الشدة المستنصرية: بدر الجمالي الرجل الذي أنقذ مصر من محنتها!!
استلم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله الخلافة سنة 420 هجرية ولما يبلغ عمره الثامنة.
من الطبيعي أن الخليفة كان يباشر سلطاته عبر الوزراء وقادة الجند ومن المحتمل أيضا أن يكون بين هؤلاء بعض الخونة والمندسين ممن يعملون لصالح الدول المنافسة خاصة العباسيين والأتراك وكل هؤلاء كان يبذل أقصى جهده للقضاء على الدولة الفاطمية الشيعية وهو ما حصل بعد ذلك بالتعاون بين يوسف بن أيوب والصليبيين.
لا يعني هذا إلقاء اللائمة على العامل الخارجي وحده، إلا أن تضافر هذه العوامل مع الأخطاء التي ارتكبت في إدارة الدولة يمكن أن يؤدي إلى نتائج مأساوية كهذا الذي حدث وأدى لوقوع ما يعرف بالشدة المستنصرية.
من المفيد أيضا أن ننبه إلى أن تسليط الضوء على ما عرف (بالشدة المستنصرية) وتجاهل ما عداها من الشدائد والمصائب التي نزلت بمصر وأهلها تحت حكم العبيد المماليك أو العثمانيين يكشف عن قدر لا يستهان به من التحامل على هذه الدولة والإلحاح على إبراز معايبها وأخطائها وتبرئة كل من عداها رغم ما ارتكبوه من جرائم وما تسببوا فيه من مصائب.
من البديهي أن افتعال الأزمات يمكن أن يأتي ضمن خطة لتغيير النظام السياسي وإسقاط دولة ما وإقامة كيان بديل أو إلحاق الدولة بكيان منافس من الأمور المألوفة في التاريخ السياسي.
لا يلزم أن تكون الأزمة مفتعلة أو مصنوعة من الأساس ويمكن أن يكون الأمر مجرد استفادة من الاضطرابات التي تتعرض لها أي دولة إما لأسباب وكوارث أو للصراعات بين القوى الحاكمة التي يسمونها الآن (صراع المؤسسات).
ما لفت نظري في النص التاريخي الذي ذكره المقريزي هو تكرار الحديث عن الدعوة للخليفة العباسي وحاولة الاستفادة من الأزمة بإخراج مناطق رئيسية من الكيان الفاطمي والرواية للمقريزي في كتابه (اتعاظ الحنفا في أخبار الفاطميين الخلفا) حيث يقول:
في سنة تسع وخمسين وأربعمائة : قويت شوكة الأتراك واشتد بأسهم وطلبوا الزيادات في واجباتهم ورواتبهم وساءت أحوال العبيد وكثر ضررهم وهم يتزايدون حتى صار منهم بالقاهرة ومصر وما في ظواهرهما من القرى نحو خمسين ألف ما بين فارس وراجل. وخلت خزائن أموال المستنصر وضعفت الدولة.
اندلعت الحروب بين العبيد السودان والأتراك وانجلت عن كسرة السودان وهزيمتهم إلى الصعيد. وكان مقدم الأتراك يومئذ ناصر الدولة أبو علي الحسن بن الأمير أبي الهيجاء ابن حمدان فرجع بالأتراك إلى القاهرة وقد قويت نفسه وعظم قدره واشتدت شوكته وثقلت وطأته.
فكانت بين الطائفتين حروب شديدة مدة أيام وثبت كل منهما فكانت الكرة لابن حمدان على العبيد فوضع السيف فيهم وتجاوز الحد في كثرة قتلهم وتتبعهم في كل مكان حتى لم يدع في القاهرة ومصر منهم إلا قليلا وهم مقيمون بالصعيد والاسكندرية.
فرأى ابن حمدان أن يبدأ محاربة من في الاسكندرية منهم فسار إليها ونازلها مدة وحصر العبيد بها وألح في مقاتلتهم حتى طلبوا منه الأمان فأقام على ولايتها رجلاً من ثقاته.
وانقضت هذه السنة كلها في قتال العبيد والأتراك.
وفيها قطعت دعوة المستنصر من اليمن بقتل الصليحي وأعيدت دعوة بني العباس.
سنة ستين وأربعمائة
في المحرم خرج الأتراك مبرزين إلى الرملة حين قتل شهاب الدولة وقد بلغت نفقه المستنصر فيهم ألف ألف دينار.
وفيه اشتد البلاء على المستنصر بقوة الأتراك عليه وطمعهم فيه فانخرق ناموسه وتناقصت حرمته وقلت مهابته وتعنتوا به في زيادة واجباتهم.
وكانت مقرراتهم في كل شهر ثمانية وعشرين ألف دينار فبلغت في هذه السنة إلى أربعمائة ألف دينار في كل شهر فطالبوا المستنصر بالأموال.
