الطقوس ممارسات في الاتجاه المعاكس


إن الله تبارك وتعالى ميّز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى، واصطفاه بالعقل، حيث أعطاه القدرة التي يملكها على عقل الأشياء وترتيبها وفق أهميتها في حياته خاصة الجوهر الديني من خلال نبذ الخرافة والإبقاء على التعاليم السمحة، في جميع الأديان السماوية، وبالطبع التركيز على الإسلامية منها.

 

هذه الموجودات والأشياء التي تناقلتها الأجيال، جيلاً بعد جيل، هي ضرب من الممارسات الرمزية المنظّمة التي ينخرط فيها النّاس جميعهم بكثافة وبمختلف فئاتهم العمرية، وتكاد لا تخلو منها أفعالهم الجماعية الفردية، ألا وهي الطقوس والممارسات الشعائرية، هذا يأخذنا إلى العديد من الأسئلة، منها، أليس الفعل الطقسي لصيقاً بكل الأفعال الاجتماعية وأنّ الاحتفالات الطقسية مناسبات للتعبئة وتجييش الوعي الجمعي بطاقات من المعنى في مجتمعات تتغيّر بسرعة وتعيش أزمة كينونة؟ وهل تنهض الممارسات الطقوسية بوظائف اجتماعية حاسمة فتشبع حاجات كامنة في حياة الجماعات وتدخل في مبادلاتهم المادية والرمزية؟ وهل تٌوظّف ممارسات الطقوس بوصفها وسائل رمزيّة لتأسيس السلطات والمراكز الاجتماعية وإضفاء الشرعية على السلطات وأشكال التمايز القائمة بين الأفراد والجماعات؟ ألا تندرج تلك الممارسات ضمن المساعي الفردية لتعزيز ملكية الثروات الرمزية؟ هي أسئلة شائعة خاصة بين العلماء والمفكرين الذين جاهدوا للحصول على أجوبة منطقية من خلال الإثبات العلمي حول حقيقة الطقوس والشعائر خاصة في المجتمعات الإسلامية.

 

بدايةً لا بد من فهم معنى الطقوس والشعائر في الدلالة والاصطلاح لنعرف كيفية تدويل هذين الأمرين واستثمارهما في مسألة شيوعهما بشكل كبير بين الناس وفي كافة المجتمعات، مفرد الشعائر، شعيرة، أي ما ندب الشرع إليه ودعا للقيام به، قال تبارك وتعالى: (ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)، ففي تفسير ابن كثير على سبيل المثال، (ومن يعظم شعائر الله) أي أوامره، (فإنها من تقوى القلوب) ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن، وجذر كلمة شعائر، شعر، وأما كلمة طقوس فتعني مجموعة من الإجراءات التي يؤديها بعض الأشخاص، والتي تُقام أساساً لقيمتها الرمزية،  ويشير المصطلح عامة إلى مجموعة الأفعال الثابتة والمرتبة، ويُستثنى من ذلك الأفعال التي يقوم بها المؤدون للطقوس اعتباطاً، والطقس هو الترتيب والتنظيم وجذرها "طقس" وتأتي عند الأديان الأخرى كالمسيحية بمعنى نظام العبادات الدينية وأشكالها، كما يأتي بمعنى مشابه أي طريقة العبادات والاحتفالات الدينية عند المسيحيين، تشير لفظة "طقس" إلى الكيفية التي يتمّ بها أداء الأنشطة المقدّسة وتنظيمها في إطار احتفالي، أيضاً الطقس يأتي بمعنى آخر وهو حالة الجو، وهذا الأمر بعيد عن قصدنا في هذا المقال.

