لفقه الدستوري عند السيد محمد باقر الصدر

القسم الثالث


   إن الفرق الأساس بين النظريتين الفقهيتين الدستوريين للسيد محمد باقر الصدر، التأسيسية في العام ١٩٥٩ ( دولة حزب الدعوة) والتأصيلية في العام ١٩٧٩ (دولة الإمام الخميني)،، هو أن الأولى كانت تنسجم مع النسق التنظيري السائد في الفكر السياسي الإسلامي، والذي يؤسس لدولة إسلامية تقع خارج محددات القانون الدولي والقانون الدستوري وحدود الجغرافيا الوطنية والقواعد الفقهية المذهبية، بوصفها دولة عقائدية عامة. بينما تؤسس النظرية الثانية لدولة ذات حدود جغرافية وكيان وطني، وخاضعة شكلاً ومضموناً لضوابط القانون الدستوري الحديث وأحكام القانون الدولي وقواعد الفقه المذهبي، وإن كانت دولة عقائدية في جوهرها. أي أن السيد الصدر  كان في النص الأول يؤسس لدولة إسلامية نظرية، والثاني لدولة واقعية تستند الى قواعد الفقه السياسي المذهبي. ولذلك؛ لم تكن التكييفات الفقهية والقانونية واللغة التخصصية في النظرية الثانية؛ أكثر نضوجاً وعمقاً من النظرية الأولى وحسب؛ بل كانت تعبر عن تطور نوعي في وعي الزمن ومتغيراته ومتطلباته، وخبرة تراكمية في فهم المتطلبات القانونية الوضعية للدولة الإسلامية العصرية، بما في ذلك الجانب المتعلق بالضبط المذهبي لأسس الدولة وحركتها.

   كما لم يتفوق السيد الصدر في النظرية الثانية على نفسه وحسب؛ بل تفوق كثيراً في العمق الفقهي والإبداع الفكري التأسيسي والجمع بين لغتي الفقه والقانون على رؤية الميرزا النائيني في الحكم الدستوري (التنزيه والتنبيه)، ونص الدستور الإسلامي للمودودي ورؤية حسن البنا الدستورية في رسالته الى المؤتمر السادس ودستور الإخوان، ودستور مشيخة الأزهر في العام ١٩٧٧، ورؤية النبهاني في الحكم الإسلامي. 

       وبمقارنة سريعة بين رؤية النائيني التوفيقية ونظرية الصدر التأصيلية، سنقف على البون الشاسع بين النصين على كل المستويات، ولاسيما على مستوى التأصيل الفقهي؛ إذ أن رؤية النائيني التوفيقية ولغتها أقرب الى المعالجة الفكرية السياسية لواقع إشكالي خلقته أفكار فقهاء (المشروعة) وسلوكهم السياسي، وفي مقدمهم الشيخ فضل الله النوري، في مقابل فقهاء (المشروطة) وسلوكهم السياسي، وفي مقدمهم السيد عبد الله البهبهاني الغريفي، فضلاً عن وجود دولة شاهنشاهية ثيوقراطية متجذرة؛ فقد حاول النائيني من خلال بحثه التوفيق بين الإرث الإيراني التقليدي المتمثل بالحكم الملكي الأبوي الوراثي وسيادة الشاه من جهة، ومطاليب ثورة المشروطة في إعطاء دور للشعب في اختيار نوابه لمشاركة الملك في التشريع وفي اختيار السلطة التنفيذية من جهة أخرى(11). أما شرعية الملك فهي ذاتية، من منطلق كونها أمراً واقعاً، وهو ما حصل بالفعل؛ إذ بقي الشاه القاجاري ثم الشاه رضا والشاه محمد رضا بهلوي يستندون في شرعية ملكهم وحكمهم حتى العام 1979 الى دستور المشروطة الذي نظّر له الميرزا النائيني، وهو يتشبه بالفكر السياسي الذي سبق أن طرحه الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (...) والسيد جمال الدين الأفغاني (...) وآحرين لمواجهة استبداد الدولة العثمانية. وبالتالي؛ تمخضت المعالجات الفكرية السياسية الإسلامية الانفعالية التي حصرت مهمتها في مواجهة الاستبداد السلطاني والحكم المطلق، دون أن تؤصل للحكم الإسلامي أو الدولة الإسلامية؛ تمخضت عن نظام ملكي وراثي استبدادي علماني جديد أسسه رضا خان في ايران، ونظام جمهوري دكتاتوري عسكري علماني أسسه كمال اتاتورك في تركيا.

