مُحرضات سياسية.. واشنطن حاضرة في التوقيت الذي ترغب.


على الرغم من التطورات المتسارعة، التي شهدها الشرق الأوسط، في أكثر من ملف، لا سيما المواجهة الفلسطينية - الإسرائيلية الأخيرة، إلا أن الدبلوماسية الأمريكية، تأخرت في تسجيل حضورها المباشر في هذه المواجهة، لكن بذات التوقيت، وعلى نفس المسار، وضمن ظروف استثنائية، أعادت حرب غزة بعناوينها المتشعبة إقليمياً ودولياً، الولايات المتحدة إلى الواجهة مُجدداً، وبرزت كلاعب له من الحسابات، ما يُمكنها من إجبار الجميع على الرضوخ أمام حساباتها، ليتم ترجمة ذلك، من خلال جولة وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، والتي جاءت وسط ظروف غاية في الاستثنائية، بيد أن حركة واشنطن المكوكية، جاءت صراحةً تحت شعار، واشنطن حاضرة في التوقيت الذي ترغب، وبصرف النظر عن المحرضات السياسية لتفعيل دورها المباشر، إلا أن واشنطن تمكنت من اغتنام فرصة المواجهة الفلسطينية - الإسرائيلية، لتطلّ بدبلوماسيتها، وتقوم بتوزيع الأدوار على اللاعبين الإقليمين، في وقت أضاعت به الكثير من الدول الإقليمية، فرصة تحقيق اختراق في مسار الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وتحديداً تلك الدول التي ترفع لواء تحرير فلسطين.

واشنطن، وانطلاقاً من مراعاة مصالحها في الشرق الأوسط، والعمل على مراعاة مصالح شركاؤها الإقليمين، لا تستطيع أن تتجاهل التحديات والمحرضات السياسية، في أي بقعة ساخنة، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في عموم العالم، وهي تنطلق في ذلك، من مُحددات تسعى بموجبها، إلى الإبقاء على حضورها بطريقة فاعلة ومؤثرة، فكيف إذا كانت إسرائيل، ضمن تلك البقع الساخنة؟، خاصة أن جغرافية التواجد الإسرائيلي، ظلت على مدار عقود، أبرز محاور الاستقطابات، والصراعات الدولية، والارتباط بشكل مباشر، بقضية فلسطين بأبعادها الإنسانية والسياسية والحقوقية حاضراً ومستقبلاً، وترابطها العضوي مع كل تفاصيل المشهد المضطرب فيها.

ليس من أبواب النقاش، القول، بأن المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية، لم تُعد القضية الفلسطينية، إلى صدارة الاهتمام العالمي، والأمريكي تحديداً، لكن ما يُمكن مناقشته في هذا الإطار، بأن التقويم الأمريكي الدقيق، لمجريات المواجهة الأخيرة، كان مُحرضاً سياسياً وعسكرياً، لطرح مقاربات جديدة بشأن القضية الفلسطينية، الأمر الذي ترجمه تأكيد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، حين أقرَّ صراحةً بأن موقف بلاده الذي طرحه ضمن معادلة دبلوماسية متقنة، يعكس مقاربات الإدارة الأمريكية، بشأن حل الدولتين في إطار "عملية سياسية حقيقية"، وعن وضع حد للتوتر وإعادة إعمار غزة بشكل خاص.

واللافت فيما سبق، أن الخطاب الأمريكي المتوازن، يُعد معادلة قوة، تضبط بموجبها موازين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهذا يعكس أيضاً، الإدراك الأمريكي لجوهر الصراع، ويشير في جانب أخر، إلى استعداد مبدئي لدى إدارة بايدن، للعمل على رسم خارطة طريق لأطراف الصراع، تؤسس لتفاهمات، وربما اتفاقات راسخة على قاعدة ضمان حقوق ومصالح الجميع.

في جانب موازٍ، بات من الضروري الخروج باستنتاجات جديدة تتعلق بمسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتحديداً بما يتسق وجولة التصعيد الأخيرة في فلسطين؛ فالوقائع ومن بوابة الإدراك السياسي الواضح، تؤكد أن هناك معطيات تتجاوز في أبعادها، خطاب النصر الإسرائيلي الرسمي، وكذا خطاب حركة "حماس"، وبذات الإطار، عموم الخطاب الذي هندسته قوى محور المقاومة؛ فما حققه هذا المحور، وفق الحسابات والموازين الإستراتيجية، كان من الضرورة بمكان، أن يُعزز بما يُحقق خرقاً في جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفرض رؤى جديدة، خاصة أن المقاومة الفلسطينية، تمكنت من تحقيق مُنجزات جديدة، وبالتالي كان لزاماً على قوى المقاومة، استثمارها بالشكل الأمثل، وقطع الطرق جميعها، على واشنطن وشركاؤها المُطبعين مع إسرائيل في المنطقة، لكن من المبكر القول، بأن المحور قد أضاع الفرصة الذهبية، التي أوجدتها فصائل المقاومة الفلسطينية، في ظرف استثنائي، يتعلق بالانكفاء الأمريكي عن التدخل سريعاً في خضم المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية الأخيرة.

حقيقة الأمر، وعطفاً على ما سبق، فإن الفرصة لا تزال سانحة وحيوية، لقوى المقاومة، حيال مجاراة واشنطن في أجندتها حيال المنطقة، ومن شأن الإسراع بمراجعة الأولويات، وتقييم الاستراتيجيات، تحقيق نجاح جوهري في المنطقة، يضاف إلى جُملة الأرصدة التي حُققت خلال السنوات الماضية، ولتحقيق ذلك، وهندسة معادلة توازن السلام والرعب، تستلزم خطوات وإجراءات عملية وفعلية واستراتيجية المنحى، وفي المقابل، فإن واشنطن تسير أيضاً في نسق استراتيجي، تحكمه ضوابط عدة، منها تعزيز دور حلفاؤها في المنطقة، والاعتراف بأدوارهم ودعمهم في إنتاج سلام دائم وشامل للقضية الفلسطينية، وغير ذلك من توجهات وسياسات، قد تعطي مفعولاً معاكساً لا يُستبعد خلاله تفجر الصراعات في أكثر من مكان، وتضرر مصالح الجميع في المنطقة ومن بينها مصالح واشنطن، وبقاء الشرق الأوسط برميل بارود قابلاً للانفجار في أي لحظة.

ختاماً، غزة وأحداثها الأخيرة، وما رسمته من مسارات جديدة، ودور الحرب في تحريك الدبلوماسية الأمريكية، والبحث عن أدوار، أو عن مسالك سياسية تتجاوز حدود وقف القتال، إلى مسارات أوسع، كل ذلك، سيُعيد واشنطن بقوة إلى المنطقة، وعبر البوابة الفلسطينية، مع دور أكبر في عديد الملفات الإقليمية، ولعل المحرضات السياسية التي شهدتها المنطقة مؤخراً، ستفتح الشهية الأمريكية للولوج في هندسة حلول، باتت ضرورية من وجهة النظر الأمريكية، وبما يضمن بقاء مصالحها، وتشعب استثماراتها سياسياً واقتصادياً.