وركب ناصر الدولة الحسين بن حمدان ومعه جماعة من قواد الأتراك وحصروا المستنصر وأخذوا جميع الأموال ثم اقتسموا الأعمال وركبوا إلى دار الوزير ابن أبي كدينة يريدون الأموال فقال: وأي مال بقى الريف في يد فلان والصعيد في يد فلان والشام في يد فلان.
فقالوا: لا بد أن تنفذ إلى مولانا وتطلب منه وتعلمه بحضورنا.
فكتب الوزير إلى المستنصر رقعة يذكر فيها حضورهم بألقابهم وما يطلبون فخرجت الرقعة بخط المستنصر مكتوب فيها: أصبحت لا أرجو ولا أتّقي إلا إلهي وله الفضل جدّي نبيّي وإمامي أبي وقولي التوحيد والعدل المال إلى الله والعبد عبد الله والإعطاء خير من المنع.
” وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ ينْقَلِبُون ”.
واعتذر بأنه لم يبق عنده شيء.
فاضطروه إلى إخراج ذخائره وذخائر آبائه وبيعها فأخذ يخرج ذلك شيئا بعد شيء وهم يأخذونها لأنفسهم بأيديهم ويثمنونها بأقل القيم وأبخس الأثمان.
وسار ابن حمدان بجماعة الأتراك إلى الصعيد يريد محاربة العبيد وكان قد كثر شرهم وتزايد ضررهم وعم الكافة أذاهم وإفسادهم فاجتمعوا لحربه واستعدوا للغاية.
فسار إليهم في شهر رمضان وقد بلغت النفقة عليه وعلى من معه ألف ألف دينار وكانت بينهما حروب عظيمة ووقائع عديدة انجلت عن كسرة الأتراك وهزيمتهم إلى الجيزة.
فتلاقى بعضهم ببعض وصاروا يداً واحدة على المستنصر وألبوا عليه واتهموه بأنه بعث إلى العبيد بالأموال في السر ليقويهم على محاربة الأتراك وجهروا له بالسوء من القول فقال لهم إنه لم يبعث إليهم بشيء ولا أمدهم بمعونة.
وأخذ الأتراك في لم شعثهم والتأهب لمحاربة العبيد حتى تهيأ أمرهم بعد أن أنفق المستنصر فيهم عوضا عما نهب السودان لهم وضاع من أموالهم ألف ألف دينار.
وساروا إلى قتالهم مرة ثانية فالتقوا بهم وصابروهم القتال ووالوا عليهم الكرات حتى انهزم العبيد منهم وقتل كثير من أعدادهم بحيث لم ينج منهم إلا القليل وزالت حينئذ دولتهم.
وعظم أمر ناصر الدولة واستبد بالأمور فصرف ابن أبي كدينة من الوزارة وأعاد المليجي فلم يبق غير خمسة وصرف: وأعيد ابن أبي كدينة وجمع له بين الوزارة والقضاء معاً في ربيع الأول فأقام فيهما إلى جمادى الأولى وصرف عن القضاء بجلال الملك فأقيم في منصب القضاء إلى سلخ رمضان فصرف عن القضاء بالمليجي.
فأقام المليجي قاضيا إلى يوم عيد النحر وصرف وتولى ابن أبي كدينة.
وفيها كانت بدمشق حروب بين أمير الجيوش بدر وبين عسكريته فكانت الحروب طول السنة في بلاد الشام وديار مصر قائمة لا تهدأ.
وسار الأمير قطب الدولة باز طغان إلى ولاية دمشق ومعه أبو الطاهر حيدرة بن مختص الدولة أبي الحسين ناظراً في أعمالها.
وفيها زلزلت مصر زلزلةً عظيمة حتى طلع الماء من الآبار وهلك عالم عظيم تحت الردم.
وزال البحر بفلسطين من الزلازل وبعد عن الساحل مسيرة يوم ثم رجع فوق عالم كبير خرجوا يلتقطون من أرضه.
وخربت الرملة خراباً لم تعمر بعده.
وفيها أنفق في غير استحقاق لمدة خمسة عشر شهراً أولها عاشر صفر سنة ستين مبلغ ثلاثين ألف ألف دينار.
فيها قوى تغلب المارقين على المستنصر واستباحوا ما وجدوا في بيوت أمواله واشتدت مطالباتهم بالواجبات المقررة لهم وسألوا الزيادات في الرسوم.
واقتسم مقدموهم دور المكوس والجبايات وتغلب كل من بقي منهم على ناحية ولم يبق للدولة ارتفاع يعول عليه ولا مال في القياصر يرجع إليه.
وأخرج من الذخائر ما لا شوهد فيما بعده من الدول مثله نفاسةً وغرابة وجلالةً وكثرة وحسنا وملاحة وجودة وسناء قيمة وعلو ثمن ونقل منه التجار إلى الأمصار شيئا كثيراً سوى ما أحرق بالنار بعد ما امتلأت قياسر مصر وأسواقها من الأمتعة المخرجة من القصر المبيعة على الناس التي أنفق منها في أعطيات الأتراك وغيرهم لسنة ستين وأربعمائة.
