ماذا تبقى لأوكرانيا من مقوّمات قوّتها؟


تؤدّي عوامل القوة المتاحة للدّولة دوراً كبيراً في تحديد مكانتها في الساحة الدولية، من خلال امتلاكها إمكانيات القوة المتمثّلة بالقدرات الاقتصادية والقوة العسكرية والبنية التكنولوجية، والفعاليات الثقافية والمؤسسات السياسية، وغيرها من أسباب القوّة التي تمكّنها من التأثير في سلوكيات الدول الأخرى في الاتجاهات التي تريدها أو مواجهة التهديدات المفروضة عليها بما يحقق مصالحها.

بات من المعروف جيداً أن ما لحق بأوكرانيا كان نتيجة سلسلة من الإجراءات التي استهدفت روسيا بوجودها ككل، وليس أمنها السياسي أو العسكري فحسب. على سبيل الافتراض، لو انضمت أوكرانيا إلى الناتو، وأقام الأخير قواعده فيها، فإنَّ ذلك كان سيقود إلى تقريب البنية التحتية العسكرية للناتو من حدود روسيا. ولهذا الأمر مفرزاته الأمنية والعسكرية المباشرة.

بعد مرور أكثر من شهر على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لا بدَّ من دراسة ما لحق بمقومات قوتها وفق المؤشرات المعتمدة لدى الباحث، من قبيل ما يلي:

أولاً: القدرات الاقتصادية
أحصت الحكومة الأوكرانية في 29 آذار/مارس 2022 خسائرها الاقتصادية التي سببتها العملية الروسية على أراضيها بأكثر من 560 مليار دولار. وقد تحدّثت وزيرة الاقتصاد الأوكرانية عن تدمير 10 ملايين متر مربع من المساحات السكنية، إضافةً إلى 200 ألف سيارة.

وقدّرت تراجع الناتج المحلي الإجمالي بـ102 مليار يورو في العام 2022، ما يعني انكماشاً بأكثر من 55% من الاقتصاد بالنسبة إلى العام 2021، وأوضحت أنَّ موازنة الدولة الأوكرانية قد تنخفض 43.8 مليار دولار، أي بتراجع بنحو 90% عن الموازنة السنوية التي كانت متوقعة في البلاد.

 ثانياً: الوحدة الجغرافية
حقّقت روسيا بعض الانتصارات الميدانية، وسيطرت على مدن ميليتوبول وخيرسون وإزيوم، وهي تفرض حصاراً شديداً على ماريوبول، إضافة إلى سيطرتها سابقاً على شبه جزيرة القرم، وموالاة أغلبية منطقتي دونيستك ولوغانسك لها، فيما لا تزال المناوشات مستمرة قرب العاصمة كييف. 

استقلّت لوغانسك (مساحتها 257 كلم2) ودونيتسك (مساحتها 138.2 كلم2) من مساحة 233,031 ميلاً مربعاً هي مساحة أوكرانيا الكلية. وبالنسبة إلى دونيتسك، تشتهر المدينة بوجود أكبر مناجم الفحم الحجري والحديد والصلب فيها. 

ثالثاً: القوة العسكرية
ذكرت وزارة الدفاع الروسية أنها دمّرت 128 موقعاً للجيش الأوكراني، منها 7 مستودعات أسلحة وذخيرة، كما دمرت 111 طائرة حربية و68 مروحية و160 مسيرة. 

في 22 آذار/مارس 2022، أعلنت وزارة الدفاع الروسية يوم الثلاثاء تدمير 236 طائرة مسيرة، و185 نظاماً صاروخياً، و1547 دبابة، و137 منشأة عسكرية أوكرانية، بما في ذلك نقاط مراقبة ومراكز اتصال، منذ بدء العملية العسكرية في أوكرانيا.

 وقال المتحدث الرسمي باسم الوزارة إيغور كوناشينكوف إنّ من المنشآت التي تم قصفها منظومتي إطلاق صواريخ متعددة، ونظاماً صاروخياً مضاداً للطائرات، و8 مستودعات صواريخ تحتوي أسلحة وذخيرة مدفعية، و101 مكان تخزين للعتاد العسكري.

وأفادت سلطات مدينة دنيبرو بتعرّض قاعدة عسكرية لتدمير كبير جراء قصف روسي بالصواريخ، وغير ذلك من الخسائر العسكرية اليومية التي تصيب أوكرانيا نتيجة التركيز على نقاط قوتها العسكرية. 