 

بالتالي، وبما يتعلق بالطقوس وإقامتها، ليس من السهل بمكانٍ ما الحديث حول الظاهرة الطقوسية أو مقاربتها اليوم، خاصة بما يتعلق بموقع الطقوس والمقدّس في المجتمعات الحديثة وبكيفية مقاربتها علمياً فإذا "كان الدين (الذي يتجسّد دوماً من خلال الطقوس) في مجتمعات التقليد، يجب تبيان الطقس الديني وفرزه عن الاجتماعي، وما هو حقيقي وما هو اتباع لعادات معينة كما أشرت تناقلتها الأجيال، فالطقس يعني من خلال كلّ هذه التعريفات مجموعة من "القواعد" التي تنتظم بها ممارسات الجماعة، إمّا خلال أداء شعائرها التي تعدّها مقدّسة أو من خلال تنظيم أنشطتها الاجتماعية والرمزيّة وضبطها وفق "شعائر" منتظمة في الزمان والمكان. وفي اللغة العربية يشمل مضمون "الطقس" الدلالة على "الشعيرة". ولأن اقترن مدلول الشعيرة في اللغة العربية بما يدلّ على الممارسات المقدّسة التي تدخل المؤمن في حالة القداسة وتجعله يؤتي مناسكه التعبدية، ويحيل أيضاً على المراسيم التي تنجز ضمن التعاليم الدينية للدخول في تجربة القداسة (كتلك المرتبطة عند المؤمنين مثلاً بفرائض العبادات من صلاة وحجّ، وبشعائر الموت والأضحية وغير ذلك)، فالمجتمع مسرح يومي تُّؤدّى فيه الأدوار منتظمة وفق طقوس تفاعلية لا تستوي الحياة الجماعية بدونها، وضمن هذه "اللعبة" إن جاز التعبير يملأ كل فرد موقعاً له ضمن مسرح المكانات، محافظاً خلال ذلك على مقامه ومكانته.

 

من هنا، يتبادر سؤال مهم، ما المراد من الشعائر الإسلامية وما هي كيفيتها في القرآن الكريم؟

 

الشعائر لغة جمع شعيرة وتعني العلامة، وأما اصطلاحاً: المعالم للأعمال و شعائر الله معالمه التي جعلها مواطن للعبادة و كل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو غيرهما، قال تبارك وتعالى : (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما)، ويجب أن نعلم أن هناك شعائر زمانية وأخرى مكانية، الشعائر الزمانية ويُقصد بها الشعائر التي ترتبط بزمانٍ معين، مثل شهر رمضان، الذي نزل فيه القرآن، قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان)، وكذلك الأيام العشر الأولى من ذي الحجة، أما الشعائر المكانية كالمسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي، أما مظاهر شعائر الله، إن الدين الإسلامي هو الدين الباقي إلى قيام الساعة؛ لأنّ الله هيأ الأسباب الشرعيّة لحفظه وبقائه، بالتالي من المظاهر حول ذلك، القرآن الكريم الذي هو أساس وأصل الشعائر، قال تعالى: (إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، أيضاً الصلاة التي نكررها بشكل دائم يومياً خمس مرات، وأيضاً الزكاة التي هي من الشعائر طويلة الأثر وكثيرة الأجر، ويجب أن يكون هذا التعظيم في أداء شعائر الله عز وجل، كما أراده الله وليس بناءً على هوى النفس.

 