ومضى المقريزي يعدد ويحصى من سلبه الأتراك من كنوز القصر من الثروات والنفائس مما لا يمكن حصره ولا عده مما يخرج عن إطار البحث ومن أراد التفاصيل فليرجع إلى الجزء الثاني من الكتاب المشار إليه.
فأهلت سنة إحدى وستين هذه وقد اشتد الخوف بمصر وكثر التشليح في الطرقات نهاراً والخطف والقتل.
وصار الجند فرقتين فرقة مع الخليفة المستنصر وفرقة عليه.
وذلك أن الوحشة ابتدأت بين الأتراك وبين ناصر الدولة ابن حمدان لقوة بأسه وتفرده بالأمور دونهم واستبداده بالدولة عليهم فنافسوه وحسدوه وصاروا إلى الوزير خطير الملك وقالوا له: كل ما خرج من الخليفة من مال أخذه ناصر الدولة وتفرق أكثره في حاشيته ولا ينالنا منه إلا الشيء القليل.
فقال لهم إنما وصل ناصر الدولة إلى هذا وغيره مما هو فيه بكم ولولا أنتم لما كان له من الأمر شيء ولو أنكم فارقتموه لانحل أمره.
واتفقوا على أن يكونوا جميعا عليه ويحاربوا حتى يظفروا به ويخرجوه من مصر.
ودخلوا إلى الخليفة المستنصر وسألوه أن يبعث إلى ناصر الدولة بالخروج من البلاد وتهديده إن لم يخرج فبعث إليه يأمره بالخروج عن بلاده فسارع إلى الخروج عن القاهرة ونزل بالجيزة.
فامتدت الأيدي عند خروجه إلى دوره ودور حواشيه وأصحابه وانتهبتها وأفسدتها.
فلما كان في الليلة التي خرج قبلها دخل في خفاء واجتمع بالقائد تاج الملوك شادي وترامي عليه وقبل رجله وقال له: اصطنعني وانصرني على الوزير الخطير وعلى إلدكز بأن تركب أنت وأصحابك وتسير بين القصرين فإذا أمكنتك الفرصة فاقتلهما فوافقه على ذلك وأجابه إليه ورجع ناصر الدولة إلى مخيمه بالجيزة.
فلما طلع النهار شرع تاج الملوك في عمل ما تقرر بينه وبين ناصر الدولة فأحس إلدكز بالمكيدة فسارع إلى اللحوق بالقصر واستجار بالمستنصر.
وأقبل الوزير في موكبه وليس له شعور بما بيت في الليل فصادفه تاج الملوك على غرة منه فأوقع به وقتله وسير في الحال إلى ناصر الدولة فحضر.
وحسن إلدكز للمستنصر أن يركب لمحاربة ناصر الدولة فلبس سلاحه وألبس من معه وركب ونزل فصار معه من الجند والعامة ما لا يحصى عددهم كثرة.
ووقف ناصر الدولة بمن معه ونشبت الحرب بينهما فكانت الكسرة على ناصر الدولة فانهزم وقد قتل كثير من أصحابه فمر على وجهه لا يلوى على شيء في يسير من أصحابه حتى انتهى إلى بني سنبس بالبحيرة فنزل عليهم وأقام فيهم واستجارهم وتزوج منهم.
واشتد الغلاء بمصر وقلت الأقوات في الأعمال وعظم الفساد والضرر وكثر الجوع حتى أكل الناس الجيف والميتات ووقفوا في الطرقات يخطفون من يمر من الناس فيسلبونه ما عليه مع ما نزل بالناس من الحروب والفتن التي هلك فيها من الخلق ما لا يحصيهم إلا خالقهم.
وخاف الناس من النهب فعاد التجار إلى ما ابتاعوه من المخرج من القصر يحرقونه بالنار ليخلص لهم ما فيه من الذهب والفضة.
فحرقوا من الثياب المنسوجة بالذهب والأمتعة من الستور والكلل والفرش والمظال والبنود والعماريات والمنجوقات والأجلة ومن السروج الذهب والفضة والآلات المجراة بالميناء والمرصعة بالجوهر شيء لا يمكن وصفه مما عمل في دول الإسلام وغيرها.
وفيها عظم الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد وأكل الناس الجيفة والميتات ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط وبلغت رواية الماء دينارا وبيع دار ثمنها تسعمائة دينار بتسعين دينارا اشترى بها دون تليس دقيق.
وعم مع الغلاء وباء شديد وشمل الخوف من العسكرية وفساد العبيد.
فانقطعت الطرقات براً وبحراً إلا بالخفارة الكبيرة مع ركوب الغرر.
وبيع رغيف من الخبز زنته رطل في زقاق القناديل كما تباع التحف والطرق في النداء: خراج! خراج! فبلغ أربعة عشر درهما وبيع أردب قمح بثمانين ديناراً.
