الطبقة الحاكمة ليست ديمقراطية: استبدال النواب انموذجا
تنوعت اهتماماتي/ اهدافي السياسية مع تتابع مراحل عمري الزمنية.
بين عامي ١٩٦٦ الى ١٩٩٠ كان الهم الاول المزدوج هو اسقاط النظام القائم واقامة الدولة الاسلامية باجتهاد السيد محمد باقر الصدر.
من عام ١٩٩٠ الى عام ٢٠٠٣، كان الهم المزدوج هو اسقاط النظام الدكتاتوري وبناء الديمقراطية في العراق.
من عام ٢٠٠٣ الى عام ٢٠١٦: المساهمة في بناء الدولة العراقية الجديدة بالحد الادنى الممكن وفق التصورات الحضارية المتوفرة اسلاميا وديمقراطيا.
منذ عام ٢٠١٦ والى اليوم: الدعوة الى اقامة الدولة الحضارية الحديثة والتنظير لها.
والرابط بين هذه الهموم هو الافكار الحضارية التي طرحها الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر وامتداداته الفكرية على يد الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين والامام السيد محمد حسين فضل الله. هذا فضلا عن الطروحات الحضارية المتقدمة للامام السيد السيستاني، مع هامش واسع من حرية التفكير والتطوير في ضوء الفكر التنويري ورواده امثال جان جاك روسو ومونتسكيو وفولتير وماركس وجون راولز واخرين كثيرين.
ولكن الامال والمساعي الى اقامة الديمقراطية في العراق، وهي المرتكز الثاني من ركائز الدولة الحضارية الحديثة، تعرضت لانتكاسة وخيبة امل كبيرة على يد الطبقة السياسية واحزابها الاسلامية والعلمانية والعربية والكردية والسنية والشيعية، التي استلمت مقاليد الامور بعد عام ٢٠٠٣. ومهما تعددت الاسباب في تفسير هذه الانتكاسة، فان السبب الاول كان وما يزال هو عدم ايمان، وعدم فهم، الطبقة السياسية الحاكمة للديمقراطية ومبادئها والياتها، رغم ان الدستور الذي وضعته هذه الطبقة ينص على ان العراق دولة ديمقراطية ويمنع "سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطية"، حسب المادة الثانية منه.
وتجلى عدم ايمان وفهم الطبقة السياسية للديمقراطية في مجمل تصرفات الطبقة السياسية منذ توليها الامور حتى الان، ومن هذه الامور تشريعها لقانون استبدال النواب في حالة الوفاة او الاستقالة او اي سبب يؤدي الى شغور المقعد النيابي.
وقد عالج الدستور هذه المسألة في المادة ٤٩ / خامسا بالشكل التالي:"يقوم مجلس النواب بسنِ قانونٍ يعالج حالات استبدال اعضائه عند الاستقالة أو الاقالة أو الوفاة".
وهذا يعني ان الدستور تنازل عن حقه، بوصفه القانون الاسمى في الدولة، في تحديد كيفية ملء الشواغر في مقاعده واوكل ذلك الى احدى دورات مجلس النواب اللاحقة. وليس هناك من ضمان بان يشرّع النواب طريقة تحافظ على المضمون الديمقراطي للدولة، سوى ما ورد في المادة الثانية من الدستور التي تنص في فقرتها الثالثة على انه "لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور."
وقد سن مجلس النواب القانون رقم ٦ لسنة ٢٠٠٦ الخاص بهذه المسألة وجاء في مادته الثانية: "اذا شغر احد مقاعد مجلس النواب لاحد الاسباب المذكورة في المادة الاولى ، فيتم استبداله بمرشح من نفس القائمة التي شغر المقعد المخصص لها في مجلس النواب."
ومثل هذا الاجراء يعد انتهاكا صارخا للمبدأ الديمقراطي الذي نصت عليه المادة ٤٩ حيث تقول في فقرتها الاولى: "يتكون مجلس النواب من عدد من الاعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة من نفوس العراق يمثلون الشعب العراقي بأكمله، يتم انتخابهم بطريق الاقتراع العام السري المباشر، ويراعى تمثيل سائر مكونات الشعب فيه." ومع وضوح خضوع هذا النص لفكرة "المكونات" الا انه اقر الصفة التمثيلية لكل الشعب العراقي في شخص النائب المنتخب. الا ان القانون رقم ٦ لسنة ٢٠٠٦ تنازل عن هذه الصفة واعتبر ان النائب ممثل لقائمته الحزبية وبالتالي ففي حالة خلو المقعد النيابي احال القانون سلطة ملء المقعد الشاغر الى ذات القائمة الحزبية وليس الى الشعب نفسه. وفي هذه الحالة فان النائب البديل لن يكون ممثلا للشعب العراقي، وانما هو ممثل للقائمة الحزبية. وليس عندي شك في ان واضعي هذه المادة لا علاقة لهم بالديمقراطية فهما او التزاما. وليس عندي شك في ان هذه المادة تمثل انتهاكا صريحا للمادة الثانية والمادة ٤٩ من الدستور.والغريب ان هذا الخرق الدستور مر، ومازال مسكوتا عنه، مما يشير الى انخفاض مستوى الوعي الديمقراطي والدستوري في العراق. والاغرب من ذلك كله ان المحكمة الاتحادية قررت في ٢٦ مايس من عام ٢٠١٩ "أن يحل أربعة أشخاص محل أربعة آخرين في مجلس النواب من نفس القوائم الانتخابية وليس من قوائم أخرى". الامر الذي ركز مسالة كون النائب ممثلا للحزب وليس للشعب.
الفكرة الديمقراطية هنا هي انه اذا خلا المقعد البرلماني لاي سبب كان، فيجب العودة الى الشعب لملء الفراغ وليس الى الحزب او القائمة الانتخابية. فالنائب ممثل للشعب في منطقته الانتخابية مهما كان انتماؤه الحزبي او الديني او المذهبي او القومي. وتتحقق العودة الى الشعب باجراء انتخابات فرعية في الدائرة لانتخاب نائب بديل يملأ الفراغ الحاصل. وعدم الاخذ بهذا المبدأ دليل قاطع على ان واضعي قانون الاستبدال اما انهم لا يفهمون معنى الديمقراطية او انهم لا يؤمنون بها. وهذا ينطبق ايضا على الذين يتحدثون عن اصلاح النظام السياسي دون ان يتعرضوا لهذه المسألة لا من قريب ولا من بعيد. ولما كانت الديمقراطية من ركائز الدولة الحضارية الحديثة (اضافة الى المواطنة والقانون والمؤسسات والعلم الحديث)، فانه من الصعب تصور امكانية ان تشارك هذه الطبقة ببناء الدولة الحضارية الحديثة في العراق. ولهذا فان الحديث هنا يتحول من استبدال النائب الى استبدال الطبقة السياسية غير الديمقراطية، وغير الحضارية حكما. هذا اذا كان الهدف الحقيقي هو اقامة الدولة الحضارية الحديثة.
التعليقات