محافظة درعا..منها البداية ومنها النهاية


ما من شكٍّ أنّ الكثير من أجهزة الإستخبارات العالميّة، وخاصّة الأميركيّة والإسرائيليّة، قد عملت بنشاطٍ وبفاعليةٍ قبل إعلان الحرب على سوريا، وما من شكٍّ أن كلّ بقعةٍ جغرافيةٍ سوريةٍ كانت مُعدّة بحرفيةٍ لتؤدي دورها في هذه الحرب، وقد يكون الدور الأساسي الذي رُسم لإرهابيي محافظة درعا، هو أن يجعلوا من المحافظة عاملاً يمتد ليُشعل كلّ المناطق السوريّة، ولكن كان نجاحهم محدوداً، ليتحوّل هذا الدور لاحتلال مواقع ومراكز الدفاع الجوي السورية، وتدميرها، وتسليم محتوياتها للإستخبارات الإسرائيليّة، كذلك للسيطرة على الحدود السوريّة مع كلٍّ من الأردن وفلسطين المحتلة، ليكونوا الجسر الذي يُنقل عليه الدعم اللوجستي الآتي من الأردن و"إسرائيل".
أكثر من عشر سنواتٍ مضت على الحالة الدرعاويّة، والقيادة السوريّة تُراقب عن كثبٍ ما يجري وما يُخطّط له، ولكنّها وبحسب ظروف كلّ منطقة،ٍ وبحسب الأولويات، تركت ملف درعا مُجمّداً، لتتعامل مع ملفاتٍ أصبحت تُشكّل خطراً أكبر، مثل ملفات حمص وحلب وريف دمشق.
أمّا وفي هذا الوقت، فقد حدثت الكثير من المُتغيرات على مستوى المنطقة، والتي يأتي في مقدمتها التراجع الأميركي الذي أدى إلى تغيير الأولويات الأميركيّة، وهذا ما ظهر من خلال عدّة أمورٍ، منها نقل جنودٍ وعتادٍ أميركيين من العراق إلى الأردن لدعم وتعزيز عمل المجموعات الإرهابيّة العاملة ضمن محافظة درعا، ولمنع الجيش السوري من تحريرها وبالتالي فصل درعا وريفها عن الدولة السوريّة، لتشكّل كانتوناً عازلاً وحامياً لإسرائيل، ولقد وصلت كلٍّ من الولايات المتحدة و"إسرائيل" إلى قناعة، بأنّ هذا الإنجاز سيكون مقبولاً بعد فشلهم في تحقيق هدفهم الأساسي المتمثل بإسقاط الدولة السورية بالكامل. 
من الواضح أن روسيا تعاملت مع مسلحي درعا بكثيرٍ من المرونة، حيث توسّطت لدى الدولة السوريّة لإجراء الآلاف من عمليات تسوية الأوضاع لعناصر قاتلوا ضد الدولة السوريّة، كما قامت بتنظيمهم ضمن فيلقٍ عسكريٍ مُموّل من قِبلها وخاضعٍ لأوامرها، وأوكلت لهذا الفيلق مهمة الحفاظ على الأمن في درعا، الشيء الذي استغله عناصر الفيلق والتسويات لِشنّ هجماتٍ مُسلّحةٍ على مواقع للجيش السوري أودت بحياة مئات الجنود والضباط السوريين، ولقد كان مُلفتاً تعامل روسيا مع عناصر تسويات درعا بخلاف غيرهم من تسويات مُشابهة في مناطق أخرى التحق عناصرها ليقاتلوا إلى جانب الجيش السوري، فربّما تكون هذه المرونة هي نتيجة رضوخٍ روسيٍ للضغوط الأميركيّة ريثما تتغير بعض المعطيات، أو قد يكون ذلك نتيجة تفاهم أميركيٍّ روسيٍّ تتولى روسيا من خلاله إدارة الملف السوري مقابل ضمان أمن إسرائيل، وقد يكون نهجها في درعا هو لطمأنة إسرائيل بأنّ حدودها مع سوريا ستكون ممسوكةً من قِبل روسيا بواسطة مسلحي درعا، وأن الجيش السوري أو الفصائل المُقاومة لن تصل في الوقت الحالي إلى هذه الحدود، وهنا يأتي تصريح وزير الخارجيّة الروسي بعد لقائه مع نظيره الإسرائيلي منذ أيام ليعزّز هذا الرأي، حيث قال الوزير الروسي "روسيا مُتمسكةٌ بضمان أمن إسرائيل، ونحن نؤكد دائماً أنّها من أهم الأولويات بالنسبة لنا في القضية السورية ". 
ولكن فهم القيادة السوريّة للمُخطّط الأميركيّ، وتفهمها للموقف الروسي، وشعورها بمعاناة أهالي درعا، جعلها تتمسك بتحرير درعا كاملةً وهذا ما حصل بالفعل.
ولأن أمن "إسرائيل" هو أساس الحرب على سوريا، فمن المؤكد أن استكمال تحرير ريف درعا، ووصول القوات السورية إلى خط فضّ الإشتباك مع جيش الكيان الصهيوني هو الإنجاز الأهم للدولة السوريّة، ليبقى التعامل مع بقيّة الملفات في الشمال وفي الشرق أكثر سهولةً وأقل خطورةً، ولاسيّما بعد الكثير من الأحداث والمؤشرات، التي يأتي في مقدمتها الإنسحاب الأميركي من أفغانستان، وما سيتبعه من إنسحابات على مستوى المنطقة، أو مثل تغيير الخطّة الأميركيّة التي كانت مرسومة للبنان، من العمل على إنهياره وجعله ورقةً مُشتعلةً بوجه حزب الله، إلى المسارعة إلى إنقاذه من خلال مدّه بالغاز المصري والكهرباء الأردنيّة، وذلك بعدما قلب محور المقاومة الطاولة على الأميركي، وكَسر الحصار على كلّ من لبنان وسوريا، ليتيقن الأميركي أنّ المحور قرّر الذهاب حتى النهاية في أيّ تحدٍ، وبالتالي بقاء لبنان بوضعه الحالي سيكون أفضل من تفجيره.
هذه المؤشرات وغيرها توحي بالنيّة الأميركيّة على تبريد المنطقة، والخروج من معاركها بأقلّ الخسائر، كلّ ذلك وضع كافّة الأطراف التي كانت ترتكز على الوجود الأميركي في المنطقة في حالة إعادة حسابات، لأنّ الخروج الأميركي يعني خروج جميع المتورطين بالحرب على سوريا، وهذا ما دفع القيادة التركيّة إلى الإلحاح على لقاءاتٍ أمنيّةٍ مع سوريا، الشيء الذي رفضته القيادة السوريّة حتى الآن.
أخيراً، من الواضح أنّ كلّ الأطراف المُتورطة في أزمات المنطقة تُراجع حساباتها لتكون أكثر واقعيّة، ومن الواضح أنّ الجميع ينتظر المفاجأة الأميركيّة القادمة بعد مفاجأة إنسحابها المُهين من أفغانستان، وهنا تقتضي العقلانيّة ألّا تنتظر تلك الأطراف المفاجآت الأميركيّة، بل عليها أن تبني حساباتها على أنّ أيام التواجد الأميركيّ في المنطقة تتناقص بشكلٍ مُتسارع،ٍ وأنّ الأميركي، تاريخياً، يتخلى عن عملائه عند أول مُنعطف،ٍ ولن يكون آسفاً وهو يراهم يتساقطون من الطائرات التي تحمل الجنود الأميركيين إلى خارج حدود هذه المنطقة،فهل يعقلون؟.