ثم عدم ذلك كله وأكلت الكلاب والقطط فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير.
وأبيعت حارة بمصر بطبق خبز حساباً عن كل دار رغيف فعرفت تلك الحارة بعد ذلك بحارة طبق وما زالت تعرف بذلك حتى دثرت فيما دثر من خطط مصر.
وأكل الناس نحاتة النخل ثم تزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا.
وكان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سكنوا بيوتاً قصيرة السقوف قريبةً ممن يسعى في الطرقات فأعدوا سلباً وخطاطيف فإذا مر بهم أحد شالوه في أقرب وقت ثم ضربوه بالأخشاب وشرحوا لحمه وأكلوه.
قال الشريف أبو عبد الله محمد الجواني في كتاب النقط: حدثني بعض نسائنا الصالحات قالت: كانت لنا من الجارات امرأة ترينا أفخاذها وفيها كالحفر فتقول: أنا ممن خطفني أكلة الناس في الشدة فأخذني إنسان وكنت ذات جسم وسمن فأدخلني بيتاً فيه سكاكين وآثار الدماء وزفرة القتيل فأضجعني على وجهي وربط في يدي ورجلي سلباً إلى أوتاد حديد عريانةً ثم شرح من أفخاذي وأنا أستغيث ولا أحد يجيبني ثم أضرم الفحم وأسوى من لحمي وأكل أكلاً كثيراً ثم سكر حتى وقع على جنبيه لا يعرف أين هو فأخذت في الحركة إلى أن تخلى أحد الأوتاد وأعان الله على الخلاص وخلصت وحللت الرباط وأخذت خروقا من داره ولففت بها أفخاذي وزحفت إلى باب الدار وخرجت أزحف إلى أن وقعت إلى الناس فحملت إلى بيتي وعرفتهم بموضعه فمضوا إلى الوالي فكبس وآل أمر الخليفة المستنصر إلى أن صار يجلس على نخ أو حصير وتعطلت دواوينه وذهب وقاره وخرج من نساء قصوره ناشرات شعورهن يصحن: الجوع الجوع وهن يردن المسير إلى العراق فتساقطن عند المصلى بظاهر باب النصر من القاهرة ومتن جوعاً.
جاء الوزير يوماً على بغلة فأكلها العامة فأمر بهم فشنقوا فاجتمع الناس على المشنقين وأكلوهم.
وعدم المستنصر القوت جملةً حتى كانت الشريفة بنت صاحب السبيل تبعث إليه كل يوم بقعب من فتيت من جملة ما كان لها من البر والصدقات في سني هذا الغلاء حتى أنفقت مالها كله وكان يجل عن الإحصاء في سبيل البر فلم يكن للمستنصر قوت سوى ما كانت تبعث به إليه وهو مرة واحدة في اليوم لا يجد غيره.
وبعث بأولاده إلى الأطراف لعدم القوت فسير الأمير عبد الله إلى عكا فنزل عند أمير الجيوش وأرسل الأمير أبا علي معه وبعث الأمير أبا القاسم والد الحافظ إلى عسقلان وسيره أولا إلى دمياط ولم يترك عنده سوى ابنه أبي القاسم أحمد.
وبعث المستنصر يوما إلى أبي الفضل عبد الله بن حسين بن شورى بن الجوهري الواعظ فدخل القاهرة من باب البرقية فلم يلق أحداً إلى القصر فجاء من باب البحر فوجد عليه شيخاً فقال استأذن علي فقال: ادخل فهو وحده فدخل فلم ير أحداً في الدهاليز ولا القلعة فأنشد: يا منزلاً لم تبل أطلاله حاشا لأطلالك أن تبلى والعيش أولى ما بكاه الفتى لا بدّ للمحزون أن يسلى فإذا هو خلف باب المجلس فبكى وبكيت طويلا وحادثته ساعة ثم ناوله الخليفة قرطاساً فيه سبعون ديناراً.
ولم يكن هذا الغلاء عن قصور مد النيل فقط وإنما كان من اختلاف الكلمة ومحاربة الأجناد بعضهم مع بعض.
وكان الجند عدة طوائف مختلفة الأجناس فتغلبت لواتة والمغاربة على الوجه البحري وتغلب العبيد السودان على أرض الصعيد وتغلب الملثمة والأتراك بمصر والقاهرة وتحاربوا.
وكان قد حصل ذلك من بعد قتل اليازوري في سنة خمسين كما تقدم فما زالت أمور الدولة تضطرب وأحوالها تختل ورسومها تتغير من سنة خمسين إلى سنة سبع وخمسين فابتدأت الشدة منها تتزايد إلى سنتي ستين وإحدى وستين فتفاقم الأمر وعظم الخطب واشتد البلاء والكرب.
وما برح المصاب يعظم إلى سنة ست وستين وكان أشدها مدة سبع سنين من سنة تسع وخمسين إلى سنة أربع وستين أخصبت كل شر وهلك فيها معظم أهل الإقليم.