    وبالتالي؛ فإن المعالجات التوفيقية الانفعالية تختلف جذرياً عن النظريتين العميقتين للسيد محمد باقر الصدر؛ التأسيسية في العام 1959 والتأصيلية في العام 1979، فوفق النظرية الأولى كان السيد الصدر أول فقيه شيعي ينظِّر لشرعية إقامة دولة إسلامية في عصر الغيبة، ويؤسس لقواعدها العقدية والفقهية، وهي النظرية التي قام عليها حزب الدعوة الإسلامية. والتي مهدت للفقهاء الآخرين تناول موضوع الدولة الإسلامية من مداخل أخرى، أبرزها مدخل ولاية الفقيه. أما نظرية السيد الصدر الثانية؛ فقد مثلت جهداً فكرياً وفقهياً أساسياً أثمر عن دستور يؤسس لأول دولة إسلامية متكاملة الأركان الشرعية في عصر الغيبة بقيادة الإمام الخميني.     

   وقد ظلت نظرية حزب الدعوة الإسلامية في موضوع الدستور تتطابق مع النص الأول لمؤسسه السيد محمد باقر الصدر، ثم أجرى عليها تعديلاً جوهرياً بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية؛ يتطابق مع النص الثاني للسيد الصدر؛ إذ تبنى الحزب نظرية الصدر التي لخّصها في دراسته عن «دستور الجمهورية الإسلامية» ودراسة «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء». ويذهب حزب الدعوة في إحدى نشراته الفكرية الصادرة في العام 1980 إلى أن ما يقصده بالدستور الإسلامي «يشمل ما يلي:

   أولاً: التصورات والقوانين العامة التي تشخص الإطار العام للقوانين الحاكمة في الدولة الإسلامية، والتي لها قابلية الثبات؛ أما إلى الأبد؛ على أساس أنها من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية، أو إلى أمد معتد به؛ على ضوء الظروف المنظورة، على أساس أنها وإن كانت من منطقة الفراغ التي تملأ وفق الظروف؛ ولكن لوحظت في ملئها ظروف طويلة.
   ثانياً: المقررات الهامة الثابتة؛ حتى لو أنها لم تكن تعين الإطار العام؛ كلون العلم وأمثال ذلك.

   كما نصطلح بالقانون على كل ما يوضع من قوانين لاتمتلك الصفة الدستورية الآنفة. وكل مادة من مواد الدستور أو القانون لايمكن الإستغناء في تحديدها عن آراء الفقهاء؛ يجب أن توضع من قبل الفقيه».

   بيد أن هذه النظرية وسابقتها؛ تلاشتا واقعياً بمجرد دخول حزب الدعوة العملية السياسية في العراق الجديد بعد العام ٢٠٠٣؛ إذ لم يعد متصوراً تمسك الحزب بنظريته الدستورية الأولى المتمثلة بتأسيس دولة إسلامية عامة على أساس مبدأ الشورى في حكمها وقيادتها، ولانظريته الثانية القائمة على الجمع بين ولاية الفقيه وحكم الأمة؛ لأنه وجد نفسه - دون سابق تنظير - في خضم عملية سياسية قائمة على التحاصص المذهبي والقومي والفكري، وما نجم عنها من نظام ديمقراطي توازني ودستور تعددي؛ كان لابد للحزب من العودة الى فكر مؤسسه وفقهه السياسي لتكييف أو استلهام نظرية فقهية ثالثة تنسجم مع متطلبات الزمان والمكان وتستجيب للتغييرات التي طرأت على موضوع النظريتين السابقين، وهي التغييرات التي تستدعي إيجاد نظرية ثالثة.
   
   وإذا كان التنظير المعاصر للفقه الدستوري الإسلامي، وفي المقدمة تنظيرات الفقهاء السيد محمد باقر الصدر والشيخ مرتضى المطهري والسيد محمد حسين البهشتي والشيخ حسين علي المنتظري والشيخ عميد زنجاني؛ قد نجح في التأسيس لدولة إسلامية حديثة ونظام سياسي عصري، صهرا في جوهرهما وشكلهما مباديء العقائدية والفقاهة من جهة، وقواعد المدنية والوطنية والشعبية في تمسكها بالقانون الدستوري والقانون الدولي والأعراف الديمقراطية من جهة أخرى؛ فإن الواقع التعددي المذهبي والظرف السياسي اللذين تعيشهما البلدان  الإسلامية الأخرى، كالعراق ولبنان؛ يستدعي تكييفات اجتهادية لفقه دستوري اسلامي آخر، ينطوي على استيعاب للتعددية المذهبية والفكرية والظروف السياسية والاجتماعية، بهدف انتاج دستور توفيقي علماني إسلامي، رصين، ويحظى بحد مناسب من المقبولية الشرعية، لكي يتيح للجماعات الإسلامية (شرعنة) اشتراكها في حكم الدولة والنظام التعددين اللذين يفرزهما ذلك الدستور، ولايكون اشتراكها مجرد ممارسة سياسية وسباق من أجل السلطة، ككل الجماعات السياسية الأخرى؛ على اعتبار أن ماهية السياسة وممارستها وتعريف السلطة وعناوينها؛ تختلف اختلافاً جوهرياً بين الإسلاميين والعلمانيين؛ وإن اشتركا في شكل الممارسة والعناوين.