غرب آسيا و ليس " الشرق الأوسط" لماذا
من المعروف في علم النفس اللغوي و المناهج الألسنية , كما في مراكز القرار السياسية و الإستخبارية , أن إطلاق اي مفهوم و تأمين انتشاره على نطاق واسع في عالم السياسة و الإعلام و الأدب , يجعل من هذا المفهوم واقعا يصعب تجاهله, خصوصا إذا تبنته قوى مهيمنة في إطار النظام الجيوسياسي العالمي الذي يسيطر الغرب على معظم مكوناته الفكرية و البحثية . من هذا المنطلق , تهدف هذه المقالة باختصار الى المقارنة ما بين مفهومين : " الشرق الاوسط" و غرب آسيا تمهيدا لإطلاق نقاش جدي يهدف إلى شرح ضرورة التخلي عن الأول و تبني الثاني كمصطلح يناسب المؤسسات الفكرية و البحثية و مراكز القرار السياسية التي تتصدى للهيمنة الغربية على شعوب منطقتنا و مقدراتها .
لطالما سيطرت عبارة " الشرق الأوسط" في الأوساط السياسية , الإستراتيجية و الجيوسياسية للدلالة على المنطقة الممتدة من ليبيا غربا إلى باكستان شرقا, و من سورية شمالا الى شبه الجزيرة العربية جنوبا . وهي عبارة تستعمل للدلالة على مصطلح مضلل أنتجته القوى الإستعمارية القديمة كبريطانيا , وبنت عليه الإمبراطورية الأميركية حديثا . و بالتالي , يقتضي البحث العلمي تمحيص الخلفيات الكولونيالية لمفهوم " الشرق الأوسط" تمهيدا لاستبداله بآخر يناسب شعوب المنطقة و تاريخها الحضاري و الروابط الاقتصادية و الجيوسياسية التي يجب أن تجمعها و توحدها لا أن تفرقها و تفتتها.
المفارقة أنك لو كنت تعيش ما قبل العام 1916 و أردت استطلاع خريطة العالم لما خطر على بالك مصطلح " الشرق الأوسط" بتاتا . تشير المصادر و المعلومات التاريخية إلى أن هذا المفهوم برز في القرن التاسع عشر بعد أن اطلقته وزارة الخارجية الإنكليزية الناطقة باسم الإمبراطورية البريطانية . و ظلت العبارة تستعمل في مطلع القرن العشرين من قبل المركز الكولونيالي الاستعماري في بريطانيا. و لا يزال هذا التعريف في الخدمة حتى يومنا هذا, مما يدل على أن الفكر الإستعماري الغربي ما فتيء يصر على اعتماد الركائز المنهجية الاستشراقية نفسها حتى الآن . هذه التعريفات , الجغرافية شكلا و الإستعمارية مضمونا, و من ضمنها ما يسمى نطاق " الشرق الأوسط" , تثبت أن أسس استخدام أي من المصطلحات الشائعة ، بما في ذلك أيضًا "المشرق" أو "الشرق" ، متجذرة في وجهات النظر الأوروبية الكولونيالية. و هي مفاهيم جعلت من أوروبا مركزا أوحد في جغرافيا خريطة العالم السياسية تدور حوله الأطراف الواقعة ضمن دائرة هيمنته. كما أن هذه التحديدات الجيوسياسية تنحو إلى الإشارة إلى الأراضي التي وفرت للمستعمرين الأوروبيين إمكانية الوصول إلى المستعمرات و الموارد والمزايا العسكرية و الاستراتيجية التي مكنتهم من السيطرة على مناطق شاسعة حول العالم .
في الحقيقة , إن الإمبراطورية البريطانية , بأدواتها السياسية و العسكرية و امتداداتها المؤسسساتية في مراكز الأبحاث و الإستشراق ,نظرت الى العالم انطلاقا من المركز الكولونيالي في لندن و صولا إلى المستعمرات. في عام 1902 ، قامت دوائر الإستعمار البريطانية بصياغة مصطلح "الشرق الأوسط" للدلالة على المنطقة الممتدة بين مصر وسنغافورة ، والتي تضم الأراضي و المعابر البحرية الرئيسية إلى آسيا ، مثل قناة السويس والبحر الأحمر والخليج الفارسي و مضيق جبل طارق و ما الى ذلك .
البحث العلمي يظهر أنه من الناحية الحضارية من الصعب حصر نطاق" الشرق الأوسط" في منطقة جغرافية ذات حدود صلبة . فالعبارة نفسها لزجة و متغيرة باختلاف المصادر التي تستخدمها .
الولايات المتحدة الأميركية, التي ورثت قسما كبيرا من التركة الإستعمارية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية , اعتمدت مصطلح " الشرق الأوسط" بما يخدم مصالحها و أهدافها النيوكولونيالية . و يبدوأن الإدارات الأميركية المتعاقبة , منذ الحرب العالمية الأولى , تركت مجالا فضفاضا لتعريف " الشرق الأوسط" يناسب الخطط الحركية العسكرية التوسعية التي تخدم أهدافها الجيوسياسية . فقد أصبح التحديد الجغرافي-السياسي ل"لشرق الاوسط " معروفًا على نطاق واسع عندما استخدم الاستراتيجي البحري الأمريكي ألفريد ثاير ماهان المصطلح في عام 1902 لتعيين المنطقة الواقعة بين شبه الجزيرة العربية والهند. أما وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس ,فقد عرّف في الخمسينيات من القرن الماضي , منطقة "الشرق الأوسط" على أنها "المنطقة التي تشمل كلا من ليبيا في الغرب وباكستان في الشرق وسوريا والعراق في الشمال وشبه الجزيرة العربية في الجنوب , بالإضافة إلى السودان وإثيوبيا و ما بين هذه الاقاليم من بلدان و شعوب ."
بالمقابل , فإن التعريف الجغرافي ,الذي يعتمد على المنهجية العلمية , ينحو إلى اعتماد خريطة العالم ككل, و من ضمنها مواقع القارات الخمس و الإتجاهات الاربعة المتعارف عليها عالميا . و بالتالي , فإن أنسب تعريف يصلح للحلول محل مصطلح " الشرق الأوسط " هو مجال غرب آسيا الذي يخلو من الدلالات الإستعمارية و النيوكلونيالية ليبرز كمفهوم علمي منهجي قادر على الدلالة على الواقع الجيوسياسي الحقيقي لبلدان و شعوب هذه المنطقة من العالم .
بالإعتماد على خريطة العالم , فإن غرب آسيا يشمل البلدان والمناطق التالية : الأردن ، وأفغانستان ، وأرمينيا ، والبحرين ، وقبرص ، وقطاع غزة ، وجورجيا ، و الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، وتركيا ، والعراق ، والكويت ، ولبنان ، و سورية و فلسطين وعمان ، وقطر ، والمملكة العربية السعودية ، والإمارات العربية المتحدة والضفة الغربية واليمن .
هذه الدول تمتلك الكثير من القواسم المشتركة . و هي ذات تركيبة جغرافية متجانسة و متكاملة, و يتخللها معابر مائية و برية طبيعية تجعل منها واحدة من أهم المناطق الإستراتيجية في العالم . كما أنها تمتلك ثروات نفطية و غازية و معدنية و طيبعية تؤهلها للبروز كسوق اقتصادية مشتركة عملاقة . بالإضافة إلى ذلك , فهي تتشارك في روابط تاريخية و حضارية و لغوية تجعل من شعوبها كيانات متقاربة و قادرة على تحقيق الإزدهار و النمو لابنائها إذا توافرت الإرادة السياسية الجامعة و تم تجاهل الضغوط والموانع و الإملاءات الغربية عموما و الأميركية تحديدا من قبل بعض الأنظمة الموالية للولايات المتحدة في غرب آسيا . و ذلك يكون عبر الحوار الحضاري و السياسي الهادف الى تحقيق المصالح المشتركة بين المكونات السياسية و الشعبية و المؤسساتية و الفكرية في غرب آسيا , سواء عبر مراكز الابحاث أو من خلال الخطوط الدبلوماسية.
من هنا, يجب إطلاق دعوة للتمييز بين مصطلحي غرب آسيا و " الشرق الاوسط" لأن الثاني مفهوم إمبريالي يخدم مصالح اعداء المنطقة, بينما الأول يجسد المصالح المشتركة لشعوبها . و بالتالي التركيز على ضرورة التعبير عن مفاهيم و مصطلحات تتجاوز "الشرق الأوسط" لتطال كل الرموز اللغوية-السياسية الإستعمارية التي تستهدف تشكيل وعي شعوب غرب آسيا بما يخدم مصالح الغرب و نظرته الإستعلائية الإستكبارية تجاه هذه المنطقة من العالم و تقديم إسنادات لغوية و فكرية لحروبه و غزواته و دعمه غير المحدود للكيان الصهيوني المحتل في فلسطين التي تشكل قلب غرب آسيا النابض , و منها مصطلح "الشرق الاوسط الجديد" الذي أطلقته وزيرة الخارجية الاميركية غوندوليزا رايس قبل العدوان الصهيوني على لبنان و تمهيدا له في العام 2006 , و لاحقا لوصف ما سمي بالربيع العربي الذي أدى إلى الخراب الكبير في المنطقة.
التعليقات