ثم أخذ البلاء ينجلي من سنة أربع وستين إلى أن قدم أمير الجيوش بدر في سنة ست وستين كما سيأتي ذكره إن شاء الله.
فكانت السبع سنين المذكورة يمد فيها النيل ويطلع وينزل في أوقاته فلا يوجد في الإقليم من يزرع الأراضي ولا من يقيم جسوره من كثرة الاختلاف وتواتر الحروب وانقطاع الطرقات في البر والبحر إلا بالخفارة الثقيلة وارتكاب الخطر ولم يوجد ما يبذر في الأراضي للزراعة فإن القمح ارتفع الأردب منه من ثمانين ديناراً إلى مائتي دينار ثم فقد فلم يقدر عليه ولا الخليفة.
وفيها صرف ابن أبي كدينة عن القضاء في ثالث عشر صفر وتولى المليحي وصرف جلال الملك عن الوزارة وصرف معه أيضا المليحي عن القضاء في يوم واحد وجمعا معاً لخطير الملك محمد بن اليازوري فباشرهما إلى شوال ثم صرف عنهما.
فاستقر فيهما بعده ابن أبي كدينة إلى ذي القعد وأعيد المليحي بعده.
وفيها احترق جامع دمشق ليلة الاثنين النصف من شعبان بعد العصر وسببه فتنة بين العسكرية وأهل البلد فأضرموا النار في بعض الأسواق واتصل بالجامع فاحترق الجانب الغربي جميعه من الرواق الباقلاني والقبة الكبيرة وزالت آثار الوليد بن عبد الملك التي لم يكن في الإسلام مثلها.
سنة اثنتين وستين وأربعمائة
فيها بعث ناصر الدولة حسين بن حمدان الفقيه أبا جعفر محمد بن أحمد بن البخاري رسولاً منه إلى السلطان ألب أرسلان ملك العراق يسأله أن يسير إليه العساكر ليقيم الدعوة العباسية بديار مصر وتكون مصر له.
فتجهز ألب أرسلان من خراسان في عساكر عظيمة وبعث إلى محمود بن ثمال بن صالح بن مرداس صاحب حلب أن يقطع دعوة المستنصر ويقيم الدعوة العباسية فقطعت دعوة المستنصر من حلب ولم تعد بعد ذلك.
وانتهى ألب أرسلان إلى حلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وحاصرها شهرا فخرج إليه صاحبها محمود بن ثمال بن صالح بن مرداس فأكرمه وأقره على ولايته.
وأخذ يريد المسير إلى دمشق ليمر منها إلى مصر وإذا بالخبر قد طرقه أن متملك الروم قد قطع بلاد أرمينية يريد أخذ خراسان فشغله ذلك عن الشام ومصر ورجع إلى بلاده فواقع جمائع الروم على خلاط وهزمهم.
وكان قد ترك طائفة من عسكره الأتراك ببلاد الشام فامتدت أيديهم إليها وملكتها كلها فخرجت عن أيدي المصريين ولم تعد إليهم.
وبلغ المستنصر إرسال ناصر الدولة إلى ألب أرسلان فجهز إليه ثلاث عساكر من الأتراك وغيرهم وتقدم أحد العساكر إليه وهو في أهل البحيرة فجمع له ابن حمدان وأوقع به وقعة انكشفت عن أسر مقدم العسكر وقتل كثير من أصحابه وانهزام من بقي والاستيلاء على ما بقي معهم فتقوى به.
ووافاه العسكر الثاني ولا علم عندهم بما اتفق على من تقدم فكانت الدائرة لابن حمدان عليهم أيضا فسار وهجم على العسكر الثالث وقتل منهم وأسر وانتهب عامة ما كان معهم فكثرت أمواله وكبرت نفسه واستأسد على المستنصر واستخف به وبمن معه فقطع الميرة عن القاهرة ومصر وعاث في البلاد ونهب أكثر الوجه البحري.
وقطع خطبة المستنصر من الإسكندرية ودمياط وجميع الوجه البحري وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسي.
وامتدت الحرب بين الأتراك وعبيد الشراء ثمانية أشهر يتحاربون ليلا ونهارا فامتنع الناس من الحركة وجاء النيل ووفى فلم يقدروا على الزرع فتفاقم البلاء بالناس واشتد جوعهم وعظمت رزاياهم.
وفشا مع ذلك الموت في الناس فكان يموت الواحد من أهل البيت في القاهرة أو مصر فلا يمضي ذلك اليوم أو تلك الليلة حتى يموت سائر من في ذلك البيت.
وعجز الناس عن مواراة الأموات فكفنوهم في الأنخاخ ثم عظمت شناعة الموت وتضاعف العجز فصاروا يحفرون الحفائر الكبار ويلقون فيها الأموات بعضهم على بعض حتى تمتلئ الحفيرة بالرمم من الرجال والنساء والصغار والكبار ثم يهال عليها التراب.
