الطاولة السداسية العراقية؛

الخيار الوحيد


   في ظل النتائج المعلنة للانتخابات العراقية، وما اكتنفها من تعقيدات واتهامات ومعالجات، والمخاضات العسيرة التي سترافق ولادة الحكومة الجديدة؛ لا يبدو أن هناك خياراً أمام الفرقاء السياسيين العراقيين، سوى التحلي بالواقعية السياسية، والاذعان للحقائق الضاغظة، وترتيب أوراقهم على أساسها. 

   وما أطرحه هنا ليست مقترحات ولا نصائح ولا عرضاً لخيار أمام خيارات أخرى؛ بل أعرض الخيار الوحيد الذي تفرضه أعراف العملية السياسية، في إطار توصيف موضوعي للواقع السياسي، بعيداً عن مزايدات الفرقاء والشعارات والكلام الاستهلاكي الدعائي، سواء أحببنا مشاهد هذا التوصيف أو كرهناها. ويتمثل هذا التوصيف بالمشاهد الرئيسة الثلاثة التالية:

   1- إن نوري المالكي ومقتدى الصدر باتا قطبي الساحة السياسية الشيعية؛ بل محوري العملية السياسية في العراق وتفاهمات الكتل، وخاصة ما يرتبط بتسمية الرئاسات الثلاث وتشكيل الحكومة الجديدة. وإن أية محاولات لإلغاء هاتين المحوريتين ودورهما، هو ضرب من الوهم، وستبوء بالفشل إلزاماً، سواء من خلال تصور إمكانية إنفراد أحدهما بتشكيل أكثرية عددية تتجاوز الأكثرية العددية للآخر، أو إمكانية سحب حلفائهما بالاتجاه المقابل. ربما تكون هذه المحاولات ممكنة من الناحية النظرية ونقاشات المجالس وحملات الضغط النفسي والإعلام ومقولات وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنها من الناحية الواقعية والميدانية، لايمكن أن تتحقق.

   قد يتصور بعضهم أن المالكي مع حلفائه يمتلك ما يقرب من (85) مقعداً، وأن الصدر لديه مع حلفائه (82) مقعداً تقريباً، ويستطيع أي منهما أن يتفق منفرداً مع بعض الفرقاء الشيعة أو السنة والكرد والمستقلين، ويشكل كتلة يزيد عددها على ثلثي مقاعد البرلمان (220 مقعداً). نعم هذا الأمر ممكناً في حسابات التنظير فقط، لكنه على المستوى العملي سيواجه بثلاثة جدران فولاذية، تسد عليه الطريق:

   أ- إن أياً من الطرفين إذا أراد أن يتحالف منفرداً مع أحزاب السنة والكرد؛ فإنها ستفرض عليه شروطاً باهضة الثمن، ومن شأنها كسر ظهر الشيعة والمزيد من ضياع مقدرات أهل الوسط والجنوب، وهو خط أحمر لن يسمح  به إطلاقاً حكماء الشيعة ورعاة الواقع الشيعي، وخاصة النجف والجمهورية الإسلامية، سواء رضينا بهذا التدخل أو لم نرض؛ فنحن نتحدث عن واقع قائم. 

   ب- إن أياً من الطرفين لايمكنه - منفرداً - جمع (220) مقعداً، لعقد صفقة شاملة تشمل الرئاسات الثلاث، مهما قدّم من تنازلات للكتل الأخرى، الكبيرة والصغيرة أو المستقلين؛ لأن انتخاب رئيس الجمهورية بحاجة الى ثلثي أصوات مجلس النواب، حداً أدنى.

   ت- إن السنة والكرد لن يتجاوزوا الأعراف التي قامت عليها العملية السياسية، وخاصة ما يرتبط باحترام إرادة كل مكون، من خلال كتله التقليدية مجتمعةً، في ترتيب بيتها والاتفاق فيما بينها على تسمية رئيس السلطة التي تمثل حصة المكون، أي أن الكرد والسنة لن يتحالفوا مع طرف شيعي دون غيره في تشكيل الكتلة الأكبر وتسمية رئيس الحكومة، وكذلك الأمر بالنسبة لتحالفات الشيعة مع بعض كتل الكرد والسنة دون غيرها، لتسمية رئيسي الجمهورية ومجلس النواب.

