما كانت في بدايتها".

في جانب موازٍ، لا يُمكن مناقشة الحق الفلسطيني، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، لكن في حرب غزة، بدا واضحًا أنه ثمة تساؤل يتسق وعمق مضمون جولة التصعيد الأخيرة؛ هو تساؤل ينطلق من محددات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والذي عادت أبجدياته وعناوينه بقوة، عندما تمكنت المقاومة الفلسطينية، من إيصال صواريخها إلى عمق الأراضي المحتلة، وهذا بطبيعة الحال يطرح أسئلة عن كيفية إدارة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وحسابات الموازين والظروف والمعادلات في الداخل والخارج، وسط التضحيات الهائلة التي قدمها ولا يزال يقدمها الشعب الفلسطيني؛ نتيجة لذلك، يجب أن تقود التضحيات إلى تغيير الواقع الاحتلالي، والحصول على الحق الفلسطيني، أو أن تبقى في ذات المأزق، جراء حسابات بعض الدول الإقليمية، والتي تتخذ من فلسطين والقدس وشعار تحريرهما، عنواناً لسياستها وأجندتها في المنطقة.

ضمن الأهداف القريبة لجولة التصعيد الأخيرة، فإن إسرائيل نجحت في ترسيخ هدنة جديدة، وبصرف النظر عن ظروفها والتدخلات الإقليمية، والضغوط الدولية، التي تمخضت لتُولدَ هذه الهدنه، إلا أن اسرائيل حددت أهدافها القريبة من جولة الحرب الأخيرة، بلسان نتنياهو الراغب في أن تَخلط الحرب الأوراق السياسية لجهة تأليف الحكومة، أما فيما يطمح إليه نتنياهو، فإنه يرتكز وفق رؤيته، على إعادة الهدوء والأمن إلى القدس والمستوطنات، وإجبار حماس والجهاد الإسلامي على دفع ثمن ما سببته صواريخ المقاومة، فضلاً عن محاولات استعادة الردع،  وهذا باختصار ضمن الحلم السري لإسرائيل.

في المقابل، فإن غزة أيضاً، حددت أهدافها القريبة بلسان إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ حماس، الذي يضع تحرير فلسطين كهدف نهائي، ويرغب بحل على مستوى التضحيات والبطولات، وليس من الأسرار ما في الحسابات السياسية لـ حماس وإيران، من تركيز على الملف النووي، كما على القدس كرمز للصراع مع إسرائيل، على المستويين العربي الإسلامي، ومن ربط قضية فلسطين بمحور المقاومة الذي تقوده إيران.

بين هذا وذاك، بدت كل الحسابات الإقليمية والدولية، وحتى على مستوى الداخل الفلسطيني، تصب مباشرة على أعتاب القضية الفلسطينية، دون الغوص عميقاً في مسار الحل النهائي، ووفق ذلك، يبدو أن مقاربات الصراع قد تبدلت، وبدت السلطة الفلسطينية ضمن إطاريّ الحرج والتهميش، أما وزراء الخارجية العرب، فقد عقدوا افتراضياً جلسة طارئة تتعلق بمجريات التطورات في غزة، وضعوا كالعادة القضية في أيدي المجتمع الدولي، وطالبوه بتحمل مسؤولياته، والمجتمع الدولي يلعب كالعادة ورقة وحيدة هي الدبلوماسية، والحضّ على وقف النار وبدء الحوار، وهذا يُثبت بالقطع، المقاربات الجديدة والتي تنطلق من مُحددات ثلاث، أولها أن العرب ليسوا جاهزين للدخول في صراع وحرب شاملة مع إسرائيل، وثانيها أن القوى العظمى تبحث عن مناخ تسوية شاملة، لكل مفردات الصراع العربي الإسرائيلي، وثالثها الأهم، أن اللعبة الوحيدة في العالم اليوم ، تتعلق بمفاوضات فيينا والاتفاق النووي مع إيران، ولا أحد يريد تعكير صفو اجتماعات فيينا، بصراع يبدو غالباً أنه محسوم النتائج مع إسرائيل، والأهم في كل ذلك، أن فلسطين لم تعد قضية مركزية، إلا في الشعارات ولغة الخطابات.

ضمن هذا الجو، وعطفاً على معطيات حرب غزة، فإن أميركا وروسيا والصين وأوروبا، لا يُريدون أي أحداث وتحديات جديدة، تُعرقل عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي، وعودة طهران من جديد إلى بنود الاتفاق، لكن وفق شروطها، وقوتها الإقليمية المتنامية، في هذا الإطار، فإن لإسرائيل حسابات مزدوجة؛ بعضها عام، وبعضها شخصي يتعلق بسعي نتنياهو للبقاء في السلطة، والتملص من الإدانة في المحاكمة الجارية بتهمة الفساد والرشوة، وإسرائيل بالقطع ضد الاتفاق النووي، ولا نبوح سراً، إن قلنا أن لإيران أيضاً حسابات معقدة، تُجاه الاتفاق النووي، وكذا تُجاه فلسطين المحتلة، اذا تحاول إيران عبر طرق دبلوماسية،  الضغط على أميركا لتضغط على إسرائيل، لكن من المؤكد، أنه ليس بينها أي توجه نحو حرب شاملة.