بالتالي إن تعظيم شعائر الله واجب على كل مسلم والمساس بها أمر مرفوض جملةً وتفصيلاً، وقد عبر القرآن عن ذلك بلفظ يشمل تلك المعاني وغيرها، ضمن تعظيم شعائر الله التي يجب على المسلمين احترامها وتقديسها بما يوافق المطلوب ويناسب المعبود، وهذا هو مقصد المقاصد وغاية الغايات أن تحترم وتعظم حرمة الله تعظيماً يليق بقدرها وجلالها، إذاً فالشعائر التي أمر الله بها الأصل فيها المنع أي يمنع أن نعبد الله بما لم يأمر به لأنها في هذه الحالة لا تسمى شعائر بل طقوس، التي هي في أساسها رموز لا تحمل فقط دلالات دينية وإنما ترتبط بالعادات والتقاليد والقصص والأساطير وتختلط بالشعائر الدينية حيث ترتفع إلى مستوى العقيدة، فأن تعبد الله بما أمر ونهي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنك بهذا تقيم شعائر الله أما أنك تعبد الله بما لم ينزل به سلطاناً وما ليس لك به علم لا في كتاب الله ولا سنة رسوله فإنك بهذا تقيم طقوس لا علاقة لها بدين الإسلام، فاليوم نجد خلط كبير بين ممارسة الشعائر والطقوس التي مع الأسف في غالبيتها (خرافة)، الشعيرة الإسلامية تتحرك وفق حركة القرآن وسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لتمثل نوعاً من الحركة الشعائرية ضمن أهداف مرسومة لها كشعيرة الحج على سبيل المثال لا الحصر، لكن الطقوس تمثل عادات وأعراف تتحرك في أقوام معينين نتيجة لبيئة اجتماعية وظروف سياسية أو اقتصادية، للكثير من الأمم والحضارات عاداتها وشعائرها كما ذكر ول ديورانت في (قصة الحضارة) ومثالها الواضح المراسيم في دفن الموتى لمختلف الشعوب والأمم. المشكلة تكمن في تحول الطقس إلى شعيرة مقدسة أساسية قد تنسب إلى الشرع فتكون لها الأولوية والأساس في حركة الأمة ووجوب الدفاع عنها فيتحول الهامش إلى أصل تستغرقه العواطف وعندها تخفى الأصول والرسالية والعقل وروح المقاصد فيفقد الدين روحه وقيمه وتسامحه وأدبه فضلاً عما يزرعه من أحقاد وثارات وحواجز ضد الآخرين، فعلى سبيل المثال إن ثورة الإمام الحسين عليه السلام، ثورة علمية، ثورة دينية وثقافية، وإصلاحية، قامت ضد الظلم من أجل الحرية والكرامة والعدالة، وهو شهيد وحفيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن حصل دخول كثير من الطقوس الغريبة كالتطبير والضرب بالحديد والأدماء والمشي على النار وبدأت تتطور في مراحل تاريخية وتتعمق وكأنها جزء من العقيدة والدين وصار لها تأثير كبير في الأمة والأفراد من جوانب متعددة، وهذه حقيقة نجدها في مختلف المناسبات، وفي هذا الصدد نجد الكثير من الأحاديث لم يذكرها مؤرخ ولا مؤلف ولا عالم دين، أي لا إسناد لها، ولابد من دور للواعين والمصلحين من العلماء والمثقفين لمواجهة الانحراف والبدعة والأكاذيب والخرافات وتنقيح الكتب والأحاديث بين الموضوعة والصحيحة وتحويل المنابر من العاطفية والسذاجة والخرافة إلى الرسالية والوعي والعقل والإصلاح.

 

من هنا، إن هذه الممارسات ليست تعظيماً لشعائر الله، طالما هي خلاف القرآن الكريم، فمن يعظم هذه الشعائر لا يخرج عن كتاب الله وتعاليمه، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)، نحن في زمن واعٍ ومنفتح، الجميع بات يميز بين الصحيح والخاطئ، قلة فقط من تنجر خلف المضللين والمشككين بالهوية الإسلامية الحقة، فلا يجب أن نعمل إلا بما أملى كتاب الله علينا وسنة نبيه الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم، لأن ذلك خلاف القرآن وخلاف مقاصد وأحكام الشريعة الإسلامية خاصة والظروف التي نمر بها هذا يسيء للإسلام وأيضاً يسيء لمن نحبهم، فالشعائر واجبة، ويجب عدم الخلط بين العادات الاجتماعية والشعائر، فالأولى تعود للبيئة وللزمان والأمة، أما الأخيرة هي التي تنزل في ميزان أعمالنا.