شبعنا من التنظير
اسمع في بعض الاحيان عبارة "شبعنا من التنظير" يرددها عامة الناس وبعض المثقفين ردا على الكتابات التي انشرها حول الدولة الحضارية الحديثة، وحول اصلاح الاوضاع في العراق.
ولا اكتم القاريء الكريم سرا انني استغرب جدا من هذه العبارة خاصة اذا اطلقها "مثقف"، لسببين على الاقل.
السبب الاول يتعلق بحجة "التنظير الذي شبع منه الشعب العراقي" كما يقول اصحاب هذه المقولة. ومنه اتساءل عن نوعية التنظير الذي شبعنا منه خلال الخمسين سنة الاخيرة على الاقل من عمر العراق. فمنذ عام ١٩٦٨ الى عام ٢٠٠٣ أُتخم العراقيون بالتنظير البعثي القومي الشوفيني العنصري الطائفي الدكتاتوري القائم على مقولات الحزب القائد والرسالة الخالدة والقائد الضرورة واخيرا عبادة الشخصية وتأليه صدام.ثم جاءت مرحلة ٢٠٠٣ الى اليوم وفيها استمرت معاناة الشعب العراقي بثقافة المحاصصة والمكونات واسلمة التخلف والطروحات الطائفية والشعبوية. خمسون سنة من التشويه الثقافي الممنهج لعقول العراقيين، ثم يأتي من يرفض الطرح الثقافي الهادف الى اعادة بناء الذهنية العراقية على اساس حضاري متنور بحجة انقطاع الكهرباء والبطالة وتردي الاوضاع السياسية والاقتصادية، واعتبار التنظير ترفا ثقافيا لا لزوم له بدعوى ان العراق يخترق فما حاجته الى الفكر والتنظير.
ويزداد استغرابي حين الاحظ الغفلة عن الربط بين سوء الاوضاع وبين غياب النظر الصحيح. وهذا هو السبب الثاني. فانني ارى، كما يرى الكثيرون غيري، ان من اهم اسباب تردي الاوضاع بما في ذلك استمرار الحكم الدكتاتوري اكثر من ٣٠ سنة واستمرار حكم المحاصصة ل١٨ سنة هو غياب النظريات الصحيحة للحكم والادارة والاقتصاد والخدمات وغيرها، سواء على مستوى الحاكمين ام على مستوى المحكومين. لماذا تفشل الدولة في حل مشكلة الكهرباء مثلا؟ لماذا تتفاقم مشكلة البطالة؟ لماذا تترسخ الصفة الريعية للدولة؟ ولماذا يحترق العراق كما يقول احد المثقفين؟ لماذا ولماذا وتطول قائمة الاسئلة؟ والجواب واضح: غياب النظرية الصحيحة في ادارة الدولة وتنظيم المجتمع، على مختلف المجالات والمستويات، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والدين وغير ذلك. ولا حل لهذه المشكلات الا بطرح نظرية صالحة للدولة المجتمع، قادرة على معالجة المشكلة الام واعني بها الخلل الحاد في المركب الحضاري ومنظومة القيم العليا الحافة به، اي التخلف. وكان هذا ما شخصه الامام الشهيد محمد باقر الصدر منذ اوائل الستينات حين تحدث عن الشرط الاساس للنهضة وهو توفر المبدأ الصالح، ودعا المثقفين الى زرع بذور النهضة. واي مبدأ صالح غير النظرية السليمة والعلمية لبناء الدولة وتنظيم المجتمع؟
ومن هنا كان تركيزي في مقالات ما بعد العام ٢٠١٦ على طرح فكرة الدولة الحضارية الحديثة، بعد تجربة طويلة في المعارضة والدولة منذ عام ١٩٦٦ الى عام ٢٠١٦. ولم تكن هذه الفكرة بدعا من الامر ولا فتحا في الفكر، انما هي فكرة مطبقة بنجاح في العديد من دول العالم اليوم، وتمتد جذورها الى فكر جان جاك روسو، وهذا لا يعني انها مستوردة، فقد نظّر لها فقهاء مسلمون كبار كالشيخ النائيني والعلامة الطباطبائي صاحب تفسير "الميزان" وواصل التنظير الفقهي لها جمع من الفقهاء العظام وصولا الى الامام السيستاني. والعجب من بعض المثقفين وهم يقولون انهم لم يجدوا "طرحا فكريا كبيرا" في كل ما قدمه هؤلاء المفكرون والفقهاء العظام واعدنا تبويبه وطرحه ودعونا الى نشره والتثقيف عليه ومن ثم تطبيقه في العراق، لانه الطريق الوحيد لحل مشكلات البلد واعادة بناء الدولة وتنظيم المجتمع وتنشئة المواطنين الصالحين الفعالين.
والخلاصة، بدل ان نقول شبعنا تنظيراً، الاولى ان نقول شبعنا معاناة ولابد لنا من النظرية الصحيحة للخروج من هذه المعاناة. هذا هو التفكير السليم.
التعليقات