ومع هذا تكاثر انتهاب الجند للعامة واختطافهم من الطرقات فخرج أهل القوة من القاهرة ومصر يريدون بلاد الشام والعراق هرباً من الجوع والفتن فصار إلى تلك البلاد عامة التجار وأصحاب القوة ومعهم ثياب المستنصر وذخائره وآلاته التي تقدم ذكر طرف منها.
وفيها قطعت دعوة المستنصر من مكة ودعي بها للقائم العباسي وللسلطان عضد الدولة ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن سلجوق بن دقاق.
وكان سبب انقطاع دعوة المستنصر بها أنه كان ينفق في كل سنة على القافلة المجهزة إلى مكة في الموسم مائة ألف وعشرون ألف دينار منها عن الطيب والخلوق والشمع راتباً في كل سنة عشرة آلاف دينار ونفقة الوفد الواصلين إلى الحضرة أربعون ألف دينار وعن الجرايات والصدقات وأجرة الجمال ومعونة من يسير من العسكرية وأمير الموسم وخدم القافلة والضعفاء وحفر الآبار ونفقات العربان ستون ألف دينار.
ثم زادت النفقة في وزارة اليازوري حتى بلغت إلى مائتي ألف دينار في السنة ولم تبلغ النفقة على موسم الحج مثل ذلك في دولة من دول الإسلام قط.
فلما ضعفت الدولة في هذه السنين وزحف عضد الدولة من خراسان إلى حلب بعث إلى محمد ابن أبي القاسم الحسني أمير مكة بثلاثين ألف دينار وبخلع سنية وأجرى له في كل سنة عشرة آلاف دينار وبعث إلى صاحب المدينة عشرين ألف دينار فقطع خطبة المستنصر بعدما قامت الدعوة والخطبة للمستنصر ولآبائه بمكة والمدينة مائة سنة ودعا للقائم العباسي ولعضد الدولة وقرر عضد الدولة ما يحمل إلى الحرمين على ارتفاع واسط.
تعليق: تكاثرت البلايا على الدولة الفاطمية في هذه المدة ويبدو لنا واضحا خيانة ناصر الدولة ابن حمدان وتعاونه مع السلاجفة ودعوته لهم للقدوم لإسقاط الخلافة الفاطمية.
السبب الأساس لهذه المحنة التي تعرضت لها مصر هو اختلاف طوائف العسكر فيما بينهم وليس جفاف النيل ولا حتى الأوبئة التي تسببت في موت المزيد من المصريين فالنيل كان يصعد ويهبط والناس عاجزة عن زراعة الأرض المترامية القادرة على إطعام مصر وما حولها من شعوب المنطقة بسبب الخوف والرعب وانعدام الأمن.
سنة خمس وستين وأربعمائة
فيها قتل ناصر الدين الحسين بن ناصر الدولة الحسن بن الحسين بن عبد الله أبي الهيجاء بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن الرشيد بن المثنى بن رافع بن الحارث ابن غطيف بن مجربة بن حارثة بن مالك بن جشم أحد الأراقم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن ثعلب بن وائل بن قاسط بن فيد بن أقصى بن داغمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة الفرس بن نزار بن معد بن عدنان التغلبي.
وكان سبب فنائه أنه لما استولى على أمور الدولة وبالغ في إهانة المستنصر وتتبع أقاربه وحواشيه وأخذ من قدر عليه منهم وفر من وجد سبيلا إلى الفرار كان يولي الرجل بعض الأعمال ويسيره إليه فلا يتمكن من ذلك العمل حتى يكتب إليه بأن يعود ويبعث غيره.
وشرع في قطع دعوة المستنصر وإعمال الرأي في إقامة الخطب للخليفة القائم بمصر والقاهرة وأن يزيل من البلاد دولة الفاطميين ويمحو آثارها فلم يستطع ذلك ولا قدر عليه لكثرة الأعوان والأتباع.
وكان من جملة رجال الدولة إلدكز وهو أحد الأمراء ففطن لما يريده ناصر الدولة من قطع خطبة المستنصر وإقامة دعوة بني العباس فتشاور هو والأمير يلدكوز وكانا من أكابر الأتراك وأنكرا ما يتفق من ناصر الدولة وتخوفا من عاقبة ذلك.
وصارا إلى بقية الأتراك وأعلماهم أنه إن تم لناصر الدولة ما يحاوله لم يبق منهم أحدا والرأي مبادرته قبل أن يستفحل أمره فتقرر الأمر على القيام عليه وقتله.
وكان ناصر الدولة قد اغتر بقوته وظن أنه قد أمن وأن أعداءه قد تلاشوا وتلفوا فأتاه الله من حيث لم يحتسب وأناخ به عواقب بغيه فلم يشعر إلا وقد ركب الأتراك بأجمعهم على حين غفلة من ليلة من رجب ووافوا داره بمصر سحراً وكان يسكن في منازل العز فهجموا عليه من غير دستوره ولا طلب إذن فإذا هو في صحن داره وعليه رداء فبادره أحدهم بسيفه وأتبعه إلدكز فحز رأسه.