   هذه الجدران الثلاثة؛ تمنع أية محاولة لأحد طرفي الثنائية الشيعية لعزل الطرف الآخر، وسيكون التفرد بالتحالف مع الكتل المكوناتية الأخرى من أجل تسمية الرئاسات الثلاث؛ بمثابة انتحار سياسي واجتماعي.

   وهناك ثلاث دورات انتخابية سابقة، تمثل تجارب واضحة في هذا المجال؛ فائتلاف دولة القانون برئاسة المالكي، حصل على (89) مقعداً في العام 2010، وعلى أكثر من (102) مقعد في العام 2014؛ إلا أنه لم يذهب الى تشكيل الحكومة بمفرده، بمعزل عن التفاهم والتحالف مع الكتل الشيعية الأخرى. وهو ما حصل أيضاً في العام 2018؛ حين أخفق كل من التحالفين الشيعيين ( البناء والإعمار)  في تشكيل الحكومة منفرداً، بالرغم من دخول كل منهما في تحالفات منفردة مع الكتل السنية. وما لبثا أن اضطرا الى الدخول في تفاهمات ومحاصصات من أجل تشكيل الحكومة. فإذا كانت واقعية المالكي حالت دون ذهابه الى تشكيل حكومة أغلبية في العامين 2010 و2014، وهو يمتلك (89) مقعداً في الأولى و(102) مقعداً في الثانية؛ فكيف يمكن الآن لأي من الطرفين تشكيل حكومة أغلبية، وهو يحوز على عدد أقل بكثير من المقاعد؟!

   2-  إن محمد الحلبوسي وخميس الخنجر باتا قطبا الساحة السياسية السنية، ولا خيار لدى السنة سوى تفاهمها على تسمية رئيس مجلس النواب وتنسيب حصة السنة ومرشحيهم للوزارات. وهو ما حصل بالفعل، بعد تدخل المحورين التركي ــ القطري والسعودي ــ الإماراتي؛ ما يدل على سرعة المحورين في وعي ما يفرضه الواقع وأعراف العملية السياسية ومصالح المكون السني.

   3- إن مسعود البارزاني وبافل طالباني هما قطبا الساحة السياسية الكردية، ولا خيار لدى الكرد سوى تفاهمها على تسمية رئيس الجمهورية وتنسيب حصة الكرد ومرشحيهم للوزارات. وقد أذعن القطبان لهذه الواقعية كعادتهما بعد كل دورة انتخابية، ورتبا البيت الكردي بدعم أمريكي؛ بما يحقق مصالح أحزابه. 

    هذا التوصيف الواقعي، يؤكد أن الحل والربط في تحديد مستقبل الدولة القريب، هو بيد المالكي والصدر بالدرجة الأساس، ومعهما الحلبوسي والخنجر والبارزاني والطالباني، ويستحيل إلغاء (فيتو) أي من هؤلاء الستة، ولا يمكن تسمية الرئاسات الثلاث وتشكيل الحكومة دون إجماعهم، حتى وإن أجمعت الدول ذات الاهتمام على خلاف ذلك.

   وهذا لا يعني إلغاء دور الائتلافات الأخرى والمستقلين وحقوقهم في الرأي والمناصب؛ بل يعني العمل وفق ما يفرضه الواقع؛ بهدف تغليب المصالح العليا للبلد والإسراع في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وإلّا ستطول مفاوضات الكتل لأجل غير مسمى.
 
