البيان القرآني.. خواطر وتأملات
مع بداية العام الهجري الجديد، ودخولنا في شهر محرم أولى شهور العام الجديد، ليس أجمل من أن نبدأه بأن نكون في حضرة القرآن الكريم وعذب كلماته، روحانياته، وتأملاته، صفاء القلوب من هديه وتعابيره وقوة معانيه وبيانه، كل عام ونحن على هدي نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم.
إن الأسلوب البياني وطريقة التعبير عن الأفكار والقضايا جزء مهم من الشخصية العلمية لكل فرد، ونلاحظه بين كل مفسر للقرآن الكريم وآخر، إذ تتمثل مسألة التفسير في فهم كتاب الله تبارك وتعالى، وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحِكَمَه وأهم نقطة كشف معاني القرآن الكريم وبيان المُراد منه.
وقد بدأ تدوين التفسير في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي إذ انتشر التدوين بصورة واسعة، وعُني العرب بتدوين كل ما يتصل بدينهم الحنيف، فقد تأسست في كل بلدة إسلامية مدرسة دينية عنيت بتفسير الذّكر الحكيم، ورواية الحديث النبوي الشريف، وتلقين الناس الفقه وشؤون التشريع، وكان كثير من المتعلّمين في هذه المدارس يحرصون على تدوين ما يسمعونه، وكانت العناية بالمأثور منه، والاتجاه اللغوي والبياني، حيث تفجرت الدراسات البيانية والبلاغية من نبع القرآن، وكتبت كتب إعجاز القرآن منذ القرن الثالث الهجري بعد أن ضعف اللسان العربي وبدأ التشكيك يدب من المغرضين، وأراد جهابذة الإسلام وحملة البيان الوقوف على مكامن الإعجاز والتحدي الذي تنزل به القرآن؛ فكانت كتب الإعجاز، وجاء شيخ البلاغة الإمام عبد القاهر الجرجاني فأعمق النظر ودققه، وأنعم الفكر وعمقه؛ فتفجر علم البلاغة في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، فكانت البلاغة علماً شامخاً نبتت جذوره من أعماق بيان القرآن.
فتأثر علماء التفسير ممن جاء بعده بنظرية النظم التي أقام بنيانها وآتت أكلها، فكان العلماء ينهلون من منهلها العذب النمير في التفسير؛ للوقوف على أسرار التعبير في كلام الله تبارك وتعالى ابتداءً من الإمام الزمخشري وكتابه الكشاف، ثم هرع المفسرون يتأثرون فأبحر أبو حيان في بحره المحيط، وفتح الرازي مفاتيح غيب التأويل في تفسيره الكبير، وأرشد أبو السعود العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، واقتبس البيضاوي من أنوار التنزيل أسرار التأويل، واستلهم الألوسي روح المعاني من محكم التنزيل، ونهل جهابذة التفسير من معين البيان الحكيم، وحلق قطب بنظراته الفكرية البيانية الثاقبة، وسار ركب المفسرين ينهلون من هذا المقام، وقبلهم جميعاً كان شيخ المفسرين الإمام الطبري الذي سمى تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) فأودع فيه نظرات بيانية عميقة الفهم في كتاب الله عز وجل. وجعل الوقوف على دقائق أسرار البيان من جهوده في معرفة تأويل القرآن.(1)
تلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسالة فبلّغها بكل أمانة، وبنى أمة مترامية الأطراف على دين الإسلام، قال تبارك وتعالى: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلا الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى)، لنتأمل هذه الآيات الجميلة ونبحر معاً في معانيها القوية البيانية الجميلة، سورة طه وهي سورة مكية، إلا آيتين اثنتين في آخرها، هما مدنيتان، هناك من ينظر إلى سورة طه على أنه (طه) اسم وينطقونها على هذا الأساس، لكن إذا نُطقت على مقطعين اثنين (طا ها) مثل (ألف لام ميم)، هنا نكون ننطق حرفين طاء وهاء وهما من الحروف المقطعة التي يُراد منها تحدي العرب في لغتهم، فالقرآن الكريم نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين، يعجز كل العرب على أن يأتوا بمثله وإن كان بلغتهم، هنا كان لا بد من فهم بداية سورة طه لمعرفة الصور والمعاني البيانية والبلاغية في داخلها، ارتأيت أن أقف عندها لبعضٍ من التوضيحات ولقراءات متعددة في كتب التفسير القرآني، خاصة وأن الناس يظنون أن طه و(يس) ياسين من أسماء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن القرآن يخاطب الرسول، فيقول له: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) وكما أشرت البداية أنها حروف مقطعة (طا ها) فمثلاً قد تأتي هذه الحروف إما في سياقٍ عن القرآن الكريم مثل (نون والقلم وما يسطرون)، أو تأتي في خطابٍ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مثل (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، وهنا خطاب موجه لنبي الإسلام، بالقول إن نزول القرآن رحمةً لك ولأمتك، لا لأن تشقى به كما يقول المشركون.
بالتالي جاء القرآن الكريم لتحقيق وظيفة النبوّة وهي التذكير بالله تبارك وتعالى، والتذكير بمفهوم الدين الحق ورحمة الله عز وجل، والتذكير هنا يتمثل، إما بالبشارة حيث يبشر النبي المخاطبين بهذا الوحي بالجنة إن هم آمنوا وعملوا الصالحات، وإما في النذارة أي ينذر من كان حيّاً ليحق القول على الكافرين، بالتالي، إن الأكيد أن القرآن الكريم ما جاء شقاءً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا لأمته، بل جاء رحمةً وهُدىً ونوراً، (إلا تذكرةً لم يخشى)، فمن يتأمل هذه الآية يضعنا أمام تكليف لا بد أن نتوقف عنده ونلتفت إليه أن القرآن الكريم ليس تذكرةً للغافلين بل تذكرة لمن يخشى، أي يجب أن نذكر الله تبارك وتعالى كلما سمعنا القرآن، بالتالي أن نعيش في حالة ذكر الله عز وجل، لأن هذا هو واجب على كل مؤمن أن يحقق أثر هذا التنزيل، هذا يأخذنا إلى من يجلسون في مجالس القرآن في وقتنا الحاضر نجد انه غالباً لا يتحقق في مجالسهم تلك، ذكر الله تبارك وتعالى، وإنما يتمثلون قدرة القارئ على تحقيق مُرادٍ معين كتقليد شيخٍ معين، فيفقد القرآن بذلك عندهم وظيفته الأساسية والتي هي أن يذكر "من يخشى" أي من يخاف عذاب الله تعالى.
بالتالي، إن المسلم الحق هو الذي يقرأ القرآن قراءةً واعية صحيحة تحترم نص القرآن وترعى وظيفة القرآن، بالتالي، أشرقت دراسات الآيات في معجز البيان القرآني، كذلك منطلقة من التحقيق في أسرار البيان، ودقائقه في متشابهه؛ ليدفعوا بذلك شبه المبطلين من المشككين والطاعنين في كتاب الله وزعمهم الاضطراب والتكرار والإشكال في محكم بيانه، فلمعت درة التنزيل للخطيب الإسكافي، وبرز البرهان في البرهان لتاج القراء الكرماني، وملاك التأويل لابن الزبير الغرناطي، وهكذا امتدت كوكبة العلماء البيانيين؛ ليكشفوا عن بلاغة القرآن وإحكام بيانه وإعجازه، ولقد كان العرب من الصحابة الكرام قبل ذلك، والسلف الصالح يدركون معاني القرآن بسليقتهم اللغوية؛ وبلاغتهم الفطرية؛ فيفهمون من عمق معانيه، ودقائق إعجازه، ما نشأت عليه فطرتهم اللغوية السليمة البليغة في البيان، ولقد كانت بلاغتهم الفطرية في ذلك منقطعة النظير، فنشأ جيل قرآني فريد لامثيل له، تلقى محكم البيان بفطرة البيان، وفطرة الإنسان معاً، فخالط القرآن أرواحهم، ووصل تأثيره إلى شغاف قوبهم، إذ فهموه وعقلوه وحرك فيهم مالم يحرك في الأجيال المتعاقبة كلها، فكان الواحد يرخي السمع لبعض آيات محكمه؛ فيغيره إنساناً آخر يتحرك بالقرآن فهماً وتنزيلاً في واقع الحال، وهذا أمر تتصاغر دونه شوامخ قمم الجبال، هذا الأمر نذر في وقتنا الحالي مع الأسف، يوماً بعد يوم يزداد البُعد عن القرآن ولغة القرآن وروحانيته وبلاغته.
بالتالي، قد تختلف اهتمامات المفسرين؛ نظراً لاختلاف فهمهم، وعمق اختصاصهم؛ فنشأ التفسير الفقهي، الذي يعنى باستنباط الأحكام وتفسيرها، والتفسير اللغوي والبلاغي البياني، الذي يُعنى بالوقوف على دقائق الإعجاز اللغوي ومظاهره، والتفسير الوعظي التربوي، الذي يعنى بهدايات القرآن الروحية، ورسائله التربوية الوعظية، وهذا أمر فيه سعة لأهل التفسير، فالتفسير البياني برز فيه ثلاثة إسهامات متميزة، الأول أنجزه سيد قطب تحت عنوان "في ظلال القرآن" والثاني للدكتورة عائشة عبد الرحمن( بنت الشاطئ) بعنوان "التفسير البياني للقرآن الكريم" والثالث للشيخ محمد متولي الشعراوي وقد كان أقرب إلى الخواطر حول القرآن، وعليه يكون التفسير البياني: هو التفسير الذي يبين أسرار التركيب في التعبير القرآني، فهو جزء من التفسير العام تنصبّ فيه العناية على بيان أسرار التعبير من الناحية الفنية كالتقديم والتأخير، والذكر والحذف، واختيار لفظة على أخرى وما إلى ذلك مما يتعلق بأحوال التعبير.
هنا لا بد أن أوضح بأني لست مفسر قرآني، ولا عالِم أو داعية إسلامي، لكني إنسان محب وعاشق للقرآن الكريم ومؤمن به، كنت ولا زلت وسأبقى محباً له، ولسماعه، خاصة وأني تتلمذت على يد علماء كثر، أستطيع القول إني فتحت اعيني على تفسير "في ظلال القرآن" لسيد قطب، وتفسير الإمام الطبري، وابن كثير، وصفوة التفاسير، والتفسير الكبير لفخر الدين الرازي، حيث ما زلت أقرأه وأنصح به الجميع، وحتى في التلاوة، أحب تلاوة الشيخ الحصري الذي تشعر معه بخشوع كبير وروحانية عالية، وهدوء وسكينة، وتشعر بالفصاحة والبيان في تلاوته، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والقارئ الباكستاني صداقت علي، وهو بالمناسبة تلميذ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، بالتالي، كل ما يتعلق بهذا الموضوع ما سبقه وما يليه هو خواطر تجول في نفسي أحب مشاركتها مع إخواني أينما كانوا، إذ أحاول أن أعيد الاهتمام بهذه العلوم والمعارف على أهميتها، والأهم العودة إلى القرآن الكريم من خلال ما أطرحه للقارئ، في الأشهر الحرم وبداية السنة الهجرية، وارتأيت أن أبدأ هذا العام بهذا المقال الذي يوضح ما أريد إيصاله، فأفضل كلام يمكن أن يُقال في شهر محرم، هو الحديث عن القرآن ومعه وأن نعيش معه خصوصاً ونحن في زمن (غُربة) ليس هجرة وطن فقط، بل غربة الروح عن الجسد، صلة الأرحام، الصداقة، التعاضد والتراحم الذي نفتقده في هذا الزمان، كما أنه زمن يتم فيه استهداف الكتاب الأسمى (القرآن الكريم)، وأهل القرآن إلى جانب استهداف أهل العلم والعلماء الربانيين، فالعودة إلى الأصل الجميل في القرآن الكريم، فلا أعظم من كلام الله عز وجل، وكل عام والأمتين العربية والإسلامية بألف خير، القرآن الكريم ربيع القلوب.
ملحوظة: هذا الجزء، سيعقبه أجزاء قادمة ضمن سلسلة بيانية قرآنية من نور القرآن وبيانه وبلاغته.
التعليقات