وخرج كوكب الدولة مسرعا إلى فخر الدولة أخيه في عدة فطرقه وهو آمن وقتله واحتمل رأسه وأخذ سيفه وجاريةً من جواريه.
وامتدت الأيدي إلى من بقي منهم فقتل أخوهما تاج المعالي وجماعة من بني حمدان وتتبعوا أسبابهم وحواشيهم حتى لم يبق منهم أحد بديار مصر وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم وما أصدق قول أبي على الفكيك إذ يقول هجاء لناصر الدولة هذا:
فالدولة الغراء قد غلطت بأن سمّتك ناصرها وأنت الخاذل
وقتل في هذه النوبة الوزير أبو غالب عبد الطاهر بن فضل بن الموفق بن الدين ابن العجمي.
وفيها قطعت خطبة المستنصر من بيت المقدس.
سنة ست وستين وأربعمائة
فيها تشدد الأتراك وكبيرهم سلطان الجيش يلدكوش التركي والأمير إلدكز والوزير يومئذ ابن أبي كدينة فضاق خناقه وعظم روعه وساءت حاله وكان المستنصر بالله يظن أن في قتل ابن حمدان راحةً له فاستطال إلدكز وابن أبي كدينة عليه وناكداه.
استدعاء بدر الجمالي وخطة إنقاذ مصر
القضاء على المفسدين في الأرض
تحير الخليفة المستنصر في أمره وكان أن كتب إلى أمير الجيوش بدر الجمالي وهو يومئذ بعكا يستدعيه للقدوم لنجدته وإعانته ويعده بتملك البلاد والاستيلاء عليها.
فاشترط عليه أنه يقدم بعسكر معه وأنه لا يبقى أحداً من عساكر مصر ولا وزرائهم فأجابه المستنصر إلى ذلك.
فأخذ في الاستعداد للمسير إلى مصر واستخدم معه عدةً من العساكر وركب البحر من عكا وكان الوقت في كانون وهو أشد ما يكون من البلاء ومن العادة أن البحر لا يركب في الشتاء.
فسار في مائة مركب وقد حذر من ركوبه وخوف من سوء العاقبة فلم يصغ لذلك وكأن الله سبحانه قد صنع له ومكن له في الأرض وقضى بأن يصلح على يديه ما قد فسد من إقليم مصر.
فترحل بعساكره في المراكب وواتتهم ريح طيبة سارت بهم إلى دمياط ولم يمسسهم سوء فكان يقال إنه لم ير في البحر قط صحوة تمادت أربعين يوماً إلا في هذا الوقت فكان هذا ابتداء سعادته وأول عظيم جده.
فنزل بدمياط وطلب إليه التجار من تنيس وافترض عليهم مالا.
وقدم عليه سليمان اللواتي وهو يومئذ كبير أهل البحيرة وأكثرهم مالا وأوسعهم حالا وقدم إليه وأضافه وأمده بالطرقات حتى قدم قليوب فنزل بها.
وبعث إلى المستنصر سراً بأني لا يمكنني القدوم إلى الحضرة ما لم يقدم على يلدكوش فبادر المستنصر إلى إجابته وقبض عليه.
ودخل بدر عشية يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى فتلقاه أهل الدولة وأنزلوه وبالغوا في إكرامه فأظهر أنه ما جاء إلا شوقاً إليهم وخدعهم بما أبداه من المحبة لهم وكثرة التملق وأعرض عن المستنصر ولم يذكره إلا بالسوء وصار من معه يدخلون إلى القاهرة وحداناً ورجالا في الخفية حتى تكامل منهم تسعمائة.
ثم أخذ مع الأمراء في الأكل والشرب واللذات إلى أن اشتد تآنسهم به فاستدعاه كل منهم إلى ضيافته وقدموا إليه وهو آخذ في أسباب ما دعى إليه.
فلما انقضت أيام ضيافتهم له استدعى أمراء الدولة ومقدميها في صنيع أعد لهم فمضوا إليه وقضوا نهارهم عنده وباتوا في أطيب عيش وأنعم بال وقد رتب أصحابه ليقتل كل واحد أميراً من الأمراء ويكون له جميع ما بيده.
فلما سكروا وامتد عليهم رواق الليل صار يخرج كل واحد من باب ويسلمه إلى غلام من غلمانه ويمضي إلى داره فيتسلمها بما فيها من الخدم والأموال.
فلم يصبح الصباح إلا ورؤوس الجميع بين يديه وقد استولى كل رجل من أصحابه على دار أمير من الأمراء وأحاط بجميع ما كان له.