   أما الخطوات العملية التي تفرضهما هذه الواقعية؛ فتتمثل بما يلي:

   1- الاتفاق المفصلي بين المالكي والصدر على تشكيل الكتلة الأكبر، بوصفه الخيار الأفضل، أو  التفاهم على مرشح رئاسة الوزراء، وحقوق المكون الشيعي وائتلافاته في المسؤوليات الوزارية وغيرها، بالتشاور مع حلفائهما، كخيار بديل، وهو التفاهم الذي يسبق كل الاتفاقات الأخرى بين الكتل المكوناتية. 
    
    ولا يملك البيت الشيعي ورعاته غير  الالتئام، لدفع القطبين (المالكي والصدر) نحو خيار التفاهم. مع الإشارة الى أن هذا التفاهم لا يعني الصلح الحقيقي أو التحالف بالضرورة؛ بل يعني التوصل الى اتفاق على خطوات مشتركة عملية لتشكيل الحكومة، وضمان استحقاقات المكون الشيعي ومصالح العراق. 

   2- الاتفاق بين الحلبوسي والخنجر على تسمية مرشح رئاسة مجلس النواب، وحقوق المكون السني وكل ائتلاف سني في المسؤوليات الوزارية وغيرها، بالتشاور مع حلفائهما.

   3- الاتفاق بين البارزاني والطالباني على تسمية مرشح رئاسة الجمهورية، وحقوق المكون الكردي وكل ائتلاف كردي في المسؤوليات الوزارية وغيرها، بالتشاور مع حلفائهما.

    4- انعقاد الطاولة السداسية، التي تجمع الزعماء الستة المذكورين، والاتفاق على المبادئ الأساسية، ومنها الاتفاق على مواصفات الرؤساء الجدد، وأسماء المرشحين، وتحديد حقوق الائتلافات في تسميتهم وفي المسؤوليات الوزارية وغيرها.

    وهنا؛ لا بد من الإشارة الى قضية واقعية وقائمة، لكنها تثير حساسية الرأي العام العراقي، وتتعلق بتدخل الدول الأخرى في التسميات والترشيحات، وهو ما يسمونه بالوساطات وتقريب وجهات النظر، وهو أمر لا بد منه بين الكتل داخل المكون الواحد؛ بالنظر لحجم الخلافات النفسية، وخاصة داخل المكون الشيعي. 

   وقد نجح المحوران التركي ــ القطري والسعودي بتوحيد رؤى الكتل السنية؛ بهدف ضمان حقوق المكون السني وكتله، ودخولها متفاهمة الى الجلسة الاولى لمجلس النواب. وهو ما يحصل أيضاً للمساعي الامريكية لتوحيد رؤى الإئتلافات الكردية. وتبقى الكتل الشيعية بحاجة الى طرف شيعي أبوي للتقريب بين وجهات نظرها وتوحيد خارطتها، ويتمثل هذا الطرف إلزاماً في النجف والجمهورية الإسلامية.
 
   وفيما لو تم الاتفاق بين الثنائية الشيعية، وانتهت التفاهمات الأولية مع الثنائيتين السنية والكردية الى عقد الطاولة السداسية؛ فإن انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب، واختيار الرئاسات الثلاث، وتصويت المجلس على تشكيل الحكومة الجديدة؛ لن يطول أكثر من شهر واحد، وهو ما سيحفظ مصالح المكون الشيعي، ولا يضطره الى تقديم مزيد التنازلات، كما سيحقق للمكونين السني والكردي ما يصبوان اليه من مطالب معقولة، وصولاً الى تشكيل حكومة متوازنة ومقبولة، ويمكنها العمل بهدوء نسبي حتى نهاية دورتها. 

   أما إذا انتهت مداولات الثنائية الشيعية الى طريق مسدود، وكان هناك اصرار على ذهاب إحداهما الى المعارضة؛ فإن الحكومة ستولد عرجاء، وسيضطر الطرف الشيعي الحكومي الى استنزاف مصالح أهل الوسط والجنوب، كما ستسقط الحكومة في مستنقع الاستجوابات والعراقيل وفوضى الشارع، ولن تستطيع إكمال دورتها، بما لايقبل الشك.