ولادة النبي محمد: اتمام منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري


في الحديث المروي عن النبي محمد (ص) قال:"إنما بُعِثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ". وعلى قصر هذا الحديث فانه يسلّط الاضواء الساطعة على موقع النبي محمد في حركة التاريخ البشري الممتدة منذ استخلاف الانسان في الارض الى وراثة الارض على يد الامام المهدي ومن ثم ولادة المجتمع المعصوم. 
وهي مسيرة طويلة سجل القران الكريم محطاتها الاساسية في عدد من اياته مثل قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". 
وقوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ". 
واخيرا قوله تعالى:"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدً".
تعمل مسيرة الانبياء على البناء التدريجي لمنظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري المؤلف من خمسة عناصر هي: الانسان والارض والزمن والعلم والعمل.  وكلما ازداد هذا البناء اكتمالا، ازدادت البشرية من الاقتراب من الله عن طريق بناء المجتمع الصالح، مجتمع العدالة والكرامة، المجتمع الذي يحقق اهداف الخلافة الربانية في الارض والتي تشير الى بعضها الاية القرانية الكريمة:"الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ". ومنظومة القيم هي المؤشرات السلوكية العليا التي يبنى على اساسها المجتمع البشري، وتضبط بموجبها علاقة الانسان باخيه الانسان من جهة، وعلاقة الانسان بالطبيعة من جهة اخرى، وصولا الى صيانه المسيرة الحضارية التصاعدية للمجتمع البشري من الانحراف والانتكاس والنكوص.
وهكذا شهدت منظومة القيم العليا نموا متراكما على يد الانبياء والصالحين من البشر، حتى وصلت الى درجة عالية من التكامل على يد الرسول الكريم الذي ظل يجاهد على مدى ٢٣ عاما من اجل نشر منظومة القيم العليا وترسيخها في المجتمع البشري انطلاقا من الامة التي "أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"، بشرطها وشروطها كما ذكرها القران بقوله: "تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ"، في الوقت الذي كان يخطط لاستمرار البناء التراكمي لها على يد وصيه وابي اوصيائه الامام علي. ورغم اشارات النبي الكثيرة الى هذا الدور المناط بعلي اثناء حياته، الا انه اراد ان يوثق هذا الامر قبل وفاته، حين طلب من الذين كانوا حوله من المسلمين في مرضه الذي كانت فيه وفاته ان يأتوه بقلم وقرطاس ليكتب لهم وصيته الاخيرة.
 يروي عبد الله بن عباس، ابن عم الرسول، والدي سوف يلقب لاحقا بكلمة "حبر الامة"، تلك اللحظات التاريخية الحرجة، بحديث اجمع ارباب الحديث والتاريخ على اعتباره صحيحا سندا ومتنا، وروته المصادر الاساسية كتاريخ الطبري، والبخاري، ومسلم، وغيرهم. ونص ما قاله ابن عباس:
"لَمَّا حُضِرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفي البَيْتِ رِجَالٌ، فيهم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، قَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هَلُمَّ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ غَلَبَ عليه الوَجَعُ، وعِنْدَكُمُ القُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ. فَاخْتَلَفَ أهْلُ البَيْتِ فَاخْتَصَمُوا، منهمْ مَن يقولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، ومِنْهُمْ مَن يقولُ ما قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغْوَ والِاخْتِلَافَ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قُومُوا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكانَ ابنُ عَبَّاسٍ، يقولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ ما حَالَ بيْنَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبيْنَ أنْ يَكْتُبَ لهمْ ذلكَ الكِتَابَ، مِنَ اخْتِلَافِهِمْ ولَغَطِهِمْ. (واللفظ  للبخاري). وكانت تلك بداية الخلل الحاد في منظومة القيم العليا التي جاء بها الرسول ونص على مفرداتها القران، وهو الخلل الذي تراكم تدريجيا على الضد من التراكم في منظومة القيم العليا وادى الى انحدار المجتمع الاسلامي وتخلفه في مختلف الميادين.
واليوم، ونحن نعيش ذكرى ولادة الرسول، في مجتمع اصابه التخلف الحضاري، ما احرانا ان نستأنف بناء منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة في ضوء ما جاء به الرسول واهل بيته، لكي يستعيد المجتمع الاسلامي، ومنه المجتمع العراقي، سيره الحثيث في طريق القضاء على التخلف وتحقيق التقدم والتكامل.
  ذلك "لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ".