شهادات على حركة ضباط العراق الأحرار في 1958


لا عجبّ على مَن لا يزال يعتبر تلك الانقلابات ثورات ويصفها بصفات هي أبعد ما تكون عنها لأنها وكما بينّا من أن قادتها لم يكونوا يفكرون إلا بمصالحهم الشخصية الضّيقة وتبووء المناصب السياسية، وأكثر من ذلك كما ذكرت أن البعض لا يزال يحتفل بذكراها، فعلى ماذا يحتفلون؟
شهد القرن العشرين العديد من الحركات والانتفاضات، ما بين مدنيّة وعسكرية، صُنّفت على أنها ثورات، وكان العراق في القلب من هذه الأحداث، وذلك منذ وقتِ مُبكر، فبالعودة لشهادات المؤرّخ العراقي (خليل إبراهيم حسين)، وهو عميد متقاعد، معروف بميله المُطلَق للمشروع الوحدوي في كتابه (ثورة الشواف في الموصل 1959)، وحيثُ كان من أوائل الضباط الأحرار وشغل منصب معاون مدير الاستخبارات العسكرية بعد حركة تموز/ يوليو.

يقول "دخل العقيد الشواف على عبد الكريم قاسم كاظِماً غيظه وتعانقا وهنأ أحدهما الآخر ولم تطل حال التجمّل إلا ثوان ثم انفجر الشواف قائلاً: لقد آن الأوان يا زعيم كريم للبتّ في تشكيل مجلس قيادة الثورة وتشخيص أعضائه وإعلان مولده في الحال وقبل فوات الأوان. فكشّر عبدالكريم عن ضحكة باهِتة وأومأ برأسه وفأفأ قائلاً: إبحث الموضوع مع عبدالسلام"!!.

ثمّ يُكمل المؤلّف في كتابه موّثقاً "ووصل عبدالسلام وزارة الدفاع في الساعة 11.30 ولاقى الشوّاف، وتبادلا التهنئة وتصافحا ببرودٍ وقال الشواف لعبدالسلام: تقاسمتموها بينكما، الثوار يريدون مجلس قيادة. فابتسم عبدالسلام وقال: اطمئن سيتشكّل وسأبحث الموضوع مع عبدالكريم"!!. يقول المؤلّف "حاول عبدالكريم إرضاء الشوّاف بتعيينه حاكماً عسكرياً فرفض عبدالسلام". ثم يضيف قائلاً: "ولربما كانت مسرحية من إخراج الإثنين وحسب اتفاقهما"!

يسترسل المؤرّخ خليل إبراهيم حسين في صفحات الكتاب (59،58،57،56،55) وما تلاها ويكشف صراع الضباط على المناصِب من مختلف الرّتب الصغيرة والعالية وبالأسماء والثورة لم يمض عليها يوم أو يومين وهي مُهدّدة في أية لحظة بالسقوط نتيجة تحرّك الأسطولين الأميركي والإنكليزي إضافة إلى تحرّك الجيش التركي على الحدود لإجهاضها!

لكي نُنصف البعض ممَن اشتركوا بهذا التغيير الدراماتيكي لمستقبل العراق والعراقيين، علينا أن نعترف بأنه كان للكثير منهم أحلامهم الورديّة إما بالوحدة العربية أو تغيير نظام الحُكم الملَكي الدستوري الوراثي إلى جمهوري رئاسي إنتخابي، متأثّرين بالشعارات التي أطلقتها مختلف الفصائل أو الأحزاب المُتأثّرة بهذا المعسكر السياسي أو ذاك، ولقد كادت تلك الأحلام أو بمعنى أصحّ التطلّعات المشروعة أن تتحقّق بالفعل فيما لو أستبعد الانقلابيون المصالح والمكاسب الشخصية الآنية ، وحكّموا عقولهم بدلاً من عواطفهم في الإنجرار وراء شعارات كانوا فقط مُردّدين لها لا يفقهون أي شيء عن الطُرق المنطقية للوصول إليها وحيثُ أعطت نتائجها العكسية مُكلّفة الشعب العراقي الكثير الكثير.

في شهادة أخرى جاء بها (عبدالجبار العُمر)، حيث جاء في مقدّمة كتاب (الكبار الثلاثة/ ثورة 14 تموز/ يوليو في 14 ساعة) ما يلي "لقد ردّد العقيد عبدالسلام عارف أكثر من مرة في أثناء محاكمته في عهد عبدالكريم قاسم، أن للثورة أسرارها التي لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم وامتنع عن الإجابة على عددٍ من الاسئلة التي وجّهتها إليه المحكمة لأنه اعتبر الإجابة عليها فضحاً لبعض أسرار الثورة". ثم يُكمل المؤلّف في نفس المقدّمة قائلاً "وقد أأاأدّى ذلك إلى أن يحاول كل واحد منهما (يقصد عبدالكريم وعبدالسلام) احتياز كل الثورة لحسابه في أيام سلطانه.

الحقيقة أنه قد تركت المحاولتان، محاولة قاسم أولًا وعارف من بعده آثاراً سلبية عميقة في تدوين التاريخ الحقيقي للثورة ما يجعل الواقع الذي يمكن أن يُقال عنها الآن غريباً على ما استقرّ في أذهان الناس عنها.

في الصفحة (183) من نفس الكتاب يعرض المؤلّف رأي الضباط الأحرار بعضهم بالبعض الآخر قائلاً "روى لي (المقدّم) العميد فاضل محمّد علي قال "جئتُ ومعي النقيب بهجة سعيد من جلولاء إلى بغداد يوم 10 تموز/ يوليو، لنُخبر العقيد عبدالوهاب الشوّاف (بساعة الصفر) ولم نكن نعرف مكان بيته فصحبنا إليه صبحي مدحة السعود في الكرادة، استقبلنا الشوّاف في دارته، وعندما أخبرته أن الثورة ستنفّذ ليلة 13/14 تموز/ يوليو، وأن القائمين بها هما عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وقد جئنا إليك لندعوك إلى التعاون معنا. ردّ الشوّاف "إنني لا أتعاون مع طفلٍ ومجنون، يريد بالطفل عبدالسلام عارف والمجنون عبدالكريم قاسم"!!.

إضافة إلى ذلك ضمنَ الانقلابييون وقوف الأحزاب الثورية مع حركتهم لإنجاحها وهي المحرّك الفعلي للشارع العراقي على الرغم من خروج جماهيره بشكلٍ عفوي حال سماع البيان الأول (للثورة) ، ومن دون الانتظار لأخذ الضوء الأخضر من تلك الأحزاب لما يُعرف عن عاطفة العراقيين وتسرّعهم بالتفاعُل مع الحدث.

الحقيقة أنه لو أن الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام محمّد عارف وأعوانهما ممّن قاموا بالانقلاب وطنيون بحق وإنهم وضعوا حياتهم في الخطر من أجل الوطن لسلّموا السلطة بعد الانقلاب إلى المدنيين حينها وعادوا إلى ثكناتهم كعسكريين مهنيين ، وحقّقوا الغاية الوطنية وأثبتوا للشعب زهدهم بالسلطة وأنهم قاموا بحركتهم من أجل الوطن مقدّمين مُبرّراً أخلاقياً ووطنياً لتغيير الحكم بواسطة الجيش ، مُعلّلين الأمر على أنّ المدنيين حينها لم يكونوا بالقدرة الكبيرة على تغيير النظام على الرغم من سيطرتهم على الشارع العراقي بأحزابهم المختلفة وتأثيرهم في زعزعة الحكومات المُتعاقبة والتي أدّت إلى إلغاء الكثير من القرارات والمعاهدات نتيجة التظاهرات وضغوط الشارع العراقي بحركاته السياسية.

سبق وذكر رفعت الجادرجي نقلاً عن والده السياسي الوطني كامل الجادرجي عند استضافته في برنامج "بين زمنين" الذي كانت تعرضه "قناة أبوظبي الفضائية" في سنة 2001م (مُعدّ ومُقدّم البرنامج هو أحمد المهنا) ما يلي "أرسل عبدالكريم قاسم في طلب الوالد (كامل الجادرجي) وجلس يتحادث معه في أمور الدولة ويتناقش معه على الدستور الجديد للبلاد ، وبعد مرور وقت طويل إستأذن الوالد (كامل الجادرجي) الزعيم للإنصراف لأن موعد نومه قد أزفّ!!، فاستغرب الزعيم وقال: لكننا نتناقش على الدستور، فردّ عليه الوالد قائلاً: لو شعرتُ بأنك صادق في سعيك لإصدار دستور جديد لبقيت معك حتى الصباح"!!.

لقد أجمع المُتحدّثون في برنامج "بين زمنين" من أمثال فالح عبدالجبار (باحث في الفكر السياسي) وحسين الصدر (عميد المعهد الإسلامي في لندن) وفاضل الجلبي (خبير في شؤون النفط) وعبدالكريم الأزري (وزير مالية في العهد الملكي) ونجدة فتحي صفوة (مؤرّخ ومساعد وكيل وزارة الخارجية 1958-1959م) ومير بصري (باحث ورئيس الطائفة الموسوية /العراق) ، على أن السياسيين المدنيين أرتضوا بحُكم العسكر على أمل أن تكون فترة انتقالية بسيطة، لا بل أن العديد منهم دعموا قيادة العسكريين مُبرّرين دعمهم هذا بقدرة العسكريين على الوقوف بوجه التحديات الخارجية والداخلية للجمهورية الفتية.

لقد أكّد قسم آخر من أمثال عبدالرزاق الصافي (قيادي شيوعي) وعبدالستار الدوري (قيادي بعثي وسفير سابق) ومحمود عثمان (سياسي كردي) من أن جبهة الاتحاد الوطني حينذاك لم يكن لديها برنامج عمل ما بعد التغيير!!!، ما أثّر بشكلٍ مباشر على الأحداث وتداعياتها التي تلت (الثورة) ، وأدت بالنهاية إلى الفوضوية في الحُكم وتصارُع الأحزاب في ما بينها للحصول على مكاسب حزبية ضيّقة والتي قادت المجتمع إلى الانقسام على نفسه لتأييد أحد قطبيّ الصراع عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف.

يتبيّن لنا من خلال ما تحدّث به الجميع في البرنامج أعلاه وعلى اختلاف اختصاصاتهم وإنتماءاتهم الفكرية حقيقتين مهمتين مرتبطتين مع بعضهما، أولهما ربط الدفاع عن البلد من قِبَل العسكريين بتصدّرهم للمشهد السياسي واستئثارهم بالسلطة وهذا ما ينافي العقيدة العسكرية المبنية على استقلالية المؤسّسة العسكرية ونقائها من التيارات السياسية ، وكما هو معمول به في كل دول العالم، والحقيقة الثانية هي عدم جاهزيّة الأحزاب الأيديولوجية الثورية للتغيير وتقصيرهم على الرغم من تواجدهم المستمر في الشارع العراقي وتواصلهم المستمر مع قادة الإنقلاب وضباطه، ومعرفتهم المُسبَقة بقرب حدوث التغيير والذي يدلّل على تقاعُس تلك الأحزاب وعدم قراءتها الصحيحة للمستقبل السياسي للعراق ، والكوارث والتبعات المحتملة لدمار البلد في حال بقاء العسكريين في السلطة وهذا ما حدث، فقد ارتضت تلك الأحزاب على تغيير (المريض النفسي) الملكي المُمكن علاجه (بالمجنون) الجمهوري المُستعصي علاجه!!.     

لقد حاول قاسم الظهور بمظهر زعيم الأمّة العربية حيث حاول منافسة عبد الناصر بدعم ثورة الجزائر ودعم المغرب ، وطالب بضمّ الكويت ليس بصيغة الوحدة العربية المُتكافئة بل بأسلوب ضمّها إلى العراق عندما أرسل برقية إلى شيخ الكويت في 20 حزيران/ يونيو 1961 يبلغه بها إلغاء اتفاقية 1899 الموقّعه بين بريطانيا وقائمقام الكويت، أبلغه أن الكويت أرض عراقية وقد عقد مجلس الوزراء العراقي عدّة جلسات لمناقشة كيفية احتلال الكويت، إلا أن طلب بريطانيا تعليق الموضوع حسمَ الموقف لاسيما وأن القوات البريطانية كانت رابضة على مقربة من الكويت في البحرين. أما الكويت فمن جانبها قدّمت شكوى إلى الجامعة العربية التي قرّرت حلّها ضمن أروقة الجامعة العربية ما أدّى إلى امتعاض قاسم و"زعله" حيث لم يجد صدى لزعامته العربية فقرّر الانكفاء وعَزْل العراق عن محيطه العربي والإسلامي.

لقد غلبت على سياسته الخارجية بتبني مواقف مناقضة أو منافسة لسياسة عبد الناصر حيث ألغى عبد الكريم قاسم عضوية العراق في جامعة الدول العربية وأساءت علاقات العراق مع أغلب الدول العربية لأسباب غامضة. وأخذ بدلًا من ذلك بتنمية علاقاته مع المعسكر الشيوعي بناء على مشورة الحزب الشيوعي الذي طالما لعب دوراً في سياسة قاسم الداخلية والخارجية. ومن العوامل الأساسية لعَزْلِ العراق عن محيطة الاقليمي العربي والإسلامي هي عدم إيمانه بالوحدة العربية ولا بالشريعة الإسلامية ، واعتراضه على الانضمام إلى الاتحاد العربي المُسمّى الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 عند زيارة وفد شعبي من الجمهورية العربية المتحدة إلى العراق للتهنئة والمساندة والدعوة للانظمام للاتحاد ، إلى إحباط كبير لدى المواطن العراقي وأعضاء تنظيم الضباط الوطنيين "أو الأحرار" ذلك لأنهم أقسموا جميعاً عند نجاح الثورة بأن يسعوا لانضمام العراق إلى الاتحاد.

نعم كانت مقولة عبد الكريم قاسم لها أثرها السلبي في النفوس وهو في مستهلّ تبووئه لمنصب رئاسة الوزراء ولم تكن هنالك أية مشكلات سياسية بين بغداد والقاهرة، عندما قال "لن أكون تابعاً لأحد" ما أدّى برئيس الاتحاد جمال عبد الناصر بإدلائه بتصريح قال فيه "على الرغم من أن ميثاق الجمهورية العربية المتحدة ينصّ على إجراء الانتخابات الحرة لاختيار رئيس الاتحاد إلا أنني ومن موقعي هذا أتنازل عن رئاسة الاتحاد لفَسْح المجال أمام العراق للإنضمام للجهورية العربية المتحدة مثلما تنازل من قبل الأخ الرئيس السوري القوتلي وبهذه المناسبة أتشرف بدعوة الأخ رئيس الوزراء العراقي الزعيم عبد الكريم قاسم لزيارة القاهرة لترتيب توليه رئاسة الاتحاد".

كان لهذا التصريح صدى كبيراً في الشارع العراقي والعربي إلا أن عبد الكريم قاسم مرة ثانية صرّح بإجابة محبطة قائلا "لن أذهب إلى القاهرة ربما سيتم خطفي أو قتلي". فأحسّ المواطن بأن هنالك سياسة مُبّيتة مبنية على الإصرار بالابتعاد عن المحيط العربي. وتعزّز هذا الاعتقاد عند تنامي الخلافات مع الدول العربية المُحيطة بالعراق ، حيث بدأت تسوء العلاقات بين عبد الكريم قاسم وولي العهد فيصل والرئيس السوري القدسي "قبل مجيء البعثيين لسوريا" والملك حسين بن طلال عاهل الأردن والرئيس المصري عبد الناصر، علاوة على أمير الكويت الشيخ عبد الله السالم الصباح حيث دعا إلى ضمّ إمارة الكويت والتي قرّرت بريطانيا الانسحاب منها بعد أن كانت تحت وصايتها.

في عام 1961 وبعد تنامي عزلة العراق عن الدول العربية والإسلامية، قرّر عبد الكريم قاسم الانسحاب من الجامعة العربية، وعوضاً عن ذلك بدأ ينمّي علاقاته مع تركيا وإيران ومنظومة الدول الشيوعية بزعامة الاتحاد السوفياتي. وقد واجهت حكومة الجمهورية العربية المتحدة سياسة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم وتصريحاته المُتكرّرة عن وجود مؤامرة من دولة الاتحاد المصري السوري لتخريب العراق ، وذلك من خلال سلسلة مقالات وتصريحات أهمها سفير العراق لدى القاهرة فائق السامرائي الذي استقال من منصبه احتجاجاً على "سياسة حكومته المُتخبّطة"، والرسائل المفتوحة التي أرسلتها القاهرة إلى بغداد عن طريق جريدة الأهرام بقلم رئيس تحريرها الإعلامي محمّد حسنين هيكل.

لقد حمل انقلاب 14 تموز/ يوليو 1958م مع بداياته مؤشّرات العنف الدموي والساديّة (قتل العائلة المالكة ابتداء بالملك الشاب وانتهاء بنساء العائلة المالكة وسحل الوصيّ على العرش ونوري السعيد وولده صباح وغيرهم في الشوارع والتمثيل بجثثهم) والذي أوهم فيه الانقلابيون الشعب من أنهم قد قاموا بالانقلاب من أجله الذي خرج بملايينه لمؤازرتهم (العودة إلى بيان الثورة كما أطلقوا عليها الذي أذاعه العقيد عبدالسلام عارف) وساندتهم الأحزاب السياسية الأيديولوجية المرتبطة إما بالأجندات القومية أو الاقليمية أو الأممية وحيثُ لعبت من حيثُ تدري أو لا تدري الدور الرئيس في تدمير العراق وتحييد وطنية أبنائه واستبدالها بأفكار أثبت الزمن بطلانها أو على الأقل بُعدها عن واقع المجتمع العراقي وتكوينه الفريد.

يبقى أنه ما يبعث على الأسى استمرار تلك الأحزاب ومَنْ معها مِنَ المُغرّر بهم من الشعب بالاحتفال السنوي بذكرى الانقلاب أو الانقلابات ونعتها بالثورات بدل الجلوس ومراجعة النفس والاعتراف بشجاعة بالخطأ الذي قامت به تفادياً للوقوع في أخطاء أخرى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن تعنّتهم وتطرّفهم الفكري العاطفي بما يؤمنون به من معتقدات يطغي دائماً على منطق العقل والوطنية الحقّة ، ولهذا نجد مَن أنّ البعض منهم الذي انتمى إلى تلك الأحزاب بدافع حبّه للوطن بدأ بالتجرّد من انتماءاته الحزبية والعودة إلى مساندة المشروع الوطني المجرّد من الشعارات الفكرية الخارجية أياً كان مصدرها.

في النهاية لا عجبّ على مَن لا يزال يعتبر تلك الانقلابات ثورات ويصفها بصفات هي أبعد ما تكون عنها لأنها وكما بينّا من أن قادتها لم يكونوا يفكرون إلا بمصالحهم الشخصية الضّيقة وتبووء المناصب السياسية، وأكثر من ذلك كما ذكرت أن البعض لا يزال يحتفل بذكراها، فعلى ماذا يحتفلون؟ هل يحتفلون على خسارة المجتمع للعوائل العريقة التي هاجرت وسكنت المنافي بين لندن وباريس والتي كان معظم أفرادها من المتعلّمين وحيثُ نعتناها بالأرستقراطية والبرجوازية... أم يحتفلون على خسارتهم للآلآف من المثقّفين وحَمَلة الشهادات الجامعية في مختلف التخصّصات من أبناء الطبقة الوسطى ، الذين قُتلوا أو هاجروا نتيجة المُلاحقات السياسية لتورّطهم بأفكارٍ متباينة قومية أو أممية كانوا يعتقدون بأنها ستخدم الوطن والمواطن ، لكنهم صُدِموا بنتائجها... أم يحتفلون على عودة حياتهم إلى عصر ما قبل النهضة الصناعية، فلا ماء صالح للشرب ولا كهرباء ولا حتى تعليم بحدّه الأدنى، فالأمراض السارية عادت إلى موطنها تفتك بالمواطنين والجهل سيطر بلا منازع طارداً كل فكرٍ نيّرٍ.

نعم لم تكن سياسة قاسم الخارجية مبنية على أساس واضح المعالم منطلقة من أساس فكري ولا من برنامج عمل منظّم، فقد تميّزت بالكيفية والمزاجية منطلقة من "الأنا" أو النرجسية التي ميّزت حقبة قاسم ، انعكس ذلك بشكل قوّي في وضع نفسه بشكل منافس ومعارض ثم خصم وند لجمال عبد الناصر، وذلك لأسباب تتعلّق بنجاحه الشكلي في قيام الجمهورية في مصر وتحويلها إلى بلد مناهض للهيمنة الغربية، ودعوته لقيام اتحاد عربي باسم الجمهورية العربية المتحدة.

من واقع الشهادات السالفة الذكر، أين هي روح التضحية والإيثار من أجل الوطن بين الضباط الأحرار الذين قادوا حركة تموز/ يوليو؟!!، وهل لثورة كما زعموا يُكتب لها النجاح والقائمون عليها يأكلون بعضهم البعض قبل تنفيذها؟!!، ولماذا وضعوا البلد على "كف عفريت" وأوصلوه إلى ما هو عليه الآن؟!!، فالأمر واضح وجلي من أن سبب القيام بالانقلاب هو للسيطرة على الحُكم ولمطامع شخصية واضحة مستغلّين ضعف القوانين والعقوبات والإجراءات الرادعة فيما لو انكشفت غاياتهم، كذلك عدم اتخاذ الإجراءات الصارِمة لرجال الحُكم الملكي ضدهم بدءاً بالملك والوصيّ وحتى نوري السعيد ، عندما وصلتهم بعض الوشايات من أن هنالك انقلاباً وشيكاً سيحدث من قِبَل نفس الإنقلابيين، وعندها اكتفى رجال الحُكم الملكي بالاستفسار من المتهمين عن صحة تلك الوشايات فأنكروها جميعاً وأقسموا على بطلانها ووفائهم للمملكة وملكها!!، كذلك استغل الانقلابيون سخط الشارع العراقي على الحكومة بسبب مواقفها تجاه القضايا العربية المصيرية والاقليمية وتحالفاتها المشبوهة في نظر البعض.

المصدر: الميادين نت