رابعاً: البنية التحتية
أشارت وزيرة الاقتصاد الأوكرانية سفيريدنكو إلى أنّ الخسائر الأكبر كانت على مستوى البنى التحتية التي "تدمرت جزئياً أو بالكامل (نحو 8 آلاف كيلومتر)"، إضافةً إلى "عشرات محطات القطار والمطارات" بقيمة 108.5 مليار يورو. 

في 3 نيسان/أبريل 2022، أعلنت وزارة الدفاع الروسية تدمير مصفاة لتكرير النفط و3 مرافق لتخزين الوقود ومواد التشحيم في مدينة أوديسا الأوكرانية على البحر الأسود بصواريخ بحرية وجوية عالية الدقة. وفي 18 آذار/مارس 2022، فقدت الوصول إلى بحر آزوف "مؤقتاً"، بعد إحكام القوات الروسية قبضتها على ميناء ماريوبول الرئيسي على البحر، في الوقت الذي يشتد الحصار المفروض على المدينة.  
تسبّبت الحرب بتدمير طال البنية التحتية الأساسية من الطرق والموانئ والمطارات الأوكرانية، نتيجة الأضرار التي لحقت بها، كما تسبّب إغلاق الموانئ الأوكرانية المطلة على البحر الأسود بعرقلة حركة النقل البحري، وقدرت أوكرانيا خسائرها في البنية التحتية بأكثر من 565 مليار دولار منذ بدء العملية العسكرية الروسية، بحسب وزير البنية التحتية في أوكرانيا أوليكسندر كوبراكوف.

خامساً: الوضع الديموغرافي
فرّ أكثر من 3.5 مليون شخص من أوكرانيا وفق تقارير للأمم المتحدة. وقد أكدت الأخيرة أن أوروبا لم تشهد مثل هذا التدفق السريع للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية، وأكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) أن هناك أكثر من 1,5 مليون طفل من الفارين، وأن نحو 90% من الفارّين نساء وأطفال. 
في النتيجة، واستناداً إلى الأضرار التي أصابت أوكرانيا من جهة، والنتائج التي ترتّبت على سياساتها من جهة أخرى، يمكن القول إنَّ الأهداف المحورية للعملية الروسية في أوكرانيا تحقّقت بالنظر إلى النتائج التي تمخضت عن هذه العملية عسكرياً واقتصادياً وجيوسياسياً، فالغاية كانت، وما زالت، منع اقتراب الناتو إلى الحدود الروسيّة عبر البوابة الأوكرانية، ومنع إقامة قواعد عسكرية تعوق حركة روسيا وتقيدها.

كان يُخطّط لأوكرانيا أن تكون رأس حربة في الخاصرة الروسية، ولكن انقلبت الموازين بفعل العملية العسكرية الروسية، فحلف الناتو لم يقف إلى جانب أوكرانيا كما أراد الأوكرانيون، ولا سيما من الناحية العسكرية، إذ ذهبت التصورات إلى نشوب حرب دول ضد دول، ولكن لم يحصل ذلك.

وبالتالي، كان ذلك صدمة سياسيّة لأوكرانيا، إضافةً إلى تجفيف منابع قوتها، فقد تم تقطيع أوصالها، وانتزاع أجزاء من جغرافيّتها، وتوجيه ضربة إلى سيادتها وتكاملها الإقليمي والمحلي، إضافةً إلى إنهاك اقتصادها وإضعاف قوتها العسكرية إلى درجة لم تعد تقوى معها على تشكيل أي تهديد ذاتي لروسيا، والداعمون الخارجون لم يعودوا يعوّلون على الجيش الأوكراني.

في المجمل، لم تعد أوكرانيا تشكّل أيّ تهديد مؤثر في أمن روسيا، نظراً إلى ما لحق بمقومات قوتها من ضربات مؤثرة على كلّ الصعد. وما زالت العملية الروسية مستمرة، ولا بدّ من أنَّ تطوّر التحرك الروسي سيعقبه ردود فعل دوليّة، وخصوصاً من أعداء روسيا ممثلين بدول الناتو.
ومما أراه وأعتقده أنَّ ضرب مكامن قوة أوكرانيا وحرمانها من أداء دور الخاصرة أمر ضروري، ولكن الاستمرار بالسيطرة على الأراضي الأوكرانية، ومن ثم ضمها إلى الاتحاد الروسي، أمرٌ لا بد منه. 
على أيِّ حال، هذا الأمر يرجع إلى تقديرات القيادة الروسية التي فاجأت العالم بعمليتها، والتي ذهبت الظنون إلى أن حشودها العسكرية تهدف إلى الترهيب وممارسة الحروب النفسية، لتكون عاملاً يجبر الأوكران على التفاوض، ولكن روسيا لم تكن تمزح، وهي لا تمزح في ما يخص قضايا أمنها القومي.