وأخذ في القبض على الأتراك وتتبعهم حتى لم يدع منهم أحداً يشار إليه فقويت شوكته واشتدت وطأته وعظم أمره فحسر عن ساعد الجد وشمر ساعد الاجتهاد والتقط المفسدين فلم يبق على أحد منهم وتطلبهم في القاهرة ومصر حتى أتى على جميعهم بالقتل.
وفر ناصر الجيوش أبو الملوك وكان شاه بن يلدكوش إلى الشام.
وخلع عليه المستنصر بالطيلسان المقور وصار جميع أهل الدولة في حكمه والدعاة نواباً عنه وكذلك القضاة إنما يتولون منه.
فقلد أبا يعلى حمزة بن الحسين بن أحمد الفارقي قضاء القضاة.
وزيد في ألقاب أمير الجيوش على ألقاب من تقدمه من الوزراء: كافل قضاة المسلمين.
واتفق أنه لما لبس خلع الوزارة حضر إليه المتصدرون بالجوامع فقرأ ابن العجمي: ” ولقد نصركم الله ببدر ” وسكت عن تمام الآية فقال له أمير الجيوش بدر: والله لقد جاءت في مكانها.
وقتل أمير الجيوش من أماثل المصريين وقضاتهم ووزرائهم عدة كثيرة منهم الوزير أبو محمد الحسن بن ثقة الدولة علي بن أحمد المعروف بابن أبي كدينة وكان عندما قدم بدر إلى مصر هو الوزير وهو من ولد عبد الرحمن بن ملجم وتردد في القضاء والوزارة سبع مرات وكان قاسي القلب جبارا فلما قبض عليه سير إلى دمياط ودخل عليه السياف ليضرب عنقه فكان سيفه ثليلاً فضربه سبع ضربات بعدد ولايته القضاء والوزارة.
وقتل أيضا الوزير أبو المكارم أسعد والوزير أبو شجاع محمد بن الأشرف أبي غالب محمد بن علي والوزير عبد الغني بن نصر بن سعيد الضيف.
سنة سبع وستين وأربعمائة
فيها سار أمير الجيوش بدر إلى الوجه البحري فأوقع بلواتة وقتل مقدمهم سليم اللواتي وابنه واستصفى جميع ما كان له ولقومه من أنواع الأموال وأسرف في قتلهم حتى يقال إنه قتل منهم عشرين ألفا.
وسار إلى دمياط وقتل كثيراً ممن كان فيها من المفسدين وخرب وحرق وأصلح عامة أحوال الثغر.
ولم يدع بالبر الشرقي وجميع أسفل الأرض مفسداً إلا وقتله أو قمعه.
وفيها مات الخليفة القائم بأمر الله ببغداد يوم الخميس ثالث عشر شعبان وله من الخلافة أربع وأربعون سنة وتسعة أشهر وأيام وجلس بعده ابن ابنه أبو القاسم عبد الله ابن ذخيرة الدين ولقب بالمقتدي.
وفيها أعيدت الخطبة للمستنصر بمكة بعد أن خطب فيها للقائم بأمر الله العباسي أربع سنين.
وفيها قتل أمير الجيوش كثيراً من جند مصر وغيرهم ممن يومي إليه بفساد.
فلما كان في سنة سبع وثمانين وأربعمائة مات في ربيع الآخر وقيل: في جمادى الأولى منها وقد تحكم في مصر تحكم الملوك ولم يبق للمستنصر معه أمر واستبد بالأمور فضبطها أحسن ضبط وكان شديد الهيبة وافر الحرمة مخوف السطوة قتل من مصر خلائق لا يحصيها إلا خالقها منها أنه قتل من أهل البحيرة نحو العشرين ألف إنسان إلى غير ذلك من أهل دمياط والإسكندرية والغربية والشرقية وبلاد الصعيد وأسوان وأهل القاهرة ومصر إلا أنه عمر البلاد وأصلحها بعد فسادها وخرابها بإتلاف المفسدين من أهلها وكان له يوم مات نحو الثمانين سنة وكانت له محاسن منها: أنه أباح الأرض للمزارعين ثلاث سنين حتى ترفعت أحوال الفلاحين واستغنوا في أيامه ومنها حضور التجار إلى مصر لكثرة عدله بعد انتزاحهم منها في أيام الشدة ومنا كثرة كرمه وكانت مدة أيامه بمصر إحدى وعشرين سنة وهو أول وزراء السيوف الذين حجروا على الخلفاء بمصر.
كان بدر الجمالي مسلما أرمنيا ولعل اختياره للقيام بمهمة تأديب الأتراك والحمدانيين يكشف عن البعد التاريخي الكامن وراء التمرد الذي قام به الفريقان بالتحالف مع السلاجقة الطامحين للهيمنة على العالم الإسلامي فيما بعد بعنوان الدولة العثمانية.
أما الحمدانيون أمراء حلب في العصر العباسي فكانت لهم ثارات وإحن مع الفاطميين ولذا اشترك هؤلاء وهؤلاء في تخريب الدولة الفاطمية.
التعليقات